Saturday, February 26, 2011
السينما تريد تغيير النظام
عندما طلب منى صديقى العزيز، وزميلى ورئيسى فى صفحة الفن ماهر زهدى، أن أكتب عن تصورى حول إصلاح حال السينما المصرية، كدت أن أعتذر لأننى كتبت كثيرا عن هذا الموضوع، وكانت المرة الأخيرة فى العدد 1234 من جريدة العربى، الصادر فى 28 نوفمبر الماضى، وبالطبع ذهبت الكلمات أدراج الرياح، وهو ما يجعلنى أشعر بالسأم من التكرار، ولا أريد أيضا من القارئ أن يشعر أنه قد قرأ هذه الكلمات من قبل. حاول صديقى تذكيرى بأن "مصر قبل 25 يناير غير مصر بعد 25 يناير"، ولم أعرف إن كان يجب علىّ أن أضحك أم أبكى، فبرغم ما فى هذا الشعار من بريق، فإنه بمعايير التغير التاريخى لا يعنى شيئا محددا، فلا الشعوب تتغير بين عشية وضحاها، ولا رياح التغيير تمضى دائما كما تشتهى السفن، فالأمر مرهون بإرادة ملاحيها، وبما يأخذونه من وسائل لتوجيه السفينة إلى مرفأها المبتغى.
أقنعنى صديقى ماهر فى النهاية بأن واجبنا الآن أن ندفع بكل ما نملك من قوة فى اتجاه التغيير المنشود، وها أنا أفعل قدر ما أستطيع، لكنى أذكّر قارئى فقط بأن حسن النوايا لا يكفى، وكم من ثورة أسفرت عن أنه لا جديد تحت الشمس، عندما لم تتوفر أدوات التغيير الحقيقى. وما زلت أومن – وأرجو أن يعذرنى القارئ فى هذا التشاؤم فى فترة يسود فيها التفاؤل – أن الثورات بقدر ما تفجر فى الشعوب أفضل ما فيها من نور ساطع، فإنها تفتح أيضا أنفاقا مظلمة لأسوأ ما فيها، فما تزال فى قصة الثورة المصرية فصول وفصول، يكتبها من يملك وضوح الرؤية وقوة العزيمة. وهناك يا قارئى العزيز من يريد سرقة الثورة، وهناك من يريد إعادة عجلاتها إلى الوراء، وهناك أيضا من سوف يركن سريعا ومرة أخرى إلى اليأس من التغيير للأفضل، حين يتأخر قطف الثمار، أو حين تتسلل الثعالب فى الليل لتلتهمها قبل الأوان.
وعندما نتحدث عن إصلاح حال السينما فلابد أن نتأمل الأبنية المادية والمعنوية التى تقوم عليها، وهى الأبنية التى كانت خلال الأربعين عاما الأخيرة جزءا من سياق أشمل، أدى بالسينما إلى ما آلت إليه من تدهور على مستوى الفن والرسالة بل والمتعة أيضا. فالسينما مثل كل النشاطات الإنسانية الأخرى جزء من كل، وهى لا تستطيع أن تفصل نفسها أبدا عن السياق، فإذا كان سياقا يقوم على النزعة الاستهلاكية الفردية (أو ما أسميه دائما نزعة البحث عن الخلاص الفردى والنجاة من الطوفان)، فلا تنتظر أبدا فنا يسعى إلى أن يخاطب "جمهورا" بالمعنى الحقيقى للكلمة. وكلمة الجمهور هنا تعنى وجود البعد الاجتماعى المشترك بين أبناء الوطن، الذين تجمعهم أحلام وآلام متقاربة، وهناك فنون جماعية بطبعها (لا أقول بأبعادها "الأونطولوجية" حتى لا أتلقى اتهامات من أقرب الناس لى – مثل أخى الأكبر - بالتقعر!)، مثل السينما والمسرح، فهى تعتمد فى تلقيها وتذوقها على اجتماع الجمهور معا فى مكان واحد وزمان واحد، وهو الاجتماع الذى لا يقتصر على الوجود الجسمانى فقط، فالأهم هو الوجود النفسى، إننا فى ظلام قاعة العرض نتخلى عن جانب كبير من فرديتنا ونصبح كلا واحدا، نذرف الدموع معا على البطلة فى محنتها، ونشهق من الخوف فى لحظة مفاجئة من فيلم رعب، أو ننتشى بالشجن فى مشاهد النبل الإنسانى العميق.
