منذ مولد السينما في نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت "المدن" جزءا لا يتجزأ من العالم السينمائي، لأسباب عديدة تتعلق بالسينما والمدينة معا. فقد كانت تلك هي الفترة التي شهدت ولادة المدن باعتبارها مراكز حضرية رئيسية، وكانت دور العرض السينمائية تتركز في وسط المدن، لكن الأهم على الإطلاق أن السينما كانت الوسيط الفني الجديد القادر على اقتناص روح المدينة وتسجيلها على الفيلم، تلك الروح التي تبدو متغيرة على الدوام، يتفاوت إيقاعها بين الصباح والمساء، مما يخلق سيمفونية بصرية كاملة.
وبالفعل كانت أفلام المدن في بدايتها تشبه الأعمال الموسيقية في إيقاعها، مثل "برلين: سيمفونية مدينة"، أو فيلم "الرجل والكاميرا السينمائية"، وهي أفلام تسجيلية اعتبرت في حينها أعمالا تجريبية رائدة. لكن سرعان ما أصبحت المدينة خلفية تدور عليها الأحداث الدرامية، سواء ذات الصبغة السياسية مثل "روما مدينة مفتوحة" و"سارقو الدراجة" و"ماسحو الأحذية"، وهي الأفلام التي تجعلك تعيش في أجواء روما المدمرة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أو حتى الأعمال الذاتية مثل "روما فيلليني" الذي يبدو أقرب إلى صورة المدينة في عيني صانع الفيلم، أكثر مما هي في واقع الحياة.
وفي الآونة الأخيرة، ظهر فيلمان عالميان يفترض أنهما جزءان من سلسلة سوف تكتمل عن المدن، وهما "أحبك يا باريس" و"أحبك يا نيويورك"، لكن كلا منهما يقوم بناؤه على مجموعة من الأفلام القصيرة للعديد من المخرجين، حيث تصبح المدينة أشبه بالبلورة التي يمكن أن تراها في أشكال مختلفة من زوايا مختلفة، بعضها يسوده الحنين والشجن، وبعضها الآخر يحتشد بقدر غير قليل من السخرية والهجاء... بعضها عن شباب يتلاقى في المدينة لكي يعيش مستقبلا جديدا، وبعضها الآخر عن شيوخ يودعونها وقد وصلوا إلى نهاية رحلة الحياة... بعضها يعبر عن حقيقة، وبعضها الآخر ليس إلا وهما خياليا صرفا.
لكن نادرا ما كانت المدينة تحتل مكانا مهما في دراما السينما المصرية، حيث يمكن أن تدور الأحداث في أي مكان دون أن تشعر أن هناك شيئا مفتقدا. غير أن الأعمال القليلة التي كانت فيها المدينة خلفية مهمة للأحداث تركت أثرا باقيا في السينما المصرية، ولعل أول هذه التجارب كان فيلم "حياة أو موت"، عن فتاة صغيرة تخوض ما يشبه الرحلة القاسية في زحام القاهرة، وهي تحمل الدواء لأبيها المريض، بينما تحاول الشرطة اللحاق بها لأن "الدواء فيه سم قاتل"، تلك الجملة التي أصبحت من "فولكلور" السينما المصرية.
وهناك أفلام ارتبطت على نحو قوي بالمدينة التي تدور فيها الأحداث، مثل "بور سعيد" الذي أنتجه فريد شوقي لكي يسجل أحداثا روائية عن مقاومة بطولية، للمدينة التي واجهت عدوانا ثلاثيا، لتبقى في الذاكرة العربية رمزا للصمود. وكانت نفس المدينة – بور سعيد – هي المسرح الذي تدور فوقه ملحمة "القبطان"، الذي يمتزج فيه الواقع والخيال، الحقيقة والرمز، العام والخاص، لكي تصبح المدينة بوابة يطل منها صانع الفيلم سيد سعيد ليس فقط على التاريخ، وإنما أيضا على الحضارة التي جمعت بين الشرق والغرب، بل على الوجود الإنساني ذاته.
ولعل الإسكندرية تحتفظ لنفسها بمكان مهم بين أفلام المدن، وكثيرا ما تشاهد في أفلامنا المصرية شاطئ البحر بأمواجه التي تتلألأ بالأضواء عند الغروب، لكن القليل أيضا من هذه الأفلام هي التي يصبح فيها للإسكندرية وجود درامي مؤثر، ولعل الأقرب للذاكرة أفلام يوسف شاهين التي تحمل اسم المدينة ذاتها، مثل "اسكندرية ليه"، و"اسكندرية كمان وكمان"، و"اسكندرية نيويورك"، لكنها أيضا كمعظم أفلامه هي "اسكندرية ذاتية" إن صح التعبير، إنها المسرح الذي تدور فوقه الأحداث دون أن تكون جزءا من الأحداث ذاتها. والغريب أن هذا ينطبق أيضا على أفلام لا يمكن أن تصفها سوى بالهزل، مثل "بلطية العايمة" أو "صايع بحر"، فعلى الرغم من تصوير مشاهد من هذه الأفلام في أحياء حقيقية، فإن الشخصيات والقصص والحبكة ليست إلا تقليدا باهتا لما يمكن أن تراه في أي أفلام تدور في أي مدن أخرى.
