لا يكاد مصطلح "سينما المؤلف" يثار في النقد
السينمائي العربي، حتى يقفز للذهن على الفور يوسف شاهين، برغم مفارقة أنه لم
"يؤلف" الكثير من أفلامه، أو بالأحرى لم يكتب سيناريوهاتها، وإن كان قد اشترك
في كتابة بعضها، وأفضل أفلامه على الإطلاق "الأرض" عن رواية عبد الرحمن
الشرقاوي، وسيناريو العديد من الكتاب الذين لم يكن من بينهم. لماذا إذن تنتشر فكرة
أن يوسف شاهين "مؤلف" سينمائي؟
الحقيقة أن هناك خلطا بين مفهومين متشابكين، الأول هو أن
يكتب المخرج السيناريو بنفسه، وبرغم ذلك فإن أفلامه لا تنتظمها وحدة واحدة، وهذا
هو المخرج "الحِرَفي الذي "يصنع" أفلامه دون أن تعكس اهتمامات
معينة تسيطر على أعماله الفنية، ولك في حسن الصيفي أو ناصر حسين مثالين في السينما
المصرية، ولهما عشرات الأفلام التي لم تبق في ذاكرة التاريخ. أما المفهوم الثاني
فهو المخرج الذي "يتدخل" في كتابة السيناريو، بحيث يمكنك أن ترى فيها
جانبا من قلقه الخاص، الذي يريد دائما التأكيد عليه.
لم يكتب ألفريد هيتشكوك مثلا أفلامه، لكنها في أغلبها
تنتمي إلى عالمه الخاص، وكثيرا ما تجد عنده بطلا بريئا يتورط دون وعي أو رغبة منه في
مشكلة ما، كبيرة كانت أو صغيرة، لا فرق بين "النافذة الخلفية" حيث يجلس صحفي
مكسور الساق، مسترقا النظر إلى جيرانه، ليكتشف جريمة قتل فيها زوج زوجته، أو
"الرجل الذي عرف أكثر من اللازم"، للبطل السائح الذي يعرف بالصدفة خطة
اغتيال كبرى، ويختطف المتآمرون ابنه لكي يمنعوه من إفشاء السر. وقد يحار النقد
والنقاد طويلا في تفسير ذلك "الهمّ" عند هيتشكوك، وهل يعكس قلقا شخصيا
لا واعيا، أم أنه إشارة إلى عصر التوترات العالمية التي أفرخت حربين طاحنتين وحربا
باردة طويلة، لكن أيا كان التفسير فإنها "سينما المؤلف" حتى لو لم يكتب
المخرج أفلامه.
ومن المفارقات أن فن السينما كان في بداياته لا يعرف
فرقا بين كاتب للسيناريو ومخرج، وأن تلك التفرقة جاءت مع "تقسيم العمل"
عندما أصبحت الصناعة أكثر تعقيدا، ومع ذلك فإن هذه الفترة الأولى شهدت "سينما
مؤلف" راقية رائقة، ولعل أفضل مثال في هذا السياق هو شارلي شابلن، صاحب شخصية
"الصعلوك" الذي لم يمنعه فقره من الحفاظ على كرامته وأخلاقياته، والذي
انتقل به بين عشرات الأفلام، تراه في "أضواء المدينة" عاشقا لفتاة
ضريرة، يساعدها دون أن تعرفه على استرداد بصرها، وها هي في المشهد الأخير تتعرف
عليه عندما تتلامس الأيدي، كما يمكنك أن تراه في "العصر الحديث"، عاملا
تطحنه الآلة وتطارده السلطة حيثما رحل، لكنه يظل ينطلق دائما نحو أفق متفائل.
على عكس هذا التفاؤل، تجد تشاؤما يسري في أفلام المخرج
ستانلي كوبريك، الذي يرى أنه لا مستقبل هناك أمام الحضارة الغربية التي سارت في
طريق مسدود، وهو في "2001 أوديسّا الفضاء" يشير إلى أن الإنسان الذي بدأ
رحلته باختراع الآلة سوف ينتهي عبدا لها، كما أنه في "خزانة مدفع مليئة
بالطلقات" يرصد كيف تحول النزعة العسكرية الأمريكية البشر إلى أدوات غير
عاقلة للقتل. وبالمثل فإن أوليفر ستون يعكس في أغلب أفلامه حالة من الالتباس التي
يعيشها المواطن الغربي، فهو في "جي إف كيه" يحلل خليط المعلومات حول
اغتيال كينيدي، وكيف أن الحقيقة ضاعت وسط كل هذا التشوش، كما أنه في "أي يوم
أحد" يرى أن عالم الرياضة أصبح انعكاسا كاملا لوهم "الحلم
الأمريكي" الرأسمالي الذي يطحن الجميع.
لكن من الحق القول أيضا أن صناعة السينما الأمريكية لا
تسمح كثيرا بأن يكون للمخرج "رؤية" تنتظم أفلامه، لذلك فإن تلك النزعة
لا تظهر إلا في مجال "السينما المستقلة"، حيث يمارس المخرج أدوارا عديدة
في أفلام قليلة التكاليف، بلا مخاطرة كبيرة في شباك التذاكر. وعلى العكس تماما من
كل التوقعات، عرفت السينما المصرية "سينما المؤلف" دون أن تسميها كذلك،
وربما كان السبب هو أن صناعة السينما عندنا ليست من التعقيد بحيث تطلب درجة عالية
من تقسيم العمل، كما هو الحال في هوليوود، بل ربما كان الأمر بالنسبة للمنتج أفضل
(من ناحية التكاليف!!) أن يقوم المخرج بكتابة السيناريو أيضا.
