Wednesday, April 04, 2012
كشرى السينما المصرية
"الكشري" وجبة طعام مصرية، ذات مذاق لاذع، ولعل هذا المذاق هو الذي يخفي فقرها إلى اللحوم أو أي عنصر دسم، لكنه محبوب لدى مختلف الطبقات، لا فرق في ذلك بين غني وفقير، وإذا فكرت أن تعد مكونات هذا الطبق لاستولت عليك الحيرة، فهو مكون من العديد من الأطعمة النباتية، ومن المفارقات أن "الكشري" – تلك الوجبة التي تلقى هوى لدى كل المصريين، والعرب أيضا – أصبح السمة المميزة للسينما المصرية!!
تتميز كل صناعات السينما في العالم بأنها تعتمد إلى حد كبير على ما يسمى "الأنماط الفيلمية"، وهي أنواع "الحواديت" السينمائية التي أصبحت مادة راسخة وثابتة، فأنت تدخل دار العرض لتشاهد – مثلا – فيلما تسجيليا، مثل فيلم مايكل مور "فهرنهايت 911"، ولابد أنك تتوقع عندئذ مادة سينمائية مختلفة عما سوف تشاهده لو قررت أن ترى فيلما روائيا من نوعية الخيال العلمي مثل فيلم سبيلبيرج "إي تي". النمط الفيلمي إذن هو الذي يحدد لك من البداية طريقة تذوقك للفيلم: هل سوف تعتبره وقائع حقيقية تم تسجيلها على شريط سينمائي، أم أنك سوف تلعب مع الفيلم لعبة تصديق ما تراه برغم أنك تعلم يقينا أنه من صنع الخيال؟
لكن الفيلم التسجيلي من جانب، والروائي من جانب آخر، ليسا إلا نمطين شديدي العمومية، ففي السينما الروائية ذاتها عشرات الأنماط الفيلمية، وداخل كل نمط هناك العديد من الأنماط الفرعية، ولعل أشهر مثال يمكن أن نستخدمه في هذا السياق هو فيلم "الويسترن"، أو ما نسميه "أفلام الشجيع"، التي تتحدث عن بطل أبيض يذهب إلى مناطق جديدة، ليواجه مصاعب قسوة الطبيعة، والهنود الحمر، والخارجين على القانون، ولأنه يمثل التمدين والأخلاق – كما يصوره الفيلم – فإنه ينتصر في النهاية. عرف هذا النمط تحولات عميقة على مر الزمن، فإذا كان الممثل الأمريكي جون وين قد ظل طويلا نموذجا لهذا البطل، كما في فيلم "عربة السفر"، فإن هناك التنويع الإيطالي الذي يعرف باسم "ويسترن سباجيتي" الذي برع فيه المخرج سيرجي ليوني، حيث لا يوجد خير وشر، بل صراع قاس بين الجميع للبقاء على قيد الحياة. ثم يأتي كلينت إيستوود (البطل السابق في أفلام ليوني) ليخرج فيلمه "الذي لا يمكن غفرانه"، وفيه نرى فى لمحة نادرة "كاوبوي" زنجيا، لكن الأهم هو تلك المسحة المأساوية التي تغلف عالم الفيلم كله. وأخيرا فإن كيفن كوستنر قدم معالجة متفردة في "الرقص مع الذئاب"، لنرى رؤية متعاطفة مع الهنود الحمر، الشعب الأصلي لأمريكا، حيث لا يظهرون باعتبارهم خطرا جاثما ينذر بالشر.
من نمط "الويسترن" وتنويعاته تدرك أن أي نمط فيلمي يعتمد على شخصيات ومواقف شبه ثابتة، ومصدر متعة المتفرج في الفرجة عليها هو أنه يتوقع نهايات معينة، غير أن الفيلم يتلاعب بها لتزداد المتعة. لكن السينما المصرية نادرا ما تلجأ إلى وضع فيلم ما في نمط محدد، برغم العديد من المحاولات طوال تاريخها. ومن الغريب أن تبدأ السينما المصرية بنوع من محاكاة "الويسترن"، في شكل عربي خالص، يمكن أن تسميه "الأفلام البدوية"، التي كانت في الأغلب متأثرة أيضا بأفلام رودولف فالانتينو، ليظهر بدر لاما في أول أو ثاني أفلام السينما المصرية، في الفيلم الذي أخرجه شقيقه ابراهيم لاما "قبلة في الصحراء". وبرغم عودة هذا النمط في أفلام نيازي مصطفى التي تتحدث عن بطولات عنترة بن شداد، فإن التحديث الذي طرأ على العالم العربي خلال القرن العشرين لم يترك فرصة لهذا النمط أن يعيش طويلا، ليحل محله تنويع مصري خالص، هو أفلام "الفتوات"، التي برع فيها نيازي مصطفى أيضا، وكتب سيناريوهات العديد منها الروائي نجيب محفوظ.
لكنك إن دققت النظر في هذه الأفلام البدوية، ثم أفلام الفتوات، سوف تجدها تحتشد بالكثير من عناصر الأنماط الأخرى، وهنا نطرح السؤال الذي نعرف الإجابة عنه مقدما: هل يكاد أن يخلو فيلم مصري من الكوميديا؟ ولماذا تبدو الأغنيات عنصرا ثابتا في معظم الأفلام المصرية؟ وكيف تصبح "الخناقة" والمطاردة فقرات لا مفر منها في أي فيلم مصري؟ ألا تسيطر الميلودراما الفاجعة الفاقعة على حبكة الكثير من الأفلام المصرية؟ والإجابة على هذا كله هي: إنها "كشري" السينما المصرية!!
