Thursday, December 16, 2010
فيلم "نصفى البشع"
عندما توقظ الطفولة النقية نصفنا الجميل
لم أكف عن الابتسام أو حتى الضحك بصوت عالٍ وأنا أشاهد فيلم التحريك "نصفى البشع"، وهى ترجمة بتصرف لمعنى عنوانه الذى يمكن أن تترجمه أيضا "أنا الشنيع" مثلا، فالمهم أنه يشير إلى جانب شرير من النفس البشرية، وبرغم أن الفيلم موجه أساسا إلى الأطفال، وأن النكات التى يمكن للكبار وحدهم فهمها نكات قليلة متناثرة، على عكس معظم أفلام التحريك الحديثة التى تراعى – لأغراض تسويقية وفنية وأحيانا سياسية – أن يحتوى فيلم الأطفال على مستوى ثانٍ موجه للكبار، أقول أنه برغم ذلك فقد استمتعت بالفيلم تماما، ليس فقط لبساطة حدوتته والمغزى الأخلاقى فيها، وإنما لأن هذه البساطة تخفى براعة درامية حقيقية من صناعه، الذين لا يفهمون – كما قد نتصور – أن فيلم الأطفال سهل، بل على العكس فإنه ربما يزيد صعوبة فى صنعه، فأنت ما تزال تحتاج إلى الحفاظ طوال الوقت على الاستقطاب بين نقيضين، وهذا الاستقطاب هو ما يصنع أى دراما، وفى الوقت ذاته عليك أن تتعامل مع هذا الاستقطاب بقدر هائل من الرهافة التى لا تؤذى مشاعر الأطفال.
تبهرنى دائما تلك القدرة على البناء الدرامى فى مثل هذه الأفلام، حتى أنه يمكن اعتبارها دروسا أولية لمن يكتبون سيناريوهات، فى فترة من أضعف فترات السينما المصرية فى فنون الكتابة السينمائية، سواء على مستوى السيناريو أو الحوار. (بالمصادفة شاهدت مؤخرا فيلما أسبانيا بعنوان "الزنزانة 211"، من نمط أفلام السجن، ربما عولجت فكرته من قبل فى عشرات الأفلام، لكنه بدوره كان نموذجا للكتابة الدرامية، وربما حانت الفرصة لاحقا للكتابة عنه). الغريب أنك تشعر فى أحيان كثيرة بأنك فى حاجة إلى أن تعيد وتزيد فى الحديث عن مقومات أى دراما، لكن هذه الأبجديات أصبحت بالنسبة لنا – للأسف الشديد – لغة غير مفهومة وغير متداولة، حتى بالنسبة لأسماء كبيرة لم أكن أتصور أنها سوف تتخلى عما تعلمته وأنجزته فى الكتابة الدرامية من مختلف الأنواع. هل هو الاستسهال؟ ربما، فكل شىء يباع الآن ما دمت "تسلِّك أمورك"، وليس المعيار هو الجودة أبدا، وانظر مثلا إلى ساحة المسلسلات التليفزيونية المصرية لترى أين موقعنا من الدراما، ثرثرة و"رطرطة" لا ينتهيان، لا فرق فى ذلك بين أسماء كانت لامعة أو كتاب فرضوا أنفسهم بالإلحاح أو أشياء أخرى!
فى كل كتابة درامية ناضجة عناصر لابد أن تتوافر: شخصيات ذات أبعاد مختلفة تتراوح بين نقاط الضعف ونقاط القوة، أو بين الخير والشر، ثم توتر أو تقارب أو تباعد بين هذه الشخصيات يتصاعد شيئا فشيئا نحو الذروة قبل أن يأتى الحل، والأهم هو "التغيير"، فالعلاقات بين الشخصيات تؤدى إلى إحداث تغير فيها، ربما صار القوى ضعيفا وأصبح الضعيف قويا، وفى تبادل المواقع هذا يأتى فى النهاية المغزى من العمل، ليس فى شكل نصيحة بليغة أو خطبة عصماء كما يحدث فى الأغلب الأعم عندنا، ولكن عندما ترى آثار هذا التغيير على الشخصيات، فتخرج لتكتشف أن "الرسالة" قد تسللت دون وعى منك إلى وجدانك، وذلك بسبب عنصر بالغ الأهمية على الإطلاق – لكننا ننساه دائما – وهو الإجابة عن السؤال: ما الذى يجعلنى أهتم أصلا بما أراه على الشاشة؟ إنه ببساطة التعاطف أو التوحد مع الشخصية الرئيسية، إن الفيلم يجعلنى – دون تفكير – أرى العالم من خلال وجهة نظر هذه الشخصية، لذلك فإن التغير الدرامى الذى يحدث لها يحدث لى فى الوقت ذاته.