لذلك يمكنك بقدر من التأمل أن تجد سينما المؤلف في مصر
عند مخرجين في مجال الأفلام التجارية، مثل أنور وجدي، الذي كان يترك مهمة كتابة
الحوار لغيره من المتخصصين، لكنه كثيرا ما يكتب القصة والسيناريو، مثل "غزل
البنات" و"ياسمين"
و"حبيب الروح"، وهو يصنع هذه الأفلام وعينه على شباك التذاكر، ليقدم
"توليفة" بالغة الطرافة من الرومانسية والميلودراما والمطاردات والغناء.
تماما كما كان حسن الإمام يميل إلى الحبكات الميلودرامية، التي يشتعل فيها الصراع
بين الخير والشر، والتسامح والانتقام، والجسد والروح، مثل أفلامه
"اليتمتين" و"بائعة الخبز" و"الجسد"، وإنك لو تأملت
القصة التي كتبها لفيلم "خللي بالك من زوزو" لوجدت فيها ذلك كله، وإن
كان سيناريو وحوار صلاح جاهين قد أضفى عليها روحا بالغة التفاؤل.
على النقيض من حسن الإمام تجد عز الدين ذو الفقار، وهو
أيضا لم يكتب سيناريوهات أفلامه وإن كان قد اشترك فيها، وترى عنده دائما روحا
رومانسية حزينة متشائمة تسري في أبطال تعذبهم البراءة، في عالم يخلو من هذه
البراءة، وحتى عناوين أفلامه تعكس هذه الروح، مثل "سلوا قلبي" أو
"وفاء" أو "موعد مع السعادة" أو "موعد مع الحياة"،
ومن المؤكد أن القارئ يتذكر تلك القلوب الصافية في "الشموع السوداء"
(تأمل العنوان هنا أيضا)، وهي تتحاب برغم كل الفوارق، بينما الشر يخيم بظلاله
ويهدد بالكارثة، وليس ما يدل على تلك الروح المتشائمة أكثر من وجود كلب أليف وفي
للبطل، بينما الشقيق لا يتورع عن تدبير جريمة قتل!
كذلك صلاح أبو سيف، الذي عمل كثيرا مع نجيب محفوظ كاتبا
للسيناريو، واختار في الأغلب قصصا تدور حول النوازع والغرائز البشرية التي تحدد
العلاقات الاجتماعية، وتجعل من البشر وحوشا، لا فرق بين "لك يوم ياظالم"
أو "شباب امرأة"، وإن كان قد خرج أحيانا من هذا العالم الغرائزي ليدخل
إلى التحليل الاقتصادي والاجتماعي في أفلام مثل "الفتوة"، ليرصد آليات
صعود طغاة السوق بمساعدة فساد السلطة، أو "بين السماء والأرض" حيث انحشر
المجتمع في لحظة تحول تاريخي، وهو أخيرا في "البداية" (هذه المرة مع
لينين الرملي كاتبا للسيناريو) يقدم حكاية رمزية عن تكون المجتمعات ونشأة السلطة.
لكن ربما كان الأجدر بمصطلح "سينما المؤلف"
بين المخرجين المعاصرين اثنين متميزين، رأفت الميهي وداود عبد السيد. أما الأول
فقد اختار ما أسماه "الفنتازيا" وهو إلى السخرية الجامحة أقرب، سخرية
يوجهها إلى أي شيء وكل شيء، إلى الفساد السياسي في "الأفوكاتو"، وإلى
علاقات الرجل والمرأة في "السادة الرجال"، والأخلاقيات السائدة في
"تفاحة"، وأمور وقضايا فلسفية يتعمد غموضها في "ميت فل"
(ويسميه بالإنجليزية "لنقتل أبانا")، لكن هذا الجموح المتزايد أدى
بسينما رأفت الميهي إلى نوع من الغربة ولا نقول الاغتراب، حتى أنها فقدت حسها
الثوري المفترض.
ويأتي داود عبد السيد، لا ليعكس عالما "كليا"
في أفكاره وأيديولوجياته، وإنما رغبة أعمق في التعبير السينمائي الصافي على طريقة
أنطونيوني وفيسكونتي، حيث لا يمكنك تلخيص العمل في "قصة" أو حبكة، بل لابد
لهما من التكامل مع العناصر البصرية. لذلك قد تسيطر السيريالية مثلا على
"البحث عن سيد مرزوق"، في ضياع الخط الفاصل بين الحقيقة والحلم، أو قد تطغى
روح أفلام العصابات في "أرض الخوف" برغم الإشارات التي تدل على أبعاد
فلسفية. وهذا الطموح قد أبعد أفلامه عن الجمهور العريض، وإن كان هو الطموح ذاته
الذي حقق لفيلمه "الكيت كات" جماهيرية فائقة ونجاحا نقديا كبيرا، لأنه
اعتمد على محاولة الوصول إلى فلسفة الشعب المصرى في بقائه على قيد الحياة، برغم
الظروف الطاحنة التي كانت كفيلة بالقضاء عليه. وبرغم اعتماد الفيلم على رواية
ابراهيم أصلان بنفس الاسم "الكيت كات"، فإنه يستحق أن يكون مثالا على
"سينما المؤلف"، التي لا نعرف عنها الكثير من الحقائق، وإن كنا نردد
عنها الكثير من الأساطير.
No comments:
Post a Comment