من أجمل وأعمق الأفكار التى قرأتها لناقد سينمائى كانت إجابة على سؤال من قارئ, موجة إلى روجر إيبرت الناقد السينمائى الأمريكى الأشهر, حين سأله القارئ: "لماذا تكتب نقداً للأفلام؟", فأجابه إيبرت ـ وهو من هو بين النقاد الأمريكيين ـ إجابة على قدر كبير من البساطة والعمق: "إننى أكتب نقداً للأفلام لكى أفهمها", وهذا حقيقى تماماً بالنسبة للناقد الجاد الذى لا ينصب نفسه أبداً "قاضياً وجلاداً" على العمل الفنى, ولا يقوم بعميله "تشريح" الفيلم وبالطبع فإنه لا يستطيع أن يقوم بذلك إلا بعد أن يقوم "بقتل" الفيلم وتحويله إلى جثة هامدة يمكن تشريحها. العمل الفنى يا قارئي العزيز كائن حى, تستطيع أن تحبه أو تكرهه دون أن يلومك أحد, فهكذا نتعامل نحن جميعاً مع الحياة, كل من وجهة نظره، ولكن أرجوك ألا تصدر حكماً أخلاقياً قاطعاً مانعا، أبديا وأزليا،ً على أى عمل فنى, ونحن نحب ـ الحب بمعناه الحقيقى ـ من خلال "التفاصيل العادية", ولعل هذا يذكرنى بجزء من حوار على لسان الشخصية التى يقوم بها روبين ويليامز فى فيلم "ويل هانتينج الطيب", بأنك تكتشف أحياناً عمق حبك لامرأة برغم- بل الأحرى بسبب- كل التفاصيل الصغيرة التى قد يراها الآخرون نقائص.
تداعت هذه الأفكار إلى ذهنى وأنا أشاهد الآن فيلم "زوجة رجل مهم" بعد حوالى عقدين من عرضه الأول, شاهدته من قبل مرات عديدة لكن فات علىَّ إدراكى الكامل العديد من التفاصيل, لكن الآن وأنا أنوى الكتابة عنه بدأت فى "فهمه" على نحو أكثر عمقاً, وتذكرت ـ لأننى لم أكتب عنه فى وقت عرضه, فحينها لم يكن هناك أمامى مجال للنشرـ كيف تعرض هذا الفيلم للظلم مرتين: الأولى حين تم التعامل معه باعتباره "حدوتة" (وهذه للأسف سمة لصيقة بالأغلب الأعم من الكتابات النقدية فى مصر), انتهى فيها معظم النقاد إلى أن الفيلم يرفع عن "النظام" تهمة إساءة السلطة أحياناً, بينما الفيلم على العكس تماماً يدين النظام فى هذا المجال على نحو أكثر قوة وعمقاً بكثير إذا ما قارنته بأفلام معاصرة مثل "هى فوضى" و"حين ميسرة" و"خارج على القانون" و"الجزيرة", والتى تأتى فى موجة تبدو للوهلة الأولى نقداً للأجهزة الأمنية, لكنه النقد الذى يبدو سطحياً تماماً إذا دخلت إلى عمق "حدوتة" فيلم "زوجة رجل مهم". أما الظلم الثانى الذى تعرض له الفيلم أن القليل جداً من الكتابات هى التى تناولت تقنياته وجماليته, التى يمكن اعتبارها النموذج الأرقى للأسلوب السينمائى الخاص بمحمد خان, الذى يعتمد على البلاغة السينمائية التى تقوم عنده على عنصرين مهمين: المجاز البصرى metaphor , والحذف البلاغى Ellipsis.
وقد يندهش القارئ أن يقرأ الآن أننى لم أقابل محمد خان طوال حياتى- حتى كتابة هذه السطور- إلا مرات قليلة عابرة (جداً!!), لم نتبادل فيها إلا كلمات قليلة (جداً!!), بل ربما لم يتذكرنى هو فى بعض هذه المرات, ومع ذلك فقد حدثت مصادفة غريبة- لا أدرى ظروفها, وربما سقطت هى الآن من ذاكرته- حين فاجأنى محمد خان بالاتصال بى عبر الهاتف (لماذا أنا بالتحديد؟ ومن أين جاء برقم هاتفى الذى لا يعرفه إلا قليلون يعدون على أصابع اليدين؟ لا أدرى!!), كان صوت محمد خان غاضباً من قراءة مقال لأحد النقاد المشهورين (جداً), وكان المقال عن فيلم "مستر كاراتيه", وشكا لى خان قول الناقد أن "المونتيرة أحسنت صنعاً عندما حذفت المشهد الفلانى..", ليتساءل خان من أين للناقد أن يعرف أن المونتيرة هى التى "حذفت", وأن ما رآه الناقد على الشاشة هو "البناء الفيلمى" ذاته, وساعتها خشيت أن أقول لخان أن معظم من يمارسون النقد ليست لديهم دراية كافية بالتقنيات والجماليات وأساليب السرد السينمائية, وحاولت أن ألتمس للناقد الكبير العذر بأنها ربما كانت جملة من "كليشيهات" النقد لدينا, على طريقة "أبدع المصور", و"تفوق الممثل على نفسه", و"المونتاج ذكى وبارع".
