Wednesday, December 15, 2010
فيلم "المختبئ"
تجربة نادرة للبحث عن موقف سياسى فى ما بعد الحداثة
إما مجنون أو عبقرى! هذا هو الفنان السينمائى والمسرحى والتليفزيونى مايكل هانيكه، النمساوى الأصل والمقيم فى فرنسا. وبين وصف هذا الفنان بالعبقرية أواتهامه بالادعاء يحار فى أمره الكثيرون من النقاد، خاصة النقاد الأمريكيين، فأعماله تتسم فى ظاهرها بالبساطة الشديدة التى تصل إلى حد قيامه كسينمائى بكشف تقنياته للمتفرج، وفى أفلامه كثيرا ما تتحدث الشخصيات إلى الكاميرا والمتفرج مباشرة (هل تذكر وقوع بعض نقادنا فى وصف ذلك بالتغريب والتجريب فى فيلم يسرى نصر الله "جنينة الأسماك" كأن ذلك يحدث فى السينما لأول مرة؟). لكن أفلام هانيكه هى فى الوقت ذاته شديدة التعقيد تحت السطح، وإذا كان كاتب هذه السطور قد أشار فى مقال سابق إلى الجانب السلبى فى "ما بعد الحداثة" عند كوينتين تاراتينو، الذى يعجن ويخبز أفلامه من فتات أفلام سابقة، دون أن تكون له رؤية أصيلة للعالم، كما أنه يريد من المتفرج أن يكون متلقيا سلبيا يهرب من واقعه إلى عالم سينمائى منبت الصلة بأى واقع، فإننى أعترف هنا أننى رأيت – ربما للمرة الأولى – جانبا إيجابيا بحق فى "ما بعد حداثة" مايكل هانيكه، خاصة فى فيلمه "المختبئ" (2005).
فلأبدأ بالإشارة إلى أننى كنت أميل إلى أن أترجم اسم الفيلم إلى "المُخَبَّأ"، لولا قلقى من أن تختلط هذه الكلمة عند طباعتها مع "المَخْبَأ"، فالأصل فى "المُخَبَّأ" هو الشىء اللذى يقوم صاحبه بإخفائه، لا أن يختفى هذا الشىء بنفسه، والفيلم يتحدث عن كثير من الأشياء التى نخفيها كل يوم فى حياتنا، أشياء تبدو صغيرة وتافهة لكنها تصنع مصائرنا ومصائر الآخرين، كما أنها مرتبطة بسياق أكثر شمولا، فكأن الذاتى لا ينفصل عن الموضوعى، والفردى جزء لا يتجزأ من التاريخى، وثقافة شخص ما فى مجتمع هى انعكاس لثقافة عامة سائدة، حتى لو كان المثقفون يزعمون أنهم من الصفوة التى لا تنساق مع القطيع. يكشف هانيكه عن ذلك فى فيلمه "المختبئ"، بموضوع وأسلوب شديدى البساطة والغرابة، أراهما – فى جانب منهما – امتدادا لرؤية جان لوك جودار عن السينما وعلاقتها بالمتلقى، وإن كنت أرى أيضا أن أفلام هانيكه أكثر جمالا ونضجا وتعقيدا وتأثيرا.
سوف أقف معك عند اللقطة الأولى من الفيلم والتى تنزل العناوين متناهية الصغر فى بدايتها، إن اللقطة تمتد ثلاث دقائق كاملة، الكاميرا ثابتة ساكنة فى مكان ما لتصور شارعا جانبيا هادئا، وهناك منزل فى المواجهة، وعلى شريط الصوت (الذى يخلو فى الفيلم كله من أى موسيقى تصويرية) زقزقات عصافير ما بعد الظهيرة، أو صوت مرور شخص عابر، وفى خلفية الكادر تخرج امرأة من باب المنزل، ثم لا شىء يحدث ... فجأة تتوقف الحركة فى الكادر، بل تعود بالحركة السريعة إلى الخلف، وهنا تفاجأ بأنك لا تشاهد "الفيلم"، وإنما شريط فيديو داخل الفيلم! إنه شريط وجده الزوجان جورج (دانييل أوتويل) وآن (جولييت بينوش) عند عتبة منزلهما، وهما يشاهدانه الآن ونحن نشاهده معهما، وليس فى الشريط شىء ذو بال، غير أنه يقول لهما – ولنا – أنهما مراقبان بواسطة شخص ما، لكن من هو؟ ولماذا؟ لا إجابة! وهكذا يضعك الفيلم منذ اللحظة الأولى فى تشويق مزدوج، الجانب الأول فيه هو الإجابة عن هذه الأسئلة، أما الجانب الثانى والأهم فهو أنك لن تدرى طوال الفيلم إذا ما كنت تشاهد الفيلم، أم شريطا داخل الفيلم، وتظل حائرا حول إذا ما كنت ترى الواقع أم صورته.