إن تلك التجربة المشتركة للتذوق لا تتحقق أبدا وسط جمهور لا يشعر أفراده أنهم جزء من كل، وهذا ما حدث ببساطة للسينما والمسرح خلال الفترة الماضية. فى بداية الستينات طمح الفنان المرهف يوسف إدريس لتأسيس "نظرية" مسرحية عربية، أسماها نظرية "التمسرح"، تقوم على ذلك الذوبان الذى يحدث للمتفرجين فى لحظة التذوق. مرة أخرى فإن هذه التجربة لا تحتاج فقط إلى "عمل فنى"، فالأهم أنها تحتاج إلى "شروط" من خارج الفن: شروط اجتماعية واقتصادية وسياسية، وهى فى كلمة واحدة "المشروع القومى" الذى يوحد أبناء الوطن، وفى غياب مثل هذا المشروع لا تنتظر أبدا أن تجد لعملك الفنى "جمهورا". لذلك فالبداية – وما أصعبها من بداية – لإصلاح حال السينما هى ألا يتصور السينمائيون أن الحل يكمن فقط فى إجراءات جزئية أو فئوية خاصة بهم، وإنما يكمن أولا وقبل كل شىء أن يصبحوا هم أنفسهم شركاء فى "همّ" جماعى مشترك، فى مشروع قومى نتوجه إليه فى المرحلة القادمة. ولنسأل أنفسنا: ماذا نريد حقا للوطن؟ وكيف نحققه؟
ثم يأتى دور الأبنية أو المؤسسات القائمة على صناعة السينما، وليس بجديد القول المأثور بأن السينما فن وتجارة وصناعة، لكن تلك الكلمات الثلاث لا تنفصل عن بعضها البعض، وهى فى الحقيقة عناصر من مفهوم واحد لفن مثل السينما. قد يحتاج ذلك للتوقف قليلا أمام "طبيعة وجود" هذا الفن مرة أخرى: فبينما يمكن لمعظم الفنون التقليدية القديمة أن تُنتج وتُستهلك بشكل فردى (يرسم الفنان التشكيلى لوحته فى الاستوديو، ويشتريها الزبون ويعرضها فى منزله)، فلا يمكن صنع الأفلام أو استهلاكها إلا على نحو جماعى (عشرات ومئات يشتركون معا فى صنع الفيلم، وعشرات وملايين المتفرجين يشاهدونها)، لذلك تحتاج السينما إلى "مؤسسات" للإنتاج والتوزيع والعرض، وتلك جميعا تحتاج إلى التمويل، الذى يبحث بالطبع عن الربح.
هنا يأتى دور السياق الاقتصادى: فى الدول الاشتراكية السابقة كانت "الدولة" هى التى تقوم بذلك، وفى العالم الرأسمالى هناك الشركات الكبرى (تدعى الاستوديوهات، وتصنع سينما التيار السائد)، وإلى جانبها شركات صغرى (تدعى السينما المستقلة أو سينما الفن أحيانا)، ومع قيام الرأسمالية بتجديد نفسها عرفت كيف تصوغ علاقة أنضج بين الكبار والصغار، لأن فى ذلك مصلحة للجميع. لكن ماذا تقول عن نظام اقتصادى هو فى حقيقته "لانظام" كما عاشته مصر فى الأربعين عاما الماضية؟ والنتيجة: شركات عشوائية لأناس قادمين من خارج صناعة السينما، يبحثون عن الربح السريع والاندماج اللذيذ مع عالم الفنانين والفنانات. وفى هذا السياق لا تنتظر من هؤلاء البحث الحقيقى عن مصلحة السينما، فهم سيهربون على الفور منها عائدين من حيث أتوا إذا ما أصبحت عبئا على مصالحهم الضيقة. دعنى أضرب لك مثالا (وهناك غيره عشرات الأمثلة): رجل الأموال كامل أبو على ينتج أول أفلامه "إزاى البنات تحبك" من إخراج أحمد عاطف، فيضع صانعو الفيلم على لسان إحدى الشخصيات جملة يقدمون بها البطلة: "بنت كامل بيه أبو على، الراجل الطيب"، فهل رأيت استخفافا أكثر من ذلك؟ نعم ياصديقى، سوف تتوالى الاستخفافات والسخافات، وفى فيلم "كلمنى شكرا" لخالد يوسف نفس طريقة "النقوط" والتحية للمنتج وشركائه، وفى أفلام السبكى سوف يصبح هذا النقوط نمرة ثابتة. لكن الأفدح أننا لم نلتفت إلى دور رجال المال (من أين أتوا به أصلا؟!!) فى تقويض بعض الثوابت الوطنية، ولكامل أبو على دور لا يضاهى فى هذا المجال، ففى فيلم "أبو العربى" تصبح حرب أكتوبر وشهداؤها مادة لعشرات "الإفيهات" السخيفة، وفى "درس خصوصى" ابتذال بلا حدود لـ"كل" التاريخ المصرى بلا مبالغة. وتبشرك الأخبار الفنية بأن السبكى سوف يصنع فيلما عن ثورة 25 يناير يحمل اسم "حظر تجول"، لأن "كله عند منتجى السينما المصريين لحس عقول"!!
كيف يمكن للسينما المصرية أن تخرج من هذا السجن الذى تفرضه قيود "فلوس" المنتجين والموزعين وأصحاب دور العرض، والذين هم بالمناسبة نفس الأشخاص، فى احتكار يضرب عرض الحائط بأبسط قواعد الرأسمالية المنتجة ذاتها؟!
سوف أحاول فى السطور التالية وضع تصور عام فى نقاط محددة، لعلها أن تساعد على نحو ما فى تحديد طريق لمستقبل السينما المصرية:
1) تكوين اتحاد للسينمائيين يجمع كل أطيافهم، يكون هدفه ليس محاولة العثور على فرص عمل فى المناخ السائد، وإنما تأسيس مناخ جديد يقوم على بعض أو كل النقاط التالية.
2) تأسيس كيان تابع للدولة (وليس للحكومة) تكون مهمته بحث وسائل دعم السينما وصنع الأفلام، مثلما هو الحال فى معظم دول العالم، مثل فرنسا وحتى "إسرائيل". وميزانيته الرئيسية تأتى من تذاكر السينما ويجب أن تعود للسينما وليس لنشاطات أخرى مثلما اعتادت وزارة الثقافة فى إنشائها لكنز "على بابا" المعروف بصندوق التنمية الثقافية. ومن بين مهام هذا الكيان البحث عن مصادر أخرى للتمويل، مثل القنوات الفضائية، ووسائل الإنتاج المشترك التى سوف تتطلب جهودا من وزارة التعاون الدولى أيضا.
3) المطالبة بتنقيح كل التشريعات التى تمثل عبئا على صناعة السينما، أو لا تساعدها على النمو، وفى مقدمتها تقديم كل التسهيلات الممكنة للشركات الصغرى للإنتاج السينمائى، ولإنشاء دور العرض الصغيرة (إننا نحتاج إلى الآلاف منها بمعنى الكلمة)، خاصة فى كل الأحياء والمدن الصغرى وحتى القرى. (بالإضافة إلى الفائدة الاقتصادية الأكيدة حيث سيتزايد الطلب على الأفلام ومن ثم إنتاجها، هناك الفائدة الحضارية التى سوف تعيد مصر إلى القرن الواحد والعشرين).
4) إعادة النظر فى قوانين الرقابة الحالية. وهنا أؤكد أن هذا لا يعنى وجود أى شكل من أشكال الرقابة، فوجود مثل هذه المؤسسة يحمى الفنان من أنواع الرقابة العشوائية التى قد تعرضه للمحاكمة أمام ادعاء أفراد أو هيئات، لتصبح الرقابة فى هذه الحالة هى المسئولة أمام مثل هذه الدعاوى. وربما كان أفضل شكل لها هو أن تتشكل من أبناء الصناعة أنفسهم، بطريق الانتخاب الحر، ويصبح من حق السينمائيين إعادة تشكيلها إذا لم يحقق أعضاؤها الهدف من انتخابهم.