لماذا هذه المقدمة الطويلة قبل الدخول إلى عالم فيلم "زوجة رجل مهم"؟ أصارحك القول ياقارئى العزيز أنها بسبب النشوة الحقيقية التى شعرت بها وأنا أشاهد المشهد الافتتاحى للفيلم, والذى أعدت مشاهدته مرات عديدة وكأننى "سَّميع" شعر "بالسلطنة" لتجويد المطرب فوجد نفسه يصيح: "الله! أعد يا سيدى والنبى!". أرجو أن تتأمل وتشاهد معى هذا المشهد شديد البلاغة والمشحون بقدر هائل من الشجن: عنوان على الشاشة: شتاء 1962, واللقطات الأولى تبدو وكأنه قد نزع عنها الألوان de-saturated حتى كادت أن تكون بالأبيض والأسود, لتبدأ الألوان فى التزايد تدريجياً مع تقدم المشهد, فتاة صغيرة (جيهان نصر فى براءة لم تظهر بها على هذا النحو فى أى فيلم آخر), إنها بملابس المدرسة, تحتضن الكتب فى صدرها, وتسرع نحو دار للعرض السينمائى لتشاهد فيلم "بنات اليوم" مع زميلاتها والجمهور, بينما يجلس عامل العرض يقرأ فى جريدة تحمل فى "المانشيت" الرئيسى لها اسم عبد الناصر, وكعادة دور الدرجة الثانية أو الثالثة ينقطع شريط الفيلم فيصفر الجمهور (مثلما حدث فى "أحلام هند وكاميليا"), ليسرع العامل بإصلاح العطل, وتذوب فتاتنا فى مشهد قراءة عبد الحليم للأغنية التى كتبتها ماجدة: "أهواك", ويبدأ حليم فى عزفها على البيانو وغنائها بصوته الشاب, بينما تسقط دمعة على خد الفتاة, وعندما يصل لحن الأغنية إلى اللازمة الموسيقية التى تنتقل إلى درجة موسيقية أعلى وشجن أعمق, يٌستكمل الغناء على حليم فى التليفزيون, وعنوان مكتوب على الشاشة: "ربيع 1975", والفتاة أصبحت الآن أكبر وأنضج (ميرفت أمين فى قمة بهائها، باستخدام فلاتر التصوير والإضاءة, وأرجو أن تقارن هذا البهاء الذى كانت عليه فى بداية الفيلم بانطفائها فى نهايته، لكن إذا دققت قليلا فسوف تجد الإثنى عشر عاما أكثر مما ينبغى كزمن حقيقى). إن هذه "النقلة" ليست فقط حيلة فنية للانتقال الزمنى, لكن اختيار محمد خان للمقطع الذى يحدث فيه الانتقال يعبر عن إحساس موسيقى بالغ الرهافة يشعر ـ حتى لو لم يكن عليماً بتفاصيل اللغة الموسيقية ـ بمعنى النقلات المقامية واللحنية. إن المشهد لا ينتهى فالفتاة التى تحمل اسم منى (وليبحث القارئ عن دلالة الاسم, الذى تكرر فى فترة مقاربة فى فيلم "الصعاليك" لداود عبد السيد) تخشى أن ينتهى الشريط الذى تسجل عليه الأغنية قبل استكمالها, فتجرى إلى المحل المفتوح المقابل لتشترى بعض الشرائط, وهناك يراها ضابط المباحث هشام (أحمد زكى, وأرجو أن تلاحظ الفارق الكبير جداً بين أدائه هنا وأدائه فى نفس العام فى "أحلام هند وكاميليا", وهو مالا يعبر فقط عن "موهبة" أحمد زكى, وإنما أيضاً قدرة محمد خان على إدارة الممثلين), ويسأل هشام- بطريقة تحقيقات رجل المباحث- صاحب المحل عن الفتاة, فيعرف أنها ابنة مهندس الرى الذى انتقل حديثاً إلى المنيا.