ولعل غياب المدينة يلعب أيضا دورا في بعض الأفلام، ففي "الطوق والإسورة" و"عرق البلح"، يصبح للقرى النائية في الصعيد حضور قوي، يكاد أن يكون خانقا، وهو ما يصنع نسيجا لا ينفصم مع النهايات المأساوية للأحداث. أما في فيلم "البداية"، فقد أراد صلاح أبو سيف أن يضع شخصياته في مكان معزول، حتى يدفعهم لتكوين "مجتمع" جديد، يدرس من خلاله صانع الفيلم كيف تتولد الفوارق الطبقية، واحتكار السلطة، واستغلال جهل البسطاء. وهذا الاهتمام السياسي والاجتماعي بالمكان يعود إلى واحد من أفلام صلاح أبو سيف الأولى، وهو "الأسطى حسن"، الذي يتحدث عن اثنين من الأحياء المتجاورة في القاهرة: بولاق والزمالك، لا يفصل بينهما سوى جسر صغير، لكنه يعبر عن تفاوت طبقي هائل، كان يشغل اهتمام أبو سيف في معظم أفلامه، حتى لو اصطبغت كثيرا بالميلودراما الفاجعة.
لكن هناك مخرجا واحدا هو الأهم بين صناع السينما المصرية، التي تشكل المدن بالنسبة له "شخصية" من شخصيات الفيلم، وليست مجرد خلفية للأحداث. ذلك هو محمد خان، صاحب الذاكرة البصرية القوية اتي تمسك بروح المكان، على نحو لا يباريه فيه مخرج آخر. تأمل مثلا "موعد على العشاء"، حيث تصبح برودة المدينة الساحلية معادلا لفتور العلاقة بين الزوج والزوجة، وكيف أن البحث عن الدفء الإنساني يحدث دائما في مشاهد داخلية. وعلى النقيض، يصبح المشهد الخارجي المفتوح للمدينة ذاتها، في فيلميه "أحلام هند وكاميليا" و"فارس المدينة"، تعبيرا عن الرغبة في العثور على "بداية جديدة"، تنقذ الشخصيات من الأزمة الخانقة التي يعيشونها.
كما تصبح مدينة "المنيا" في شمال صعيد مصر بطلة في فيلمين من أفلامه، لأنها المدينة الصغيرة التي تحتضن شريحة مميزة من أبناء وبنات الطبقة الوسطى، يكاد عالمهم أن تقف حدوده عند الرحلة اليومية إلى العمل أو المدرسة، لكن الاضطرار إلى تركها يشكل صدمة للبطلة، تتسم بالمأساوية في "زوجة رجل مهم"، وعلى النقيض تبدو بمثابة البوابة التي تنفرج قليلا لكي يتسع العالم في "شقة مصر الجديدة". وهي الصدمة التي شكلت وعي البطل القادم من الريف في "مستر كاراتيه"، وهو يحاول التواؤم مع روح مدينة القاهرة، لكنها التجربة التي تنتهي إلى الفشل، لكي يعود إلى القرية، تلك التي وجد فيها بطل "خرج ولن يعود" ملاذا من الشعور بالضياع في المدينة الكبيرة.
ذلك هو الضياع الذي عاشه بطل أول أفلام محمد خان في "ضربة شمس"، وهو من أهم الأفلام التي تم تصويرها في أماكن حقيقية في شوارع القاهرة المختلفة، ويبدو هذا البطل مضطرا للهاث في سباق دُفع إليه دفعا، في مدينة تشبه الغابة في علاقاتها، وهو ما تكرر أيضا في فيلم "يوم حار جدا"، حين تصبح أجواء شوارع القاهرة المزدحمة خانقة لبطل يبحث عن صورة قديمة لعلاقات سابقة، فإذا هو يرتطم بما لم يكن يتخيله، من مؤامرة زوج على قتل زوجته حتى يرثها. ولعل هذا يذكرك أيضا بالبحث عن ماضي المدينة والوطن كله في فيلمه "عودة مواطن"، للبطل الذي عاد وهو يحلم أن يلم شمل الأسرة في منزل من ضاحية حلوان التي كانت في يوم ما هادئة، لكنه يكتشف أن حلمه لم يكن إلا وهما وسرابا.
ومن الحق القول إن بعض الأفلام التي صنعها رفاق من جيل محمد خان، لم تكن تخلو أيضا من ذلك الإحساس بالمكان. وإذا كان فيلم عاطف الطيب "ليلة ساخنة" يدور في ليلة واحدة في مدينة القاهرة، التي تكشف تحت سطحها عن أهوال، فإنها الليلة ذاتها التي يقضيها أبطال فيلم خيري بشارة "إشارة مرور"، وقد اضطروا لأن يعيشوا حالة حصار في وسط المدينة، وهي أيضا الليلة التي تكتسي برداء سيريالي لا يخلو من رمزية في فيلم داود عبد السيد "البحث عن سيد مرزوق"، حيث يجد البطل نفسها يمضي في تيار لا يملك مقاومته في أنحاء مختلفة من المدينة، بحثا عن شخص يبدو متحكما في مصيره، وكأن "سيد مرزوق" نفسه ليس إلا هذه المدينة التي تشبه أحيانا حورية فاتنة ساحرة، وتشبه في أحيان أخرى وحشا له عشرات الرؤوس... وليس هناك وسيط فني آخر لا يستطيع أن يقتنص هذين الوجهين المتناقضين سوى السينما، التي اقترنت منذ بدايتها بروح المدن.
No comments:
Post a Comment