5) إلغاء القيود الأمنية تماما على حق السينمائيين فى تصوير أفلامهم فى أى مكان، فتلك القيود لا تتعارض فقط مع مبدأ حرية التعبير التى لا خلاف عليها، لكنها من أسباب تخلف السينما التسجيلية مثلا، فى وقت أصبحت فيه مادة أساسية حتى فى دور العرض التجارية فى كل أنحاء العالم.
6) العمل الجاد على الجانب التثقيفى من صناعة السينما، بما فى ذلك عقد المهرجانات الجادة ذات الرسالة الفنية الواضحة، وإنشاء "سينماتيك" سينمائى متطور للسينما المصرية والعالمية، حيث يمكن مشاهدة الأفلام ومناقشتها جماعيا وعلى نحو منتظم. كذلك وجود إصدارات سينمائية متخصصة من مختلف مستويات التذوق للجمهور العام والخاص معا.
7) أؤكد من جديد أننا قد لا نحصد الثمار قريبا، فالأمل الحقيقى من وجهة نظرى يبدأ مع معهد حقيقى للسينما، تختفى فيه تماما نزعة اختيار الطلاب على أساس الواسطة أو القرابة، لتكون الموهبة هى المعيار الوحيد. ومن المهم أيضا تنقيح مناهج الدراسة بشكل جاد، ليصبح الجانب العملى هو الأغلب، مع استقدام فنانين أجانب من كل دول العالم (أكرر: فنانين)، فدراسة الفن ليست إتقان الأدوات التى تنتهى إلى وجود حرفيين، لكن تفجير الطاقات الإبداعية يحتاج إلى مران طويل بحق، وبشكل أصيل، وهو يحتاج إلى إضافة جادة لدراسة الفنون الأخرى مثل الفن التشكيلى والموسيقى، ناهيك بالطبع عن الدراما (تلك أضعف نقطة عند فنانينا السينمائيين للأسف).
8) الانفتاح على العالم بكل ما نملك من قوة، لقد أصابنى الأسى (وإن لم أشعر بالمفاجأة) من أن يترشح الفيلم الجزائرى "خارج القانون" هذا العام لمسابقة الأوسكار عن أفضل فيلم أجنبى، بينما خرج فيلمنا "رسائل البحر" من التصفية الأولى. ولنكن صرحاء مع أنفسنا: إننا فى أفضل أحوالنا ما نزال أسرى لسينما الستينات والسبعينات الفنية (فيسكونتى أو فاسبيندر مثلا، كما يبدو فى أفلام داود أو يسرى نصر الله)، بينما الفن السينمائى قفز قفزات إبداعية هائلة سواء فى السينما التجارية أو المستقلة. إننا نبدو كمن ينطق لغة قديمة مهجورة فى عالم أصبح يغير أدوات اللغة كل يوم. إن أردت دليلا على ذلك حاول أن تبحث الآن فى صحفنا عن نوعية الأخبار المنشورة حول مسابقة الأوسكار التى تعقد اليوم الأحد 27 فبراير، ولتسأل نفسك عن نوع التغطية التى تقدمها الصحافة الفنية، وبالمرة اسأل نفسك كم فيلما من الأفلام المتنافسة شاهدناها!!
سوف أنهى مقالى بنفس العبارات من مقالى السابق حول هذا الموضوع: لابد أن يدافع أصحاب المصلحة الحقيقية عن أنفسهم، فهذا الجيل الشائخ الشائه الذى يسود اليوم سوف يزول قريبا، ولا يجب أن نترك أمورنا فى أيدى ورثة هذا الجيل الذين سوف يجعلون الشيخوخة المشوهة علامة على مصر فى أدنى مراحل تحللها فى التاريخ المعاصر. هل نريد سينما أفضل، ووطنا أكثر جمالا وعدلا؟ المشوار طويل نعم، لكن إما هذا أو الرضا بالموت ونحن على قيد الحياة!!