هل كانت "المونتيرة" وراء هذا الحذف البلاغى؟! أترك الإجابة للقارئ, لندخل قليلاً فى "الحدوتة" وتفاصيلها السينمائية, التى قد تبدو للوهلة الأولى غريبة على أبطال وبطلات محمد خان, لكننا فى النهاية سوف ندرك أنها تدور حول نفس البطل (وإن يكن هنا فى تنويع مختلف) ونفس "التيمة" المحورية التى تؤرق هذا البطل, ولعلها تؤرق محمد خان ذاته. وعندما تكتمل لك ملامح الشخصيتين الرئيستين (منى وهشام) كلما تقدمت بك الأحداث, وتجمعت لديك معلومات نثرها خان وكاتب السيناريو رؤوف توفيق، سوف تعرف أن الفتاة ولدت ونشأت وشاهدت أفلام عبد الحليم الأولى فى المنصورة, لذلك فهى تحمل قدراً من الرهافة والرومانسية (لعل هذا تحيز لمسقط رأسى ومرتع طفولتى حتى شبابى المبكر فالبطلة قد ولدت فى نفس زمان ومكان ولادتى) خاصة بين أبناء الطبقة المتوسطة, بينما جاء هشام من بين فلاحى الصعيد الذين يعيشون على بضع أفدنة, لكنه بمجرد أن أصبح ضابطاً تنكر لأصوله وانسلخ عن طبقته, لأنه- وهذه هى القراءة المباشرة للفيلم ـ أصبح من "السلطة". لكن القراءة المتأملة لشخصية هشام تقول أنه ذلك البطل الذى لا يشغله سوى عمله- كمعظم أبطال خان الآخرين ـ حتى أنه لا تصبح لديه حياة شخصية حميمة, وتفانيه فى عمله كضابط مباحث ناجح جعله يحمل فى كل حركاته وسكناته ملامح "المحقق" الذى يضع الآخرين فى موقع الفريسة التى يطاردها حتى يمسك بها, وهذا ما فعله مع منى ذاتها, يستعرض أمامها قدراته على الأمر والنهى, فبمجرد إشارة من إصبعه يظهر "مخبر" لكى يتغير لها ولأسرتها طبق اللحم النيئ, ويظهر على الفور رجال "البلدية" يرصفون الشارع الذى يسكنون فيه, ويذهب مع مدير الأمر شخصياً (عثمان عبد المنعم, ولتتأمل وتتعجب من مقارنة دوره هنا مع دوره فى "أحلام هند وكاميليا" أو العديد من أفلام خان الأخرى!) لخطبة منى كأنه "أمر" موجه إلى الأب (على الغندور).
فى بداية مشهد الخطبة لفتة عابرة لا أدرى إن كانت عفوية أو مقصودة, لكنها تجسد الحس "التسجيلى" عند خان، هذا الحس الذى سوف يتخلل معظم مشاهد "زوجة رجل مهم" والعديد من أفلامه (على سبيل المثال وليس الحصر: سوق الحمام فى "عودة مواطن"), إن المشهد يبدأ بطائرة ورقية تسبح فى الفضاء, لتتحرك الكاميرا حركة بانورامية إلى الأب والأم جالسين فى "غرفة الجلوس" مع مدير الأمن الذى جاء بصحبة هشام, وإنى استبعد أن يطلب محمد خان من فريق الإنتاج تحضير هذه الطائرة الورقية لتضمينها فى المشهد, والأقرب إلى الاحتمال هو أنه "اقتنصها" بعينه الفاحصة المتأملة اللاقطة للتفاصيل فى موقع التصوير, سواء انطلاق الطائرة الورقية فى عنان السماء فى تلك المرحلة من التطور الدرامى, فى مجاز للانطلاق العفوى عند الفتاة منى, كما تتبدى هذه التفاصيل فى لقطة قريبة لأذنها وقرط متواضع يزينها وهى تسمع كلمات هشام المعسولة, لتقارنها فى مشاهد لاحقة فى الفيلم بلقطة قريبة لأذنها فى قرط ثمين, وهو يداعبها ويسألها عن زملاء الجامعة, لنعرف فيما بعد أنه كان يستنطق منها ـ دون أن تدرى ـ معلومات تمكنه من القبض على من يتصور ـ أو يصورهم ـ أنهم "ضد النظام".