إن ذلك هو الجانب "ما بعد الحداثى" فى فيلم "المختبئ"، فى تلك العلاقة الغامضة ذات الدلالة والأبعاد المتعددة بين العمل الفنى (الفيلم) من جانب، والمتلقى من جانب آخر. إنك تسأل نفسك وأنت تشاهد الفيلم: هل ينبغى علىّ أن أتفرج على الفيلم بوصفه واقعا، أم أنه صورة الواقع، خاصة إذا احتوى الفيلم بداخله على شرائط مصورة ليست هى الواقع الفيلمى بل صورته؟! وسوف تتوالى هذه الشرائط المجهولة على جورج وآن (بالمناسبة بطل وبطلة أفلام هانيكه يحملان دائما هذين الاسمين)، وفى كل مرة تبدأ اللقطة المصورة كأنها واقع موضوعى لتكتشف بعد لحظة أنها شريط من تلك الشرائط، لذلك فإن عين وعقل المتفرج يصبحان فى حالة يقظة دائمة طوال الفيلم، إن المتفرج يظل يفحص ما يراه بدقة لعله يرى "المُخَبَّأ" فيه، لذلك أصارحك بأنك ربما سوف تحتاج إلى مشاهدة الفيلم مرتين لكى "ترى" ما فات على عينك رؤيته.
أعرف أنك تريد الآن "حكاية" الفيلم، وكما سبق القول فإن الحكايات فى أفلام هانيكه بسيطة ومعقدة معا. جورج وآن زوجان من الشريحة المثقفة من الطبقة الوسطى الفرنسية، تُشكِّل الكتب جدران منزلهما، والزوج يعمل مقدم برنامج تليفزيونى شهير يناقش الأعمال الأدبية، والزوجة تعمل فى دار للنشر، وليس لهما سوى ابن يبلغ الثانية عشرة من عمره هو بييرو (ليستر ماكيدوفسكى)، الذى يبدو متمردا، والسبب الظاهر فى ذلك – كما يتصور والداه – هو معاناة فترة البللوغ. تمضى الحياة هادئة بالأسرة، التى تجمعها صداقة ببعض الشخصيات التى تنتمى لنفس الطبقة، وفى مشهد يذكرك بسيريالية لوى بونويل فى "سحر البرجوازية الخفى" نرى الزوجين والأصدقاء يتشاركون الطعام، وإذا كنت تتوقع أن الحديث بينهم سوف يكون جادا، فإن الحقيقة تأتى على العكس تماما، وسوف أتركك لتتورط معهم فى "نكتة" عبثية لا تشير إلا إلى الخواء الذى يسيطر على هذه الحياة، التى تبدو من الخارج براقة لامعة.
