هوجمت بضراوة أفلام عيد الأضحى حتى قبل أن يراها المتفرجون، وكان الدافع إلى ذلك هو ذلك السيل المنهمر من المقدمات الإعلانية التي عرضت على شاشات القنوات الفضائية المصرية، وعلى حين بدت هذه الأفلام مستفزة لأغلب المشاهدين، فإن معظمنا لم يطرح السؤال الأهم: إذا كان لدى المتفرج – في التحليل الأخير – حرية الاختيار في أن يذهب إلى دار العرض، فلماذا تجعله هذه المقدمات الإعلانية يخسر هذه الحرية رغما عنه، إذ تقتحم عليه وعلى أطفاله حياتهم في كل ساعات يومهم؟ ومن ذلك الذي صرح بإذاعة هذه الإعلانات على هذا النحو أصلا؟
ربما كان السؤال الأكثر دقة: ما هي تلك الجهة الغائبة عن التأثير، أو حتى الوجود، لتسمح أو تمنع ظهور المقدمات الإعلانية؟ ففي كل بلاد الدنيا المتحضرة، تخضع المقدمات الإعلانية لرقابة أقسى من الفيلم نفسه، وأنت لا تستطيع أن ترى إعلانا لفيلم أمريكي دون أن تسبقه بطاقة تصنيفه، حسب الجمهور الملائم لمشاهدة الإعلان، خاصة عندما يذاع في التليفزيون دون استئذان. فربما كان الفيلم نفسه يحتوي على قدر كبير من محظورات العنف أو الجنس، لذلك فإن من غير المسموح أن يقتحم الإعلان حياتك ليعرض لك أو لأطفالك مشاهد غير ملائمة، لكن في بلادنا فإن كل شيء للأسف يترك على عواهنه، ثم بعد ذلك نشكو من إسفاف الأفلام ونغض الطرف عن إسفاف الإعلانات عنها!!
لقد أصبحت المقدمة الإعلانية في كل صناعات السينما هي الوسيلة الأهم في تعريف المتفرج بالفيلم، حيث اختفت أو كادت إعلانات الصحف والمجلات، وربما كانت هناك أيضا مواقع على الإنترنيت تحتشد بعشرات الآلاف من هذه الإعلانات. لكن مشاهدة إعلانات الأفلام الأجنبية يجعلنا نشفق على أنفسنا من الحال الذي وصلنا إليه، على مستوى الشكل والمضمون معا. ولعل أكثر ما يستفز الناقد في هذا السياق أن يكون الإعلان عن الفيلم الأمريكي مثلا عملا فنيا قائما بذاته (في العادة يقوم به فنانون متخصصون في ذلك)، بينما لا يتعدى الإعلان عن الفيلم المصري (إلا فيما ندر) مجرد قصاصات تم اختيارها بشكل عشوائي، والهدف منها أساسا هو عرض "البضاعة" التي يتوقع المتفرج أن يراها في الفيلم.
وأبسط متطلبات أي مقدمة إعلانية أن تجعلك أقرب إلى موضوع الفيلم دون الإفصاح عن مضمونه، فدعنا نحاول أن نخمن موضوعات أفلام العيد من إعلاناتها. هناك في البداية ثلاثة أفلام تدور في عالم الراقصات، اللائي يصحبهن أحيانا "بلطجية"، وفيلم رابع يبدو مبشرا قليلا، إذ يبتعد عن هذا العالم الذي أصبح في السينما المصرية تقليديا. هناك مثلا في فيلم "القشاش" إشارة إلى أن البطل يحمل هذا الاسم لأنه لقيط عثروا عليه رضيعا في عربة قطار، وهو الآن بلطجي يخوض المعارك بالساطور أحيانا، وهو الساطور ذاته الذي يرقص به مع راقصة "شعبية" (أرجو أن تتغاضى قليلا عن هذه الصفة الزائفة)، ويبدو على علاقة بها، لكنها تحذره من امرأة أخرى لأنها غير منجذبة للرجال، وأنت تفهم الباقي بالطبع.
هذا هو كل ما في "القشاش"، أما في فيلم آخر يحمل اسم "8%" فأنت أمام أسوأ ما أنتجه "الفن" المصري في الفترة الأخيرة، إذا اعتبرت أن هذا نوع من الفن، وهو فرقة من مغنيي الأفراح الرخيصة تحمل نفس عنوان الفيلم، لا يملك الواحد منهم الحد الأدنى من شروط فن الغناء، ويصنعون دائما شرائطهم بطريقة تشويه الصوت بحيث يصبح معدنيا منفرا، لكن الأسوأ من ذلك كله هو أن يطلقوا على ما يصنعونه أغاني "مهرجانات"، وتردد بعض الصحافة الفنية هذا الاسم، بما يجعلك أقرب إلى التشاؤم بشأن مستقبل الفن في مصر، وربما مستقبل أشياء أخرى أيضا. ويقول لك الإعلان أن هذا الفيلم يدور عن "رحلة كفاح" هذه الفرقة، تصحبها فتاة هي سائقة "توك توك"، وكيف أن وجودها كان عاملا للصراع بينهم أحيانا، وتوحيدهم أحيانا أخرى.