عشرات التفاصيل الأخرى ربما سوف تجد بعضها فى هذا الكتاب فى الجزء الخاص بمحاولة البحث عن ملامح عامة لمجمل أعمال محمد خان, لكن ما يهمنا هنا هو أن البطل هشام سوف ينتقل من المنيا إلى القاهرة مكافأة له على إتقانه لعمله, وسوف يأخذ منى معه إلى شقة أعدها مسبقاً لتكون مسكن الزوجية حتى قبل أن يختار لنفسه عروساً, ويؤكد لمنى فى حسم: "أنا متأكد أنها ها تعجبك", عندما نراها نجد أن اللون الأبيض يغلب عليها تماماً حتى أنها تكاد أن تخلو من روح الحياة, بينما تتوزع المرايا فى كل مكان التى يرى فيها هشام نفسه كأنه طاووس معجب بجماله (أو بالأحرى سلطته), وفى تطور العلاقة بينهما سوف تمر منى بتجربة الإجهاض (إنه زواج عقيم لا ينجب علاقة حميمة), وتشعر يوماً بعد الآخر أنها فى سجن, خاصة عندما تقارن نفسها بجارتها سميحة (زيزى مصطفى) التى تحكى فى طرافة حقيقية عن قدرتها فى أية لحظة على تغيير أثاث بيتها, حتى أن زوجها رجل الأعمال صفوت (خيرى بشارة- مرة أخرى فى دور فيه بعض ظلال "الغلاسة", على الأقل من وجهة نظر هشام!) عاد ذات يوم من عمله فلم يجد أثاث الشقة فصرخ "اتسرقنا"!
إن السجن يضيق على منى عندما تجد نفسها أيضاً "أداة" فى يد هشام لكى تتقرب إلى زوجة رئيسه فى العمل العميد يسرى (حسن حسنى), أو عندما يجبرها على حضور حفلات رجال الأعمال وأعضاء مجلس الشعب فى الوقت ذاته, وهم يتحدثون فى سخرية عن السد العالى وإنجازات عبد الناصر, بينما يتشدقون بمزايا "الانفتاح" والاستثمار وتصفية القطاع العام, وهنا نشير لمن انتقد الفيلم باعتباره يبرئ "النظام" بتصوير هشام على أنه شخص "منحرف" وحالة فردية, نشير إلى أن الفيلم يقدم "السياق" الاقتصادى والاجتماعى الذى تكاد ملامحه وآثارة تمتد حتى "هنا والآن", كما أن "النظرية الأمنية" التى يتفوه بها هشام هى ذاتها التى زالت سارية المفعول حتى كتابة هذه السطور, إنها نظرية "حماية البلد", والتى ينقدها الفيلم على لسان الكاتب الصحفى مجدى عز العرب (محمد دردير) المتهم بخيانة النظام والكتابة فى صحف خارجية (فى الحقيقة أنه ممنوع من الكتابة فى مصر, بتعليمات شفهية كما يحدث دائماً), إن الرجل يواجه هشام- كأنه يواجه أصحاب النظرية الأمنية جميعاً: "مين اللى فهمك أصلاً أنك أكتر وطنية منى اللى قبضت عليهم, الحرب اللى أنت بتتكلم عليها مش موجودة إلا فى تفكيرك وتفكير اللى زيك, اخترعتوها عشان توقعوا الناس فى بعض وتلخبطوا الحاكم وتشغلوا الناس بأعداء وهميين", وهى كلمات تختفى وراء حدوث دراما الفيلم فى السبعينات, لكن المتفرج عندما يراها الآن يدرك أنها ما تزال تنسحب على اللحظة الراهنة, تماماً كتجاوز جهات أمنية فى إجراءات القبض على مشتبه بهم, ليس مهماً أن يكون بعضهم خارج البلاد أو يعملون "مرشدين" لدى الأمن ذاته (!!), أو مثل الإعلام: "مش عايزين الناس تفكر فى اللى حصل", كما قالت الجارة سميحة تعليقاً على إذاعة مسرحية "مدرسة المشاغبين" فى نفس وقت حظر التجول فى أعقاب مظاهرات 18و 19 يناير 1977.