عندما يصل الشريط الأول للزوجين تثور التساؤلات، التى تزداد حيرة مع وصول شريط ثان مصحوب برسم طفولى لوجه يبصق دما، وعندما يشاهد جورج هذا الشريط تظهر على الشاشة لقطة خاطفة لطفل ينظر من خلف زجاج نافذة والدم على وجهه. إنها لقطة من لاوعى جورج، أو ذاكرته التى "أخفى" بها صورا وأحداثا تصورها قد ماتت فإذا بها حية تتبدى أمام عينيه وأعيننا. إن التوتر الذى يسرى فى نفس الزوج، الذى نعرف الآن أنه يخفى شيئا له علاقة بذلك الرسم الطفولى، هذا التوتر سوف ينفجر فى مشهد يبدو عابرا لكن له دلالته، خاصة مع المشاهدة الثانية للفيلم، فالزوج يحتك براكب دراجة زنجى، فيفجر جورج غضبه فيه كما لو كان هذا الزنجى العابر هو "الفاعل الحقيقى" وراء الشرائط والرسوم، وهو الغضب الذى يعكس أنه حتى فى أوساط المثقفين تجد ميلا للنظر إلى "الآخرين" بشكل نمطى سلبى، فلأن الشاب العابر زنجى فإن من الممكن أن يكون "المتهم"، وهكذا تنفجر البارانويا العدوانية فى أعماق جورج، الذى يتحدث عن خطر "الأغراب" فى "مدينتنا"، وأن من الممكن أن يحدث عمل إرهابى فى كل لحظة ... وأرجو أن تلاحظ أنه حين ظهر الفيلم فى عام 2005 كانت ما يزال ماثلا فى الأذهان تمرد المضطهدين من أبناء الجيلين الثانى والثالث من المهاجرين إلى فرنسا، الذين يقيمون فى أحياء عشوائية، محرومين من أبسط الاحتياجات الإنسانية.
يسيطر الخوف على جورج، الذى يبدو أمامنا حتى هذه اللحظة بريئا وضحية لإرهاب وابتزاز غامضين. لكن شريطا ثالثا يصل إليه، هذه المرة تم تصويره من داخل سيارة تمضى تحت المطر حتى تقف أمام البيت القديم الذى تربى فيه جورج صغيرا. إذن فمن يرسل الشرائط يعلم الكثير عن جورج، وهو يريد أن يشير إلى أمر ما. يعود جورج إلى منزل الطفولة، حيث يرى أمه العجوز (الممثلة الهائلة آنى جيراردو، التى كانت امرأة الأحلام لمن ينتمون إلى جيلى!)، وفى مشهد بالغ الهدوء على السطح، ندرك من الحوار مع الأم المريضة التى تلازم فراشها أن هناك أمرا يتعلق بصبى يدعى مجيد، يقول جورج أنه يحلم به، فنعرف الآن أنه ذلك الصبى ذو الفم الملوث بالدم. فى نفس الليلة، وفى منزل الطفولة الريفى، يستكمل جورج الحلم أثناء نومه: الصبى مجيد يذبح ديكا ينتفض أمامنا وهو يلفظ أنفاسه، بينما يقف صبى آخر (إنه جورج طفلا) وقد استولى عليه الفزع.
هذا الواقع المتوتر الغامض الذى يعيشه جورج، والكابوس الدموى الذى يلاحقه، يجعلاننا نتعاطف مع جورج فى المحنة التى يتعرض لها من "عدو" يتربص به، هذا العدو الذى سوف نزداد منه اقترابا عندما يصل إلى جورج شريط يسجل طريقة الوصول إلى مبنى يضم شققا صغيرة لأبناء الطبقة الفقيرة، فيقرر جورج أن يجعل هذا الشريط دليله، ويمضى إلى المبنى، ويطرق باب الشقة التى ظهر رقمها فى الشريط، فيفتح الباب رجل كهل (موريس بينيشوه) يرحب بجورج. إنه يعرف جورج، فلابد أنه "الفاعل"، لكن جورج شخصية مشهورة لأنه يظهر على شاشة التليفزيون، فلا غرابة أن يعرفه الرجل، لكن لماذا يقول أنه انتظره طويلا؟! هنا تتضح المفارقة: إنه ذاته مجيد! وهو ينكر تماما صلته بالشرائط والرسوم، لكن جورج يصر – ولديه أسبابه "المختبئة" – أن لدى مجيد أسبابه للانتقام ... ولكن الانتقام من ماذا؟!