السينما تريد تغيير النظام
عندما طلب منى صديقى العزيز، وزميلى ورئيسى فى صفحة الفن ماهر زهدى، أن أكتب عن تصورى حول إصلاح حال السينما المصرية، كدت أن أعتذر لأننى كتبت كثيرا عن هذا الموضوع، وكانت المرة الأخيرة فى العدد 1234 من جريدة العربى، الصادر فى 28 نوفمبر الماضى، وبالطبع ذهبت الكلمات أدراج الرياح، وهو ما يجعلنى أشعر بالسأم من التكرار، ولا أريد أيضا من القارئ أن يشعر أنه قد قرأ هذه الكلمات من قبل. حاول صديقى تذكيرى بأن "مصر قبل 25 يناير غير مصر بعد 25 يناير"، ولم أعرف إن كان يجب علىّ أن أضحك أم أبكى، فبرغم ما فى هذا الشعار من بريق، فإنه بمعايير التغير التاريخى لا يعنى شيئا محددا، فلا الشعوب تتغير بين عشية وضحاها، ولا رياح التغيير تمضى دائما كما تشتهى السفن، فالأمر مرهون بإرادة ملاحيها، وبما يأخذونه من وسائل لتوجيه السفينة إلى مرفأها المبتغى.
أقنعنى صديقى ماهر فى النهاية بأن واجبنا الآن أن ندفع بكل ما نملك من قوة فى اتجاه التغيير المنشود، وها أنا أفعل قدر ما أستطيع، لكنى أذكّر قارئى فقط بأن حسن النوايا لا يكفى، وكم من ثورة أسفرت عن أنه لا جديد تحت الشمس، عندما لم تتوفر أدوات التغيير الحقيقى. وما زلت أومن – وأرجو أن يعذرنى القارئ فى هذا التشاؤم فى فترة يسود فيها التفاؤل – أن الثورات بقدر ما تفجر فى الشعوب أفضل ما فيها من نور ساطع، فإنها تفتح أيضا أنفاقا مظلمة لأسوأ ما فيها، فما تزال فى قصة الثورة المصرية فصول وفصول، يكتبها من يملك وضوح الرؤية وقوة العزيمة. وهناك يا قارئى العزيز من يريد سرقة الثورة، وهناك من يريد إعادة عجلاتها إلى الوراء، وهناك أيضا من سوف يركن سريعا ومرة أخرى إلى اليأس من التغيير للأفضل، حين يتأخر قطف الثمار، أو حين تتسلل الثعالب فى الليل لتلتهمها قبل الأوان.
وعندما نتحدث عن إصلاح حال السينما فلابد أن نتأمل الأبنية المادية والمعنوية التى تقوم عليها، وهى الأبنية التى كانت خلال الأربعين عاما الأخيرة جزءا من سياق أشمل، أدى بالسينما إلى ما آلت إليه من تدهور على مستوى الفن والرسالة بل والمتعة أيضا. فالسينما مثل كل النشاطات الإنسانية الأخرى جزء من كل، وهى لا تستطيع أن تفصل نفسها أبدا عن السياق، فإذا كان سياقا يقوم على النزعة الاستهلاكية الفردية (أو ما أسميه دائما نزعة البحث عن الخلاص الفردى والنجاة من الطوفان)، فلا تنتظر أبدا فنا يسعى إلى أن يخاطب "جمهورا" بالمعنى الحقيقى للكلمة. وكلمة الجمهور هنا تعنى وجود البعد الاجتماعى المشترك بين أبناء الوطن، الذين تجمعهم أحلام وآلام متقاربة، وهناك فنون جماعية بطبعها (لا أقول بأبعادها "الأونطولوجية" حتى لا أتلقى اتهامات من أقرب الناس لى – مثل أخى الأكبر - بالتقعر!)، مثل السينما والمسرح، فهى تعتمد فى تلقيها وتذوقها على اجتماع الجمهور معا فى مكان واحد وزمان واحد، وهو الاجتماع الذى لا يقتصر على الوجود الجسمانى فقط، فالأهم هو الوجود النفسى، إننا فى ظلام قاعة العرض نتخلى عن جانب كبير من فرديتنا ونصبح كلا واحدا، نذرف الدموع معا على البطلة فى محنتها، ونشهق من الخوف فى لحظة مفاجئة من فيلم رعب، أو ننتشى بالشجن فى مشاهد النبل الإنسانى العميق.
إن تلك التجربة المشتركة للتذوق لا تتحقق أبدا وسط جمهور لا يشعر أفراده أنهم جزء من كل، وهذا ما حدث ببساطة للسينما والمسرح خلال الفترة الماضية. فى بداية الستينات طمح الفنان المرهف يوسف إدريس لتأسيس "نظرية" مسرحية عربية، أسماها نظرية "التمسرح"، تقوم على ذلك الذوبان الذى يحدث للمتفرجين فى لحظة التذوق. مرة أخرى فإن هذه التجربة لا تحتاج فقط إلى "عمل فنى"، فالأهم أنها تحتاج إلى "شروط" من خارج الفن: شروط اجتماعية واقتصادية وسياسية، وهى فى كلمة واحدة "المشروع القومى" الذى يوحد أبناء الوطن، وفى غياب مثل هذا المشروع لا تنتظر أبدا أن تجد لعملك الفنى "جمهورا". لذلك فالبداية – وما أصعبها من بداية – لإصلاح حال السينما هى ألا يتصور السينمائيون أن الحل يكمن فقط فى إجراءات جزئية أو فئوية خاصة بهم، وإنما يكمن أولا وقبل كل شىء أن يصبحوا هم أنفسهم شركاء فى "همّ" جماعى مشترك، فى مشروع قومى نتوجه إليه فى المرحلة القادمة. ولنسأل أنفسنا: ماذا نريد حقا للوطن؟ وكيف نحققه؟
ثم يأتى دور الأبنية أو المؤسسات القائمة على صناعة السينما، وليس بجديد القول المأثور بأن السينما فن وتجارة وصناعة، لكن تلك الكلمات الثلاث لا تنفصل عن بعضها البعض، وهى فى الحقيقة عناصر من مفهوم واحد لفن مثل السينما. قد يحتاج ذلك للتوقف قليلا أمام "طبيعة وجود" هذا الفن مرة أخرى: فبينما يمكن لمعظم الفنون التقليدية القديمة أن تُنتج وتُستهلك بشكل فردى (يرسم الفنان التشكيلى لوحته فى الاستوديو، ويشتريها الزبون ويعرضها فى منزله)، فلا يمكن صنع الأفلام أو استهلاكها إلا على نحو جماعى (عشرات ومئات يشتركون معا فى صنع الفيلم، وعشرات وملايين المتفرجين يشاهدونها)، لذلك تحتاج السينما إلى "مؤسسات" للإنتاج والتوزيع والعرض، وتلك جميعا تحتاج إلى التمويل، الذى يبحث بالطبع عن الربح.
هنا يأتى دور السياق الاقتصادى: فى الدول الاشتراكية السابقة كانت "الدولة" هى التى تقوم بذلك، وفى العالم الرأسمالى هناك الشركات الكبرى (تدعى الاستوديوهات، وتصنع سينما التيار السائد)، وإلى جانبها شركات صغرى (تدعى السينما المستقلة أو سينما الفن أحيانا)، ومع قيام الرأسمالية بتجديد نفسها عرفت كيف تصوغ علاقة أنضج بين الكبار والصغار، لأن فى ذلك مصلحة للجميع. لكن ماذا تقول عن نظام اقتصادى هو فى حقيقته "لانظام" كما عاشته مصر فى الأربعين عاما الماضية؟ والنتيجة: شركات عشوائية لأناس قادمين من خارج صناعة السينما، يبحثون عن الربح السريع والاندماج اللذيذ مع عالم الفنانين والفنانات. وفى هذا السياق لا تنتظر من هؤلاء البحث الحقيقى عن مصلحة السينما، فهم سيهربون على الفور منها عائدين من حيث أتوا إذا ما أصبحت عبئا على مصالحهم الضيقة. دعنى أضرب لك مثالا (وهناك غيره عشرات الأمثلة): رجل الأموال كامل أبو على ينتج أول أفلامه "إزاى البنات تحبك" من إخراج أحمد عاطف، فيضع صانعو الفيلم على لسان إحدى الشخصيات جملة يقدمون بها البطلة: "بنت كامل بيه أبو على، الراجل الطيب"، فهل رأيت استخفافا أكثر من ذلك؟ نعم ياصديقى، سوف تتوالى الاستخفافات والسخافات، وفى فيلم "كلمنى شكرا" لخالد يوسف نفس طريقة "النقوط" والتحية للمنتج وشركائه، وفى أفلام السبكى سوف يصبح هذا النقوط نمرة ثابتة. لكن الأفدح أننا لم نلتفت إلى دور رجال المال (من أين أتوا به أصلا؟!!) فى تقويض بعض الثوابت الوطنية، ولكامل أبو على دور لا يضاهى فى هذا المجال، ففى فيلم "أبو العربى" تصبح حرب أكتوبر وشهداؤها مادة لعشرات "الإفيهات" السخيفة، وفى "درس خصوصى" ابتذال بلا حدود لـ"كل" التاريخ المصرى بلا مبالغة. وتبشرك الأخبار الفنية بأن السبكى سوف يصنع فيلما عن ثورة 25 يناير يحمل اسم "حظر تجول"، لأن "كله عند منتجى السينما المصريين لحس عقول"!!
كيف يمكن للسينما المصرية أن تخرج من هذا السجن الذى تفرضه قيود "فلوس" المنتجين والموزعين وأصحاب دور العرض، والذين هم بالمناسبة نفس الأشخاص، فى احتكار يضرب عرض الحائط بأبسط قواعد الرأسمالية المنتجة ذاتها؟!
سوف أحاول فى السطور التالية وضع تصور عام فى نقاط محددة، لعلها أن تساعد على نحو ما فى تحديد طريق لمستقبل السينما المصرية:
1) تكوين اتحاد للسينمائيين يجمع كل أطيافهم، يكون هدفه ليس محاولة العثور على فرص عمل فى المناخ السائد، وإنما تأسيس مناخ جديد يقوم على بعض أو كل النقاط التالية.
2) تأسيس كيان تابع للدولة (وليس للحكومة) تكون مهمته بحث وسائل دعم السينما وصنع الأفلام، مثلما هو الحال فى معظم دول العالم، مثل فرنسا وحتى "إسرائيل". وميزانيته الرئيسية تأتى من تذاكر السينما ويجب أن تعود للسينما وليس لنشاطات أخرى مثلما اعتادت وزارة الثقافة فى إنشائها لكنز "على بابا" المعروف بصندوق التنمية الثقافية. ومن بين مهام هذا الكيان البحث عن مصادر أخرى للتمويل، مثل القنوات الفضائية، ووسائل الإنتاج المشترك التى سوف تتطلب جهودا من وزارة التعاون الدولى أيضا.
3) المطالبة بتنقيح كل التشريعات التى تمثل عبئا على صناعة السينما، أو لا تساعدها على النمو، وفى مقدمتها تقديم كل التسهيلات الممكنة للشركات الصغرى للإنتاج السينمائى، ولإنشاء دور العرض الصغيرة (إننا نحتاج إلى الآلاف منها بمعنى الكلمة)، خاصة فى كل الأحياء والمدن الصغرى وحتى القرى. (بالإضافة إلى الفائدة الاقتصادية الأكيدة حيث سيتزايد الطلب على الأفلام ومن ثم إنتاجها، هناك الفائدة الحضارية التى سوف تعيد مصر إلى القرن الواحد والعشرين).
4) إعادة النظر فى قوانين الرقابة الحالية. وهنا أؤكد أن هذا لا يعنى وجود أى شكل من أشكال الرقابة، فوجود مثل هذه المؤسسة يحمى الفنان من أنواع الرقابة العشوائية التى قد تعرضه للمحاكمة أمام ادعاء أفراد أو هيئات، لتصبح الرقابة فى هذه الحالة هى المسئولة أمام مثل هذه الدعاوى. وربما كان أفضل شكل لها هو أن تتشكل من أبناء الصناعة أنفسهم، بطريق الانتخاب الحر، ويصبح من حق السينمائيين إعادة تشكيلها إذا لم يحقق أعضاؤها الهدف من انتخابهم.