وإذا كان الفيلم يمضى إلى قيام السلطات بفصل العميد يسرى وهشام على تجاوزاتهما, فإنه لا ينفى أيضاً فى هذه التفاصيل العديدة عن "النظام" كله نوعاً من الانحراف عن "خدمة الشعب" لمصلحة "السلطة", تلك السلطة التى هى محور أزمة هشام, فعندما ضاعت منه بدأ كأن وجوده كله قد ضاع, ليدخل فى "تمثيلية" يقنع بها منى- ونفسه أحياناً- أنه مايزال يملك القوة على الأمر والنهى, لكن "الزمن تغير" به (وليس بالوطن), وهنا نرى أزمة بطل محمد خان: الزمن!! فالزمن هو التيمة المحورية خلف كل تلك "الحدوتة", فقيام منى بتسجيل أغنيات عبد الحليم بتنويه بصوتها بمكان وزمان تسجيلها هو نوع من الحفاظ على "الذاكرة": "كل أغنية مرتبطة بمكان اتنقلت فيه, بمناسبة خاصة بيًّا", وعندما يموت حليم فى ربيع 1977ـ بعد شهور قليلة من أحداث يناير وفصل هشام من الخدمة ـ تسمع أغنية "أنا لك على طول خليك ليًّا" لكنها تدرك أن الزمن الحاضر يهرب دائماً ليصبح ماضياً, على عكس هشام الذى يريد "تثبيت"fixation الماضى, يريد الحفاظ على سطوته وحب منى له حتى أن ممارسة الجنس معها تشبه الاغتصاب, ويذكرها بالأيام الخوالى عندما كانت كل الأبواب تفتح له بإشارة منه وإعجابها بذلك: "مش إنتى اللى كنتى بتقولى كده؟", فترد فى لقطة قريبة على شفتى كل منهما (وكأنه تأكيد على هذه التيمة المحورية): "كنت عيلة", يقول هشام: "وعايزك تفضلى دائماً عيلة", لكن منى: "أنا كل يوم بااكبر وباافهم".
هشام إذن فى حقيقته "دون كيشوت" آخر من بين "دون كيشوتات" عديدين فى أفلام محمد خان, ذلك "المجنون" الذى يعيش فى "فروسية" الماضى, ولا يعترف بحقائق الحاضر الجديدة فيمضى نحو النهاية المأساوية, وكل الفرق فى بطل "زوجة رجل مهم" هو إن محمد خان جعل بطله هذه المرة "فارساً" من فرسان السلطة, بدلاً من أن ينتمى إلى حضيض المجتمع أو أحراش عالم رجال الأعمال, وانتماء هشام إلى السلطة ورجال المباحث والشرطة والأمن هو الذى جعل معظم الكتابات النقدية لا تلمس أنه ليس إلا تنويعاً- بمعنى من المعانى- على بطل محمد خان الدائم, فى حربه ضد الزمن. وسوف يدهشك فى أفلام محمد خان الأخيرة- كما سوف ترى- مثل "بنات وسط البلد" و"فى شقة مصر الجديدة" أن بطل محمد خان قد تغير (هل خان نفسه هو الذى تغير؟!), فأصبح هذا البطل أقرب إلى الامتثال وليس التمرد, تاركاً نفسه يسبح مع الزمن وتغيراته, لا ينظر إلى الماضى (إن بطل "فى شقة مصر الجديدة" لم يحاول أبداً أن يعرف محتويات الشقة, بل إنه يتصور أن فيها- فى الماضى؟!- "عفاريت"!!), كما أن البطل الذى لا يلتفت إلا على عمله تاركاً المرأة والعائلة والاستقرار تأتى فى المرتبة الثانية تحول إلى البحث عن هذا الاستقرار, فالمرأة بدورها أصبحت أكثر قوة حتى فى ضعفها, ولم يكن غريباً أن يعمل بطل "بنات وسط البلد" فى مهنته" الشيف", ليقوم هو "بالطبيخ" بينما حبيبته تدخن سيجارة!
ليس غريباً أيضاً أن يكون إهداء الفيلم إلى "زمن" عبد الحليم, كأفلام أخرى مهداة إلى "أزمنة" أخرى, وكل أفلام خان- أو معظمها- تشبه شرائط منى التى تسجل عليها مكان وزمان الأغنية, وفى كل فيلم لخان تستطيع أن تجد هذا الزمن, الذى يستطيع- كفنان- أن يقوم باقناصه وتثبيته على شريط السليولويد, تاركاً فيه أيضاً بعضاً من روحه وذكرياته الخاصة وقت صناعة الفيلم, لكنه- كفنان أيضاً- يستطيع أن يتجاوز هذا الزمن إلى زمن آخر, قافزاً بحرية بين الماضى والمستقبل, لكنه- مثل بطله - يبدو أن عشقه الأول لعمله, لفنه, وقد يحمل له ذلك قدراً من الإشباع والسعادة والمتعة, لكن هل يمكنك أن تنكر أن فى القلب من معظم أعماله تسرى روح من التشاؤم والسخرية المرة... وهل نقول أيضاً: الاكتئاب؟!
No comments:
Post a Comment