من المؤكد أن مثل هذا الشريط (ولا نقول الفيلم) قد تم صنعه ليضم بعضا من أغنيات هذا الثلاثي المثيرة للنفور عند البعض منا، بينما يأتي فيلم "عش البلبل" (وهو أكثر هذه الشرائط نجاحا في شباك التذاكر) ليضم مجموعة أكبر من المغنين والراقصات. ولا تحاول أن تبحث عن موضوع للفيلم في مقدماته الإعلانية رغم كثرتها المفرطة، فبعضها يحتوي على أغنيات في الملاهي الليلية قد تمتد إلى خمس دقائق، فكأن الإعلان يقول لك: إن كنت لا تملك المال للذهاب إلى مثل هذه الملاهي، فسوف نجعلك تشاهدها بثمن تذكرة سينما فقط!! لكن هناك أيضا لقطات محاكاة ساخرة من أفلام قديمة وجديدة، بدءا من "شارع الحب" وحتى "عبده موتة" و"قلب الأسد".
يأتي الفيلم الرابع "هاتولي راجل" ليعرض عليك فكرته في غموض بالغ، وهي الفكرة التي سبق أن عالجتها السينما المصرية مرارا، في انقلاب الأدوار بين الرجال والنساء، مثل "الآنسة حنفي" و"السادة الرجال"، كذلك مسرحية لطفي الخولي في الستينيات "الأرانب"، لكن بينما كانت هذه الأعمال المشار إليها تنتصر لقيم تقدمية، تنادي بمساواة عاقلة وعادلة، فإن إعلان الفيلم يشي بأنه قد توقف عند ما يمكن أن تطرحه الفكرة من تهريج، والعديد من "الإفيهات" اللفظية التي تدور حول علاقات الفراش.
وتلك النقطة الأخيرة: "الإفيهات الجنسية"، هي أوضح الملامح المشتركة بين هذه الأفلام ومقدماتها الإعلانية، والتي تأتي بالتصريح الفظ والسوقي وليس بالتلميح (وهي رغم ذلك تدخل بيوتنا عنوة على شاشات التليفزيون)، حتى تكاد أن تتصور أن الناس في حياتهم اليومية لا يتوقفون عن التواصل بهذه الفظاظة والفجاجة. وكثيرا ما يأتي هذا النوع مصحوبا أيضا بأغنية ورقصة من النوع بالغ الرخص، الذي لا يمكنك أن تشاهده إلا في المناسبات التي يغرق فيها "المتفرجون" في الخمر والمخدرات، وذلك هو المشهد الذي لا يكاد أن يخلو منه فيلم مصري في الآونة الأخيرة، مشهد "الفرح الشعبي" كما تتصوره السينما المصرية: غازية ترقص رقصا بالغ الخلاعة، ووراءها أحد المغنين أصحاب ذلك الصوت المعدني المشوه، وعشرات من الكومبارس يقفزون هنا وهناك، ويمكنك أن تتخيل أن صناع هذه الأفلام يريدون أيضا من جمهور السينما في هذه المشاهد أن يشارك بدوره في هذا الصخب والعربدة، وربما كان هذا هو ما يحدث بالفعل في دور العرض التي يقبل عليها جمهور سينما الأعياد.
يتوافق مع هذا الصخب السمعي صخب بصري لا يترك للمتفرج لحظة واحدة للتأمل، لذلك نادرا ما تتعدى أي لقطة تراها في الإعلان ثانية واحدة، وهو الأمر الذي يجعل صناع الإعلانات يستغنون أيضا عن أي جهد فني حقيقي، فبضغطة على الأزرار تنهمر هذه اللقطات دون أي منطق، وبلا شكل أو مضمون. أخيرا يأتي دور "البطل" الذي يحتاج بالفعل إلى مقال آخر للتأمل، لكن يكفي هنا أن نشير إلى أنه ذلك "الصايع"، الذي لم يعد كما كان فى سنوات قليلة سابقة مجرد شاب بلا عمل، يتحايل على الحياة بمزيج من النصب وخفة الظل، لكنه أصبح الآن "بلطجيا" بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ منفرة، إنه يمضي في الشوارع حاملا ساطوره، يدخل به الخناقات ولا يتورع عن سفك الدماء، وهو يشهره أيضا في مصاحبته للراقصات كأنه سيفه الذي يتفاخر به.
لك أن تتخيل أخيرا شخصا أجنبيا أوقعه حظه العاثر في مشاهدة هذه الإعلانات، إنه حتى دون أن يدرك معنى كلمة واحدة سوف يفهم أن مجتمعنا لا يضم سوى مثل هذه الشخصيات، فليس هناك عشرات الملايين الذين يكدحون وراء "أكل عيشهم"، وليست هناك نساء تشاركن رغم المعاناة في تحمل أعباء العائلة، أو حتى تحمل هذه الأعباء وحدهن أحيانا، وليست هناك هموم يومية أصبحت أزلية أبدية رغم أنها احتياجات إنسانية بسيطة. ليبقى السؤال: إذا كانت هذه السينما كما يدعون (وقد يكون معهم بعض الحق) تعكس جانبا واحدا من وحشية الحياة، فلماذا الاقتصار على هذا الوجه وحده؟ لعل الإجابة هي أن هذه الأفلام تقدم جرعة من المخدرات السمعية البصرية، لتلهي الناس عن واقعهم الحقيقي، وتجعلهم يعيشون لحظات من الحلم في التوحد مع كل من يقهرهم، ليصبح البلطجي هو السبب والنتيجة!!