لا تستغرب أن يأتى هذا الحديث المستفيض عن الدراما فى سياق مشاهدة فيلم للأطفال مثل "نصفى البشع" أو غيره من عشرات الأفلام الأخرى، فهو فى حقيقته حديث ذو شجون يأسى لحال الدراما لدينا، حتى تلك التى يفترض أنها موجهة للجمهور من الكبار، لكنها تتعامل معهم باعتبارهم قطيعا يتلقى فى سلبية بلهاء كل ما يلقى إليه من أفلام ومسلسلات. لكن وجه الغرابة بالفعل فى فيلم "نصفى البشع" هو أن "البطل" فيه شخص شرير يفخر بأن يصف نفسه بأنه "أبشع الأشرار والأوغاد فى العالم"، فمن أين يأتى إذن عنصر التوحد أو التعاطف الذى تحدثنا عنه؟ دعنا إذن نبدأ من البداية. البداية لاذعة تماما: نحن فى صحراء الجيزة بمصر، بالقرب من الأهرام، وهناك سائحون يقتربون ومعهم طفل مشاغب، يصر على أن يتسلق الهرم الأكبر برغم منع الحراس له، إنه يجرى ويفلت منهم ليطير فى الهواء كأنه سوف يسقط فى هوة سحيقة، لكنه عندما يهبط إلى أسفل حيث يفترض أن الأحجار سوف تقطعه إربا يتلقاه سطح ناعم، لنكتشف الحقيقة المرعبة، لقد تمت سرقة الهرم ولا يوجد مكانه إلا بالون ضخم على هيئته، ومن المؤكد أن وراء الجريمة مجرم بالغ الخطورة قادر على هذا الفعل الخارق.
يحدث هذا المشهد الافتتاحى بدون كلمة حوار واحدة، وهى سمة سوف تسيطر على الفيلم كله الذى يعتمد على تجسيد الموقف الدرامى بالصورة، ولتتأمل المشهد التالى مباشرة والذى نرى فيه البطل: إنه رجل تجاوز منتصف عمره، يدعى جرو (صوت ستيف كاريل) ويمكنك أن ترى فى ملامحه وتصرفاته شخصية العجوز "النكدى" الكاره للبشر، إنه فى أول ظهور له يرى طفلا يبكى بسبب وقوع "الآيس كريم" منه، فيقترب للطفل متوددا ويخرج له بالونة صفيرة من جيبه، يصنع منها دمية حيوان بخفة يده، ويعطيها للطفل الذى يتوقف عن البكاء ويبدا فى الشعور بالسعادة، لكن جرو يخرج دبوسا يثقب به البالونة الصغيرة فتنفجر، ويترك الطفل ضاحكا لأنه جعله يشعر بمزيد من التعاسة، فهل هناك بلاغة أكثر من ذلك للتعبير عن كون هذا الرجل وغدا بشعا وشريرا؟ وفى لمسات متتالية سوف يضرب لك الفيلم أمثلة على ما يفعله الشرير فى حياتنا اليومية، إنه يستخدم مسدسا لتجميد الناس فى أماكنهم ليأخذ مكانهم فى مقدمة طابور طويل، وهو يقود سيارته الضخمة بدخانها الكثيف ويتعمد إخافة غيره من السائقين ليفسحوا له الطريق. (وهكذا يستخدم الفيلم لمحات شديدة البساطة ليجسد للمتفرج الطفل والكبير معا التصرفات "الشريرة" التى يجب ألا نقترفها حتى لا نصبح أشرارا!!).
يعيش هذا الرجل جرو سعيدا بما حققه فى مجال البشاعة، وهو قد صنع لنفسه كائنات آلية صفراء صغيرة تدعى "مينيون" تؤدى له كل ما يطلب، وكثيرا ما يقدمه الفيلم وهو يقف وسطها خطيبا مفوها يتحدث عن أنه قد حقق معهم وبهم لقب أبشع الأشرار فى العالم، وهم يحيونه بالهتاف الهستيرى بما يذكرك بالديماجوجية التى يمكن أن تراها فى أنظمة كثيرة من العالم. (أخشى أن أقول أن كل الساسة، حتى فى الدول التى تسمى نفسها ديموقراطية، يستخدمون هذه الوسائل ذاتها فى كل مكان، لتبقى "الجماهير" مجرد أقزام صغار متشابهين دورهم هو تنفيذ إرادة الزعيم!). مرة أخرى يتأكد عمق الشر فى جرو من خلال لمسات مرهفة: هناك ثلاث طفلات تطرقن باب داره فى محاولة منهن لبيع الكعك له،إنه ينكر نفسه، ويتحدث كأنه رسالة صوتية (!!) ويصرفهن فى غلظة، لكن تلك هى اللحظة التى يقدم لك فيها البناء الدرامى للفيلم شخصياته الجديدة التى سوف يعتمد عليها فى وجود الصراع، إنهن تلك الطفلات الشقيقات اللاتى تتفاوت ملامحهن النفسية تبعا لعمر كل واحدة منهن، الكبرى عند سن ما قبل المراهقة، وتدعى مارجو (صوت ميراندا كوسجروف)، وتتسم بالتعقل والحس العملى، والوسطى فى السادسة أو السابعة هى إديث (صوت دانا جاير)، مشاغبة جريئة وتتصرف بروح الصبيان، أما الصغيرة أجنيس (صوت إلزى فيشر) فهى البراءة النقية التى تكاد أن تجعل من ضعفها الرقيق قوة آسرة لأى إنسان.
كان من الممكن للفيلم أن يضع هنا طفلا واحدا أو طفلة واحدة، لكنه اختار عنصرا دراميا ناضجا آخر وهو "التنويع"، فالبنات الثلاث تنويعات متباينة على الطفولة، وفى كل منهن وجها مختلفا للبراءة، وهو الأمر الذى سوف يتأكد لك عندما سوف تعرف فورا أنهن يتيمات يقمن فى ملجأ للأطفال تديره المرأة غليظة الطباع الآنسة هاتى (صوت كريستين ويج)، التى يبدو واضحا أنها تكره الأطفال وتقوم باستغلالهم لبيع الكعك الذى تصنعه، وتضع فى مكتبها صندوقا يحمل اسم "صندوق العار" تهدد بأن تسجن فيه كل من يعصى أوامرها. لا غرابة إذن أن تصلى الفتيات الصغيرات كل ليلة قبل نومهن، ضارعات إلى الله أن يجد لهن من يتبناهن، ويخرجهن من تلك الحياة القاتمة المزرية. هنا سوف تسأل نفسك: ترى هل سوف تجدن تلك الأسرة العطوف؟ وسوف تأتيك الإجابة: إنه أكثر الأشخاص ابتعادا عن القيام بهذه الرسالة، جرو الشرير الذى يكره الأطفال، لكن ما الذى دفعه إلى ذلك؟
عاش جرو طوال حياته وأمامه هدف واحد، هو أن يصبح أكثر الناس شرا فى العالم، وسوف يقدم لك الفيلم تبريرا لذلك بما يحقق هدفا مزدوجا، لقد كان جرو فى طفولته يرى رواد الفضاء وهم يهبطون على القمر، فيحلم بأن يصنع صاروخا يذهب به إلى القمر، ويصارح بهذا الحلم أمه (صوت جولى أندروز، فى دور شديد الطرافة ويختلف عن صورتها النمطية المعروفة)، لكنها تتعامل مع أحلامه بروح اللامبالاة أحيانا والسخرية القاسية فى أكثر الأحيان. إننا نرى ذلك فى "فلاش باكات" خاطفة، يفسر بها الفيلم عدوانية جرو، لكنه يوصل أيضا رسالة للآباء مؤداها ببساطة ألا ينبغى قمع أحلام الأطفال المشروعة، وبذلك فإن الفيلم يميل إلى تفسير النزوع إلى ارتكاب الشر إلى البيئة والتربية، وينادى بأنه من الممكن علاج ذلك الجانب الشرير من خلال الوعى بتنمية قدرات أطفالنا، ومرة أخرى لا يملك المرء إلا أن يندهش من توجيه هذه الرسالة للأباء فى فيلم للأطفال! أما الجانب الآخر من هذا التفسير فهو أنه يجعلنا نتعاطف مع جرو بدلا من أن ننفر منه، ربما لأن بداخل معظم الكبار طفلا حالت الظروف بينه وبين تحقيق أحلامه.