لقد دخلت الكوميديا إلى السينما المصرية قادمة من المسرح، مع أمين عطا الله ونجيب الريحاني وعلي الكسار، ومن بعدها لم تخرج من الأفلام إلا نادرا. كما تسللت الميلودراما من المسرح أيضا، خاصة مع يوسف وهبي. أما الأغنية فقد جاءت من رغبة المتفرج في أن يرى مطربيه ومطرباته المحبوبين، أم كلثوم في "وداد"، ومحمد عبد الوهاب في "الوردة البيضاء"، ومن بعدهما تدفق عشرات من فرسان وفارسات الغناء، وحتى في الأفلام غير الغنائية لابد من أغنية، ولعل أشهر مثال على ذلك هو فيلم "العزيمة"، الذي يُعتبر أول أفلام الواقعية المصرية، ومع ذلك فإن الفيلم يتضمن أغنية بطريقة "الدوبلاج" على صورة الممثلة فاطمة رشدي!!
ليس غريبا إذن أن ترى هذه "التوليفة" في الكثير من أفلام السينما المصرية بمختلف أنماطها، فالفيلم شبه المجهول لصلاح أبو سيف "الصقر" يبدو في ظاهره فيلما بدويا، وإن كان ذا ظلال سياسية تتحدث عن ضرورة الوحدة أمام الخطر الأجنبي (في إشارة قوية لفلسطين)، لكن الفيلم يستخدم الأغنية على نحو فريد، في مفارقة طريفة ومريرة في آن واحد، فإذا كانت القبائل اللاهية تغني في فرح "ياصحرا المهندس جاي"، فإن المتفرج يعلم أن هذا "المهندس" ليس إلا مستعمرا متخفيا!! وفيلم صلاح أبو سيف أيضا "شباب امرأة" يبدو مغرقا في واقعية من نوع خاص، وهو يتحدث عن امرأة في منتصف عمرها تغوي الشباب الغض لترميهم بعدها (كأنها إشارة للحياة ذاتها)، لكن الفيلم يستخدم المطربة شادية لتغني بضع أغنيات لا علاقة لها بسياق الفيلم على الإطلاق! وعندما يفكر المخرج السيد بدير في صنع أول أفلام الرعب المصرية في "ليلة رهيبة"، فإنه يجعل بطلة الفيلم شريفة فاضل تسترسل في الأغنيات، حتى لو أدى ذلك لانقطاع سير الأحداث!
يبدو هذا "الكشري" السينمائي متأثرا أكثر بمخاوف المنتجين من فشل أي فيلم مصري، إن لم يشمل التوليفة المعتادة، حتى لو تناقضت مع عالم الفيلم ذاته. لكن ذلك كان تأكيدا على ذوق المتفرج المصري والعربي، وعندما يكون الفنان واعيا بهذا الذوق فإنه يستطيع أن يتوجه له دون أن يفقد رسالته الأكثر عمقا. إن فيلم يوسف شاهين "عودة الابن الضال" نموذج واضح على ذلك، فهو يتضمن الأغنية، والخناقة، والميلودراما، والكثير من عناصر الفرجة المصرية الأخرى (من بينها الأراجوز الشعبي)، ليحاول تقديم رسالة تحذير سياسية عن مستقبل ينذر بالصدام الدموي، وإن كان الفيلم قد فقد الكثير من قدرته على التأثير بسبب المونتاج المتلاحق اللاهث الذي كان من سمات يوسف شاهين السلبية. كما أن فيلم على بدرخان "شفيقة ومتولي" يعيد صياغة الحكاية الشعبية، ليحكي عن رسالة عن قمع الوطن والمرأة معا، لكنه يعمد إلى استخدام الأغنية والرقص والكوميديا والراوي الشعبي في مزيج رائق راق. (من الملاحظات الجديرة بالذكر أن صلاح جاهين اشترك في كتابة سيناريو هذين الفيلمين السابقين). وأخيرا فإن فيلم داود عبد السيد "مواطن ومخبر وحرامي" يستخدم العديد من عناصر هذه التوليفة (من مفاجآت الفيلم استغلاله لشهرة المغني الشعبي شعبان عبد الرحيم استغلالا ذكيا!)، ليشير إلى أن الواقع ذاته أصبح خليطا من عناصر غير متآلفة، تغلب عليها السوقية والتفاهة من جانب، وتعمد تشويش التناقضات السياسية والاجتماعية، حتى يصعب التعامل معها بالتحليل والتغيير.
"الكشري" السينمائي المصري قد يبدو في بعض الأحيان عائقا أمام الإبداع الفني الأصيل، مدفوعا فقط بالرغبة في تحقيق نجاح تجاري، لكنه أيضا قد يكون وعاء لرسالة فنية وسياسية جادة، بشرط وعي الفنان برسالته من جانب، والتوجه لذوق الجماهير من جانب آخر. ليس العيب إذن في "الكشري" ذاته، ولكن فيمن يصنعه!!
Subscribe to:
Posts (Atom)