5) إلغاء القيود الأمنية تماما على حق السينمائيين فى تصوير أفلامهم فى أى مكان، فتلك القيود لا تتعارض فقط مع مبدأ حرية التعبير التى لا خلاف عليها، لكنها من أسباب تخلف السينما التسجيلية مثلا، فى وقت أصبحت فيه مادة أساسية حتى فى دور العرض التجارية فى كل أنحاء العالم.
6) العمل الجاد على الجانب التثقيفى من صناعة السينما، بما فى ذلك عقد المهرجانات الجادة ذات الرسالة الفنية الواضحة، وإنشاء "سينماتيك" سينمائى متطور للسينما المصرية والعالمية، حيث يمكن مشاهدة الأفلام ومناقشتها جماعيا وعلى نحو منتظم. كذلك وجود إصدارات سينمائية متخصصة من مختلف مستويات التذوق للجمهور العام والخاص معا.
7) أؤكد من جديد أننا قد لا نحصد الثمار قريبا، فالأمل الحقيقى من وجهة نظرى يبدأ مع معهد حقيقى للسينما، تختفى فيه تماما نزعة اختيار الطلاب على أساس الواسطة أو القرابة، لتكون الموهبة هى المعيار الوحيد. ومن المهم أيضا تنقيح مناهج الدراسة بشكل جاد، ليصبح الجانب العملى هو الأغلب، مع استقدام فنانين أجانب من كل دول العالم (أكرر: فنانين)، فدراسة الفن ليست إتقان الأدوات التى تنتهى إلى وجود حرفيين، لكن تفجير الطاقات الإبداعية يحتاج إلى مران طويل بحق، وبشكل أصيل، وهو يحتاج إلى إضافة جادة لدراسة الفنون الأخرى مثل الفن التشكيلى والموسيقى، ناهيك بالطبع عن الدراما (تلك أضعف نقطة عند فنانينا السينمائيين للأسف).
8) الانفتاح على العالم بكل ما نملك من قوة، لقد أصابنى الأسى (وإن لم أشعر بالمفاجأة) من أن يترشح الفيلم الجزائرى "خارج القانون" هذا العام لمسابقة الأوسكار عن أفضل فيلم أجنبى، بينما خرج فيلمنا "رسائل البحر" من التصفية الأولى. ولنكن صرحاء مع أنفسنا: إننا فى أفضل أحوالنا ما نزال أسرى لسينما الستينات والسبعينات الفنية (فيسكونتى أو فاسبيندر مثلا، كما يبدو فى أفلام داود أو يسرى نصر الله)، بينما الفن السينمائى قفز قفزات إبداعية هائلة سواء فى السينما التجارية أو المستقلة. إننا نبدو كمن ينطق لغة قديمة مهجورة فى عالم أصبح يغير أدوات اللغة كل يوم. إن أردت دليلا على ذلك حاول أن تبحث الآن فى صحفنا عن نوعية الأخبار المنشورة حول مسابقة الأوسكار التى تعقد اليوم الأحد 27 فبراير، ولتسأل نفسك عن نوع التغطية التى تقدمها الصحافة الفنية، وبالمرة اسأل نفسك كم فيلما من الأفلام المتنافسة شاهدناها!!
سوف أنهى مقالى بنفس العبارات من مقالى السابق حول هذا الموضوع: لابد أن يدافع أصحاب المصلحة الحقيقية عن أنفسهم، فهذا الجيل الشائخ الشائه الذى يسود اليوم سوف يزول قريبا، ولا يجب أن نترك أمورنا فى أيدى ورثة هذا الجيل الذين سوف يجعلون الشيخوخة المشوهة علامة على مصر فى أدنى مراحل تحللها فى التاريخ المعاصر. هل نريد سينما أفضل، ووطنا أكثر جمالا وعدلا؟ المشوار طويل نعم، لكن إما هذا أو الرضا بالموت ونحن على قيد الحياة!!
Subscribe to:
Posts (Atom)