لقد أصبح جرو إذن شريرا ولم يولد شريرا، ومن الممكن إصلاح هذا الشر فى نفسه، وذلك هو جوهر الصراع فى الفيلم. إن جوهر أزمة جرو الآن هو أنه أصبح عجوزا، وأن هناك جيلا جديدا من الأشرار يستخدم وسائل أكثر براعة، ومن هؤلاء ذلك الشرير الذى سرق الهرم الأكبر، إنه فيكتور (صوت جيسون سيجيل) الذى يقيم فى قلعة حصينة ينعم فيها بكل ما هو حديث فى مجال التكنولوحيا. يريد جرو أن يستعيد لقب "أكبر شرير فى العالم" بالتخطيط لعملية أكبر من سرقة الهرم، إنها سرقة القمر! ومن أجل ذلك يذهب إلى بنك الشر بحثا عن التمويل، وهنا أكثر سخريات الفيلم مرارة، فالبنك يقع داخل بنك عادى كبير، كأن تلك المؤسسات المالية المشروعة ظاهريا تمول أكثر الأعمال شرا، ناهيك عن أن الدخول إلى بنك الشر يتم عبر باب سرى سحرى يُفتح من قلب دورة المياه! أضف إلى ذلك أيضا أن مدير بنك الشر مستر بيركنز (صوت ويل أرنيت) ليس فى حقيقة الأمر سوى والد فيكتور سارق الهرم! سوف يشترط مدير البنك على جرو أن يحصل أولا على جهاز يصدر أشعة تقليص الأحجام، والذى يمكن به تقليص حجم القمر والعودة به إلى الأرض، وعندما يحاول جرو الحصول على الجهاز يختطفه منه فيكتور (سوف نفهم ضمنا أنها مؤامرة مشتركة مع مدير البنك ووالد فيكتور).
يقرر جرو أن يتبنى البنات الثلاثة لهدف واحد، مساعدته فى استعادة جهاز الإشعاع، بأن تذهبن لبيع الكعك إلى فيكتور، بما يتيح لهن دخول قلعته الحصينة، ويتيح لجرو أن يُدخل معهن آلاته الصغيرة التى يوجهها عن بعد لسرقة الجهاز. وبالطبع سوف يتاح للفيلم من خلال هذا المشهد ومشاهد أخرى (مثل اختطاف القمر) تحقيق التشويق والإبهار والإثارة، وبرغم ضرورة مثل هذه المشاهد فى الفيلم لجذب الأطفال، فإنها لا تصبح هدفا فى حد ذاته (مثلما يحدث عندنا فيما تسمى أفلام "الأكشن")، فالقلب الدرامى النابض للفيلم يظل هو ذلك التغير البطىء فى شخصية جرو، الذى بدأ باستغلال الأطفال لهدفه البشع ونيته على إعادتهن إلى الملجأ بعد تنفيذ المهمة، لكنه ينتهى وقد استعاد طفولته المفقودة من خلالهن، وهو الأمر الذى لا يحدث – كما قد نتصور وتعلمه لنا غلظة المعالجة فى أفلامنا – فى شكل انقلاب درامى، وإنما هو تغير بالغ الرهافة، يتأرجح بين نعم ولا، ليشق ببطء طريقا نحو العالم النفسى المغلق لجرو، الذى سوف يستيقظ فيه نصفه الطفل بدلا من نصفه الوغد، وسوف يجد فى ألعاب الأطفال المثيرة (مثل عربة التزحلق شديدة السرعة فى الملاهى) بديلا عن إثارة أفعاله الشريرة.