فى مشهد اعتراف مؤلم من جورج، يفضى به إلى الزوجة آن، يحكى ما كان يخفيه، وعذره أنه أخفاه لأنه يعود إلى تصرفات الطفولة الطائشة. وهنا يتداخل التاريخى مع الشخصى: فى أكتوبر عام 1961 دعت جبهة التحرير الجزائرية كل الجزائريين المقيمين فى فرنسا للتظاهر فى باريس، وهى المظاهرة الحاشدة التى خرجت فى 17 أكتوبر، وقامت فيها قوات الأمن الفرنسية (بقيادة رجل كان من أعوان النازية) بتفريق المتظاهرين على نحو وحشى، وإغراق مائتين منهم فى نهر السين، كان من بينهم والدا مجيد اللذان كانا يعملان لدى أسرة الطفل جورج. وعندما تقرر الأسرة الفرنسية تبنى الطفل الجزائرى مجيد، تثور غيرة الطفل جورج، فيحيك الأكاذيب التى تؤدى إلى تخلى الأسرة عن مجيد وإيداعه الملجأ. هناك إذن ظلم عام تعرض له مجيد وأمثاله من الملايين، وظلم خاص انتهى به إلى الفقر، بل إن هذا الظلم يمتد من الماضى إلى الحاضر، حين يصبح الكهل مجيد متهما بتهديد جورج وأسرته.
لن أحكى لك كبف انتهت تلك الحبكة، فسوف أساهم بدورى فى "إخفاء" بعض خيوطها، لعلك تبحث عن الفيلم وتستمع بمشاهدته كاستمتاعى به، لكننى سوف أتوقف بك عند بعض التفاصيل "المختبئة" فى ثنايا الفيلم، ويريدك هانيكه أن تبحث عنها، وتدرك دلالتها بنفسك. أرجو مثلا أن تلاحظ فى الخلفية فى العديد من المشاهد، وعلى شاشة التليفزيون المفتوح دائما فى منزل الأسرة، نرى أحيانا مشاهد من نشرات الأخبار، للمذابح فى العراق وفلسطين، ولا يكاد جورج أن يلتفت إليها، فكأن الفيلم يقول لك: إن الجريمة مستمرة، والتواطؤ بالسكوت عليها ما يزال قائما، وإذا كانت هناك مأساة حدثت وما تزال تحدث لمجيد، فإنها تحدث أيضا لعشرات ومئات الألوف من الضحايا، وما تزال الشريحة "المثقفة" منغلقة على نفسها، ولا ترى إلا ذاتها. بل إن هناك أسرارا مختبئة أخرى فى الأسرة يلمح إليها الفيلم، فى وجود شك لدى الابن بييرو أن أمه تخون أباه مع صديق للعائلة. وأخيرا هناك السر فى المشهد الأخير، لن أبوح لك به أبدا: إنها لقطة تستمر ثلاث دقائق كاملة، وتنزل معها تيترات النهاية، وتصور بكاميرا ثابتة لحظات خروج الطلبة من مدرسة الابن بييرو ... لا شىء يحدث على السطح، لكن تأمل – وسط هذا الزحام – ما يحدث فى الجانب الأيسر من الكادر، فربما، أقول ربما، يحمل لك تفسيرا لما أخفاه عنك الفيلم.
اعتمد هانيكه على اللقطات الطويلة زمنيا، أغلبها من ثلاث دقائق، وإحداها تمتد إلى ست دقائق، ومعظمها من كاميرا ثابتة أو كاميرا محمولة لا تشعر بوجودها أبدا (على عكس اللقطات المهتزة الى أصبحت "موضة" فى أفلامنا حتى لو لم يكن لها أى ضرورة)، إن هذا يعنى أيضا اعتماد هانيكه على الميزانسين شديد الدقة للكاميرا والممثلين، الذين لن تدرى – بسبب التلقائية الشديدة – إن كانت براعة أدائهم تعود إلى قدرتهم على الارتجال، أم إلى البروفات المتقنة التى لم تترك شيئا للصدفة. من جانب آخر، فإن زاوية التصوير وحجم اللقطة تكررا – طبق الأصل – فى العديد من المشاهد، لتبحث أنت كمتفرج عن الفرق فى المحتوى والمضمون بين هذه اللقطة وتلك، أو تتساءل إذا ما كانت لقطة "واقعية" أم أنها "نسخة" مصورة من الواقع. وبذلك فإن هانيكه يجعلك شريكا فى الحدث، ومتواطئا فى الفعل، لأنك "تتفرج" فقط، بينما يجب عليك أن تأخذ موقفا، بأن تكتشف وتكشف ما هو "مُخَبَّأ" فى كل الأكاذيب التى نعيشها!
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment