Wednesday, July 20, 2011
أسطورة البطولة المطلقة
شاعت في الفترة الأخيرة في الصحافة الفنية المصرية تعبيرات غريبة، إن كانت قد فاتت على صحافي مبتدئ فلا ندري كيف فاتت على الصحافيين الكبار، مثل تعبير "السيرة الذاتية"، التي يقصدون بها الأعمال التي تتناول سيرة حياة أحد المشاهير، أما "الذاتية" فلا تطلق إلا على من يكتب سيرة حياته بنفسه. وبالمثل أصبح تعبير "البطولة المطلقة" شائعا بدرجة تثير الضحك، وهو تعبير لا يمكن ترجمته إلى أي لغة في العالم، فهل يعنون به أن الممثل الفلاني أو الممثلة الفلانية سوف تمثل الفيلم وحدها، بدون أبطال آخرين أو شخصيات ثانية أو ثانوية، أو ربما أيضا بدون ديكور أو "أكسسوار" ما دامت البطولة "مطلقة"؟!!
يتجاهل هذا التعبير – ولعله يجهل – أن السينما، كأي نشاط في الحياة، لا تعتمد أبدا على أي وجود "مطلق" لشخص ما، ولا يمكن لجسد أن يعيش بنوع واحد من الخلايا أيا كانت درجة أهميتها. ودائما ما كانت الأدوار الثانية والثانوية في الأفلام عميقة التأثير على البناء الكلي للفيلم، ناهيك عن أن هناك أفلاما – ربما توقفنا عندها في مقال لاحق – تقوم على عدم وجود "بطولة" من أي نوع لشخصياتها. تعال نتذكر مثلا عبد الوارث عسر في دور الأب لعبدالحليم حافظ في "الوسادة الخالية"، دور قصير لكنه يجعل قصة الحب تقف على أرض الواقع الخاص بالطبقة المتوسطة آنذاك، و"التيمة" الرئيسية للقصة هي ذلك بالتحديد: أنه لا وجود حقيقيا لأي قصة حب إذا لم تضرب بجذورها في واقع الحياة.
أعرف أنك تملك ياعزيزي القارئ عشرات الأمثلة على هذه الأدوار الثانية المهمة، مثل حسين رياض في "شارع الحب"، أو زكي رستم في "الفتوة"، أو فريد شوقي في "السقا مات" أو "خرج ولم يعد"، أو صلاح منصور في "الزوجة الثانية"، ومئات الأدوار الأخرى. إننا نتحدث هنا عما يسمى "الأدوار المساعدة"، التي أصبحت من الأهمية بحيث يخصصون لها جوائز خاصة في المهرجانات العالمية. وفي الأغلب الأعم فإنها الأدوار التي تصبح نمطية، وتلتصق بالممثل من فيلم إلى آخر، مثل دور الأب والأم والحماة والصديق (السنّيد) والطبيب والشرير والراقصة، إلى آخر هذه الشخصيات، لكن قيمة الممثل الحقيقية تأتي من قدرته على تقديم تنويعه الخاص لهذه الشخصية النمطية، وخروجه أحيانا منها لكي يؤدي أدوارا أكثر عمقا ورحابة.
من بين من قاموا بالدور النمطي لشخصية تلقي بظلال قاتمة على الحبكة صلاح نظمي مثلا، فهو "العزول" بين الحبيبين، وعندما تقدمت به السن قدم فيلم "الجحيم" في دور الزوج الثري الذي تعتبره الزوجة وعشيقها عقبة في طريقهما فيقرران التخلص منه. لكن تأمل كيف أخذ عادل أدهم هذه الشخصية نفسها لتصبح أكثر تأثيرا، في بعض الأحيان من خلال المبالغة الكاريكاتورية المقصودة، وأحيانا أخرى بإضفاء ملامح إنسانية مرهفة عليها. من جانب آخر كان أشهر أشرار السينما المصرية هو محمود المليجي، الذي تكفي نظرة عينه، ورفع حاجبه، لترتعد فرائص ضحيته، لكن انظر كيف أنه قام بأدوار بالغة الرهافة والقوة معا في "الأرض" مثلا، حتى أن الفلاح محمد أبو سويلم أصبح "فولكلورا" لدى جمهور السينما العربية، ورمزا لمقاومة الرجال للظلم والقهر. هل أذكرك أيضا بممثل اسمه "عدلي كاسب"؟ تراه في فيلم "السفيرة عزيزة" في دور الجزار الذي يسيطر على شقيقته (سعاد حسني) طمعا فيما ورثته، حتى أنه يكاد أن يمنعها عن الزواج من الجار الطيب حبيب القلب (شكري سرحان)، ففي هذا الدور يصبح عدلي كاسب كالعاصفة الهوجاء التي لا تبقي ولا تذر، لكنه يظهر على العكس تماما في أفلام كوميدية مثل "عائلة زيزي" أو "سر طاقية الإخفاء".
هؤلاء الممثلون الذين يجري تصنيفهم على أنهم ممثلو الأدوار الثانية هم الرصيد الحقيقي الذي تملكه أي صناعة سينما، وبدونهم تصبح الأفلام "استعراض الشخص الواحد" كما هو الحال اليوم في صناعة السينما المصرية. وبقدر اتساع قاعدة هؤلاء الممثلين في الماضي ضاقت رقعتهم اليوم بشكل لا يصدق، إن أردت مثلا واحدا لشخصية أكبر في العمر فلن تجد سوى حسن حسني، وأحيانا صلاح عبد الله، وهما لا يفعلان سوى إلقاء سطور الحوار بطريقة هزلية وبدون الإحساس بأي شخصية فنية مرسومة لدوريهما، ليس لأنهما يفتقدان موهبة وحرفة التمثيل، فحسن حسني هو الذي أدى دور "رُكْبة" في فيلم داود عبد السيد "سارق الفرح"، ذلك الرجل الأعرج الذي يتمنى أن يطير في أجواز الفضاء، وصلاح عبد الله هو "المخبر" في فيلم داود أيضا "مواطن ومخبر وحرامي"، ليصبح معادلا لسلطة ثقيلة اليد بليدة الفكر.
بل إن أهمية أصحاب الأدوار الثانية تأتي أيضا من أنها مرحلة التكوين لقطاع كبير من الممثلين والممثلات، وربما كان النموذج الأهم هو فريد شوقي، الذي بدأ رحلة حياته في أدوار بلا اسم، حيث كان يطلق عليه فقط "رجل العصابة"، وعبر سنوات أثبت أنه قادر على أداء أدوار أكثر تركيبا، ليصبح في مرحلة لاحقة "ملك الترسو" بتعبيرات تلك الأيام. كذلك اسماعيل ياسين الذي استمر عشر سنوات في أدوار صغيرة قبل أن يصبح أول ممثل مصري تكون له سلسلة أفلام تحمل اسمه الحقيقي. وهو الأمر الذي ظل القاعدة لسنوات طويلة في السينما المصرية، فقد انتقلت شادية مثلا من دور الأخت أو الصديقة إلى أدوار البطولة، كذلك فؤاد المهندس ومحمد عوض اللذين كانت لهما أفلامهما الخاصة بهما، بعدما كانا مجرد مضحكين صغيرين في عشرات الأفلام. وحتى السبعينيات كان نور الشريف أو عادل إمام يقومان بهذه الأدوار الثانية، قبل أن يصبح الأول بطلا في عشرات الأفلام الجادة، ويحتل الثاني قمة الأفلام الكوميدية التي ما يزال يتشبث بها. لكن ما الذي حدث في الفترة الأخيرة؟
إن شئت الحقيقة فإن ما حدث في السينما كان انعكاسا لما يحدث في المجتمع ككل، فإذا لم تكن القيمة الوحيدة للإنسان مستمدة مطلقا من موهبته أو مهاراته، بل من السلطة التي يملكها، سلطة الحكم أو سلطة المال، وحيث تختفي كل المعايير الحقيقية والعادلة التي تسمح بالصعود الاجتماعي لمن يستحق ذلك بالفعل، فقد ظهر السعي إلى تلك الأسطورة التي تحمل مصطلح "البطولة المطلقة". ومثلما تجد في واقع الحياة "أبطالا مطلقين" ظهروا فجأة على سطح عالم السياسة والمال، بدون أن تعرف من اين أتوا بما يملكون، فإن الكثيرين من العاملين في مجال السينما تملكتهم هذه الرغبة أيضا في الصعود بأي ثمن.
بالأمس حاول ممثل مثل طلعت زكريا أن ينتقل من صفوف الممثلين الثانويين إلى صفوف البطولة، وليس في هذا أي عيب، لكن المشكلة تأتي من استخدام وسائل بعيدة تماما عن الفن والموهبة، ولعلك تعرف ما آلت إليه محاولاته الآن. وفي سياق قريب تجد محاولات الصعود من رامز جلال، وماجد كدواني، وخالد سرحان، وعشرات غيرهم، وكانت جميعا محاولات فاشلة.
السبب ليس أنهم أقل في إمكاناتهم ممن أصبحوا أبطالا لأعمال فنية، لكن السبب يكمن في السياق العام، سياق يقلل من أهمية الأدوار الثانية والثانوية برغم أهميتها. تأمل مثلا كيف أن ميريل ستريب، الممثلة والنجمة، لا ترفض أدوارا مساعدة في أفلام مثل "ساعات" أو "اقتباس"، كذلك فرانسيس ماكورماند في "تربية أريزونا"، أو صامويل جاكسون في "قصة شعبية رخيصة"، أو جورج كلوني وبراد بيت ومات ديمون في سلسلة أفلام "عصابة أوشان".
كلمة السر هنا هي أنه لا يوجد شيء اسمه "البطولة المطلقة"، وفي الحياة والفن توجد أعمال حقيقية يقوم فيها كل منا بدوره، لا فرق بين دور كبير أو صغير، وقد تتغير الأدوار من وقت إلى آخر، ليس المهم من قام بالبطولة، لكن المهم أن ينجح العمل ككل، وهذا ما يجب أن نسعى إليه، أن تكون لدينا أفلام، وأن يكون لدينا وطن.
Subscribe to:
Posts (Atom)