وإذا كنا نبحث عن بديل لأفلامنا "الشريرة" التى يبدو أن أشخاصا مثل جرو قد شاركوا فى صنعها، فربما نتعلم - حتى من أفلام الأطفال جيدة الصنع - كيف نصنع أفلاما ممتعة، مكتملة فى عناصرها الدرامية، وواعية بأنها دائما توصل رسالة ما للمتفرج، وهى رسالة سلبية بليدة وربما شريرة فى معظم أفلامنا الأخيرة، لأنها أفلام تخاطب نصفنا البشع، وتتجاهل قدرة المتفرج العربى على أن يكون فاعلا إيجابيا ومتحكما فى حياته ومصيره، لكن هل تريد السينما المصرية ومن يصنعونها ومن يقفون وراءهم أن نمتلك حقا هذه المصير؟ ولماذا تصر السينما المصرية مؤخرا على أن ترينا وجهها البشع؟
Wednesday, December 15, 2010
فيلم "المختبئ"
تجربة نادرة للبحث عن موقف سياسى فى ما بعد الحداثة
إما مجنون أو عبقرى! هذا هو الفنان السينمائى والمسرحى والتليفزيونى مايكل هانيكه، النمساوى الأصل والمقيم فى فرنسا. وبين وصف هذا الفنان بالعبقرية أواتهامه بالادعاء يحار فى أمره الكثيرون من النقاد، خاصة النقاد الأمريكيين، فأعماله تتسم فى ظاهرها بالبساطة الشديدة التى تصل إلى حد قيامه كسينمائى بكشف تقنياته للمتفرج، وفى أفلامه كثيرا ما تتحدث الشخصيات إلى الكاميرا والمتفرج مباشرة (هل تذكر وقوع بعض نقادنا فى وصف ذلك بالتغريب والتجريب فى فيلم يسرى نصر الله "جنينة الأسماك" كأن ذلك يحدث فى السينما لأول مرة؟). لكن أفلام هانيكه هى فى الوقت ذاته شديدة التعقيد تحت السطح، وإذا كان كاتب هذه السطور قد أشار فى مقال سابق إلى الجانب السلبى فى "ما بعد الحداثة" عند كوينتين تاراتينو، الذى يعجن ويخبز أفلامه من فتات أفلام سابقة، دون أن تكون له رؤية أصيلة للعالم، كما أنه يريد من المتفرج أن يكون متلقيا سلبيا يهرب من واقعه إلى عالم سينمائى منبت الصلة بأى واقع، فإننى أعترف هنا أننى رأيت – ربما للمرة الأولى – جانبا إيجابيا بحق فى "ما بعد حداثة" مايكل هانيكه، خاصة فى فيلمه "المختبئ" (2005).
فلأبدأ بالإشارة إلى أننى كنت أميل إلى أن أترجم اسم الفيلم إلى "المُخَبَّأ"، لولا قلقى من أن تختلط هذه الكلمة عند طباعتها مع "المَخْبَأ"، فالأصل فى "المُخَبَّأ" هو الشىء اللذى يقوم صاحبه بإخفائه، لا أن يختفى هذا الشىء بنفسه، والفيلم يتحدث عن كثير من الأشياء التى نخفيها كل يوم فى حياتنا، أشياء تبدو صغيرة وتافهة لكنها تصنع مصائرنا ومصائر الآخرين، كما أنها مرتبطة بسياق أكثر شمولا، فكأن الذاتى لا ينفصل عن الموضوعى، والفردى جزء لا يتجزأ من التاريخى، وثقافة شخص ما فى مجتمع هى انعكاس لثقافة عامة سائدة، حتى لو كان المثقفون يزعمون أنهم من الصفوة التى لا تنساق مع القطيع. يكشف هانيكه عن ذلك فى فيلمه "المختبئ"، بموضوع وأسلوب شديدى البساطة والغرابة، أراهما – فى جانب منهما – امتدادا لرؤية جان لوك جودار عن السينما وعلاقتها بالمتلقى، وإن كنت أرى أيضا أن أفلام هانيكه أكثر جمالا ونضجا وتعقيدا وتأثيرا.
سوف أقف معك عند اللقطة الأولى من الفيلم والتى تنزل العناوين متناهية الصغر فى بدايتها، إن اللقطة تمتد ثلاث دقائق كاملة، الكاميرا ثابتة ساكنة فى مكان ما لتصور شارعا جانبيا هادئا، وهناك منزل فى المواجهة، وعلى شريط الصوت (الذى يخلو فى الفيلم كله من أى موسيقى تصويرية) زقزقات عصافير ما بعد الظهيرة، أو صوت مرور شخص عابر، وفى خلفية الكادر تخرج امرأة من باب المنزل، ثم لا شىء يحدث ... فجأة تتوقف الحركة فى الكادر، بل تعود بالحركة السريعة إلى الخلف، وهنا تفاجأ بأنك لا تشاهد "الفيلم"، وإنما شريط فيديو داخل الفيلم! إنه شريط وجده الزوجان جورج (دانييل أوتويل) وآن (جولييت بينوش) عند عتبة منزلهما، وهما يشاهدانه الآن ونحن نشاهده معهما، وليس فى الشريط شىء ذو بال، غير أنه يقول لهما – ولنا – أنهما مراقبان بواسطة شخص ما، لكن من هو؟ ولماذا؟ لا إجابة! وهكذا يضعك الفيلم منذ اللحظة الأولى فى تشويق مزدوج، الجانب الأول فيه هو الإجابة عن هذه الأسئلة، أما الجانب الثانى والأهم فهو أنك لن تدرى طوال الفيلم إذا ما كنت تشاهد الفيلم، أم شريطا داخل الفيلم، وتظل حائرا حول إذا ما كنت ترى الواقع أم صورته.
إن ذلك هو الجانب "ما بعد الحداثى" فى فيلم "المختبئ"، فى تلك العلاقة الغامضة ذات الدلالة والأبعاد المتعددة بين العمل الفنى (الفيلم) من جانب، والمتلقى من جانب آخر. إنك تسأل نفسك وأنت تشاهد الفيلم: هل ينبغى علىّ أن أتفرج على الفيلم بوصفه واقعا، أم أنه صورة الواقع، خاصة إذا احتوى الفيلم بداخله على شرائط مصورة ليست هى الواقع الفيلمى بل صورته؟! وسوف تتوالى هذه الشرائط المجهولة على جورج وآن (بالمناسبة بطل وبطلة أفلام هانيكه يحملان دائما هذين الاسمين)، وفى كل مرة تبدأ اللقطة المصورة كأنها واقع موضوعى لتكتشف بعد لحظة أنها شريط من تلك الشرائط، لذلك فإن عين وعقل المتفرج يصبحان فى حالة يقظة دائمة طوال الفيلم، إن المتفرج يظل يفحص ما يراه بدقة لعله يرى "المُخَبَّأ" فيه، لذلك أصارحك بأنك ربما سوف تحتاج إلى مشاهدة الفيلم مرتين لكى "ترى" ما فات على عينك رؤيته.
أعرف أنك تريد الآن "حكاية" الفيلم، وكما سبق القول فإن الحكايات فى أفلام هانيكه بسيطة ومعقدة معا. جورج وآن زوجان من الشريحة المثقفة من الطبقة الوسطى الفرنسية، تُشكِّل الكتب جدران منزلهما، والزوج يعمل مقدم برنامج تليفزيونى شهير يناقش الأعمال الأدبية، والزوجة تعمل فى دار للنشر، وليس لهما سوى ابن يبلغ الثانية عشرة من عمره هو بييرو (ليستر ماكيدوفسكى)، الذى يبدو متمردا، والسبب الظاهر فى ذلك – كما يتصور والداه – هو معاناة فترة البللوغ. تمضى الحياة هادئة بالأسرة، التى تجمعها صداقة ببعض الشخصيات التى تنتمى لنفس الطبقة، وفى مشهد يذكرك بسيريالية لوى بونويل فى "سحر البرجوازية الخفى" نرى الزوجين والأصدقاء يتشاركون الطعام، وإذا كنت تتوقع أن الحديث بينهم سوف يكون جادا، فإن الحقيقة تأتى على العكس تماما، وسوف أتركك لتتورط معهم فى "نكتة" عبثية لا تشير إلا إلى الخواء الذى يسيطر على هذه الحياة، التى تبدو من الخارج براقة لامعة.
عندما يصل الشريط الأول للزوجين تثور التساؤلات، التى تزداد حيرة مع وصول شريط ثان مصحوب برسم طفولى لوجه يبصق دما، وعندما يشاهد جورج هذا الشريط تظهر على الشاشة لقطة خاطفة لطفل ينظر من خلف زجاج نافذة والدم على وجهه. إنها لقطة من لاوعى جورج، أو ذاكرته التى "أخفى" بها صورا وأحداثا تصورها قد ماتت فإذا بها حية تتبدى أمام عينيه وأعيننا. إن التوتر الذى يسرى فى نفس الزوج، الذى نعرف الآن أنه يخفى شيئا له علاقة بذلك الرسم الطفولى، هذا التوتر سوف ينفجر فى مشهد يبدو عابرا لكن له دلالته، خاصة مع المشاهدة الثانية للفيلم، فالزوج يحتك براكب دراجة زنجى، فيفجر جورج غضبه فيه كما لو كان هذا الزنجى العابر هو "الفاعل الحقيقى" وراء الشرائط والرسوم، وهو الغضب الذى يعكس أنه حتى فى أوساط المثقفين تجد ميلا للنظر إلى "الآخرين" بشكل نمطى سلبى، فلأن الشاب العابر زنجى فإن من الممكن أن يكون "المتهم"، وهكذا تنفجر البارانويا العدوانية فى أعماق جورج، الذى يتحدث عن خطر "الأغراب" فى "مدينتنا"، وأن من الممكن أن يحدث عمل إرهابى فى كل لحظة ... وأرجو أن تلاحظ أنه حين ظهر الفيلم فى عام 2005 كانت ما يزال ماثلا فى الأذهان تمرد المضطهدين من أبناء الجيلين الثانى والثالث من المهاجرين إلى فرنسا، الذين يقيمون فى أحياء عشوائية، محرومين من أبسط الاحتياجات الإنسانية.
يسيطر الخوف على جورج، الذى يبدو أمامنا حتى هذه اللحظة بريئا وضحية لإرهاب وابتزاز غامضين. لكن شريطا ثالثا يصل إليه، هذه المرة تم تصويره من داخل سيارة تمضى تحت المطر حتى تقف أمام البيت القديم الذى تربى فيه جورج صغيرا. إذن فمن يرسل الشرائط يعلم الكثير عن جورج، وهو يريد أن يشير إلى أمر ما. يعود جورج إلى منزل الطفولة، حيث يرى أمه العجوز (الممثلة الهائلة آنى جيراردو، التى كانت امرأة الأحلام لمن ينتمون إلى جيلى!)، وفى مشهد بالغ الهدوء على السطح، ندرك من الحوار مع الأم المريضة التى تلازم فراشها أن هناك أمرا يتعلق بصبى يدعى مجيد، يقول جورج أنه يحلم به، فنعرف الآن أنه ذلك الصبى ذو الفم الملوث بالدم. فى نفس الليلة، وفى منزل الطفولة الريفى، يستكمل جورج الحلم أثناء نومه: الصبى مجيد يذبح ديكا ينتفض أمامنا وهو يلفظ أنفاسه، بينما يقف صبى آخر (إنه جورج طفلا) وقد استولى عليه الفزع.
هذا الواقع المتوتر الغامض الذى يعيشه جورج، والكابوس الدموى الذى يلاحقه، يجعلاننا نتعاطف مع جورج فى المحنة التى يتعرض لها من "عدو" يتربص به، هذا العدو الذى سوف نزداد منه اقترابا عندما يصل إلى جورج شريط يسجل طريقة الوصول إلى مبنى يضم شققا صغيرة لأبناء الطبقة الفقيرة، فيقرر جورج أن يجعل هذا الشريط دليله، ويمضى إلى المبنى، ويطرق باب الشقة التى ظهر رقمها فى الشريط، فيفتح الباب رجل كهل (موريس بينيشوه) يرحب بجورج. إنه يعرف جورج، فلابد أنه "الفاعل"، لكن جورج شخصية مشهورة لأنه يظهر على شاشة التليفزيون، فلا غرابة أن يعرفه الرجل، لكن لماذا يقول أنه انتظره طويلا؟! هنا تتضح المفارقة: إنه ذاته مجيد! وهو ينكر تماما صلته بالشرائط والرسوم، لكن جورج يصر – ولديه أسبابه "المختبئة" – أن لدى مجيد أسبابه للانتقام ... ولكن الانتقام من ماذا؟!
فى مشهد اعتراف مؤلم من جورج، يفضى به إلى الزوجة آن، يحكى ما كان يخفيه، وعذره أنه أخفاه لأنه يعود إلى تصرفات الطفولة الطائشة. وهنا يتداخل التاريخى مع الشخصى: فى أكتوبر عام 1961 دعت جبهة التحرير الجزائرية كل الجزائريين المقيمين فى فرنسا للتظاهر فى باريس، وهى المظاهرة الحاشدة التى خرجت فى 17 أكتوبر، وقامت فيها قوات الأمن الفرنسية (بقيادة رجل كان من أعوان النازية) بتفريق المتظاهرين على نحو وحشى، وإغراق مائتين منهم فى نهر السين، كان من بينهم والدا مجيد اللذان كانا يعملان لدى أسرة الطفل جورج. وعندما تقرر الأسرة الفرنسية تبنى الطفل الجزائرى مجيد، تثور غيرة الطفل جورج، فيحيك الأكاذيب التى تؤدى إلى تخلى الأسرة عن مجيد وإيداعه الملجأ. هناك إذن ظلم عام تعرض له مجيد وأمثاله من الملايين، وظلم خاص انتهى به إلى الفقر، بل إن هذا الظلم يمتد من الماضى إلى الحاضر، حين يصبح الكهل مجيد متهما بتهديد جورج وأسرته.
لن أحكى لك كبف انتهت تلك الحبكة، فسوف أساهم بدورى فى "إخفاء" بعض خيوطها، لعلك تبحث عن الفيلم وتستمع بمشاهدته كاستمتاعى به، لكننى سوف أتوقف بك عند بعض التفاصيل "المختبئة" فى ثنايا الفيلم، ويريدك هانيكه أن تبحث عنها، وتدرك دلالتها بنفسك. أرجو مثلا أن تلاحظ فى الخلفية فى العديد من المشاهد، وعلى شاشة التليفزيون المفتوح دائما فى منزل الأسرة، نرى أحيانا مشاهد من نشرات الأخبار، للمذابح فى العراق وفلسطين، ولا يكاد جورج أن يلتفت إليها، فكأن الفيلم يقول لك: إن الجريمة مستمرة، والتواطؤ بالسكوت عليها ما يزال قائما، وإذا كانت هناك مأساة حدثت وما تزال تحدث لمجيد، فإنها تحدث أيضا لعشرات ومئات الألوف من الضحايا، وما تزال الشريحة "المثقفة" منغلقة على نفسها، ولا ترى إلا ذاتها. بل إن هناك أسرارا مختبئة أخرى فى الأسرة يلمح إليها الفيلم، فى وجود شك لدى الابن بييرو أن أمه تخون أباه مع صديق للعائلة. وأخيرا هناك السر فى المشهد الأخير، لن أبوح لك به أبدا: إنها لقطة تستمر ثلاث دقائق كاملة، وتنزل معها تيترات النهاية، وتصور بكاميرا ثابتة لحظات خروج الطلبة من مدرسة الابن بييرو ... لا شىء يحدث على السطح، لكن تأمل – وسط هذا الزحام – ما يحدث فى الجانب الأيسر من الكادر، فربما، أقول ربما، يحمل لك تفسيرا لما أخفاه عنك الفيلم.
اعتمد هانيكه على اللقطات الطويلة زمنيا، أغلبها من ثلاث دقائق، وإحداها تمتد إلى ست دقائق، ومعظمها من كاميرا ثابتة أو كاميرا محمولة لا تشعر بوجودها أبدا (على عكس اللقطات المهتزة الى أصبحت "موضة" فى أفلامنا حتى لو لم يكن لها أى ضرورة)، إن هذا يعنى أيضا اعتماد هانيكه على الميزانسين شديد الدقة للكاميرا والممثلين، الذين لن تدرى – بسبب التلقائية الشديدة – إن كانت براعة أدائهم تعود إلى قدرتهم على الارتجال، أم إلى البروفات المتقنة التى لم تترك شيئا للصدفة. من جانب آخر، فإن زاوية التصوير وحجم اللقطة تكررا – طبق الأصل – فى العديد من المشاهد، لتبحث أنت كمتفرج عن الفرق فى المحتوى والمضمون بين هذه اللقطة وتلك، أو تتساءل إذا ما كانت لقطة "واقعية" أم أنها "نسخة" مصورة من الواقع. وبذلك فإن هانيكه يجعلك شريكا فى الحدث، ومتواطئا فى الفعل، لأنك "تتفرج" فقط، بينما يجب عليك أن تأخذ موقفا، بأن تكتشف وتكشف ما هو "مُخَبَّأ" فى كل الأكاذيب التى نعيشها!
Subscribe to:
Posts (Atom)