عندما كنا مانزال فى ريعان الشباب، كانت هناك سينما سياسية ثورية تجتاح العالم كله، وكنا ننتظر أن تتحقق الثورة ويأتى يوم تسود فيه العدالة لكل بنى البشر، لكننا أصبحنا فى الفترة الأخيرة "مابعد حداثيين"، فقد انتهينا ( أو أنهونا) إلى أن مثل هذه الثورات "باطل الأباطيل وقبض الريح"، وإذا كانت التحولات الدراماتيكية فى العالم – كما حدث ويحدث عبر التاريخ الإنسانى كله – قد أفقدتنا بعضا من روح التفاؤل، فقد أسرع إخواننا ما بعد الحداثثين لاستخدام هذه التحولات للوصول إلى مقولة "نهاية عصر الأيديولوجيات" مع أن هذه أيديولوجيا فى حد ذاتها!! كما أكدوا لنا أن هناك "حقيقة" واحدة، هى أنه لا توجد حقيقة على الإطلاق!! ويبدو أن فيلم "الجنة الآن" يسير فى هذا الطريق ما بعد الحداثى، لأنه "يبدو" أنه يثير عشرات الأسئلة دون أن يجيب عن واحدة منها، وإن كان تحت السطح ينحاز إلى إجابة بعينها وكأنها بؤرة الفيلم المختفية.
وبما أننا ذكرنا سينما السبعينات الثورية فقد كان هناك فيلم إيطالى يدعى "ساكو وفانزيتى"، يحكى عن اثنين من العمال، أحدهما أيديولوجى قوى البنية بينما الآخر متردد ذو جسم هزيل، وعندما يتعرضان للاعتقال والتعذيب فإن الفيلم ينتهى إلى تخاذل الأول بينما يزداد صمود الثانى وإيمانه بضرورة الثورة. هذان هما على نحو ما بطلا فيلم "الجنة الآن" اللذان يكلفان بمهمة "انتحارية"، فإذا بالبطل الشجاع يتراجع لكن البطل المهتز يزداد تصميمه على تنفيذ المهمة. فى قلب الفيلم إذن تدور الأحداث حول جدوى العمليات "الانتحارية"، لكن هل عرض الفيلم هذه القضية بالموضوعية ـ ولا نقول الحيادية ـ المفترض أن تتجسد فى الشخصيات التى نراها على الشاشة؟ يقول الفيلم أنه يدور فى مدينة الخليل، ويالهول ما يحدث كل يوم فى هذه المدينة المناضلة منذ عام 1967، لكننا نراها فى الفيلم مدينة هادئة لا يعكر صفوها إلا بعض نقاط التفتيش "اللطيفة" التى تذكرك بلجان المرور عندنا، وإذا أردت أن تغيظ هؤلاء الجنود الإسرائيليين فما عليك إلا أن تفعل مثل بطلة الفيلم التى تحشو حقيبتها بملابس تشكل ألوانها ألوان العلم الفلسطينى! وفى حدوتة الفيلم لن تعرف على وجه اليقين ماهو دافع البطل المقدام للاستشهاد، أما الثانى المتردد فسوف تكتشف أن دافعه أقرب إلى "التطهير النفسى"، فهو يريد أن يمحو عار أبيه الذى "أعدمه" الفلسطينيون لتعاونه مع الاحتلال.
فى الخلفية من الأحداث سوف ترى مجموعة من الشخصيات بلا ملامح، مهمتهم إعداد البطلين للاستشهاد فى مشاهد من المؤكد أنها "فولكلورية" للمتفرج الغربى ( قارن لقطات الغُسل على سبيل المثال كأنه إعداد للدفن)، لكن هؤلاء يفتقدون عن عمد أى دعم درامى لموقفهم مما يجعلهم يبدون وحوشا لا قلوب لها، يدفعون الآخرين للموت بينما يبقون هم على قيد الحياة، وأرجو أن تتأمل كيف تتحول عملية تصوير رسالة الاستشهادى إلى أهله ـ مع توقف الكاميرا عن العمل مرة بعد أخرى ـ على أنها عملية لا تختلف عن تفاهات الحياة اليومية، خاصة فى انهماك المصور فى التهام الشطائر واقتسام الآخرين للسجائر وانصرافهم أحيانا عن "البطل" الذى يأخذ الأمر وحده على محمل الجد والتقديس.
أما "ضمير" الفيلم فيتجسد فى الفتاة الفلسطينية المغتربة (وكأنها تجسيد لصناع الفيلم أنفسهم) التى تؤكد أن "الجنة الآن" وليست ما بعد الموت، وأنه لابد من طريق آخر غير العمليات الاستشهادية لمقاومة الاحتلال، ولم يقل لنا صناع الفيلم إن كانت من بين الاختيارات المطروحة علينا اتفاقية أوسلو أو كامب ديفيد أم شرم الشيخ أم خارطة الطريق؟! الغريب أن فيلما ذا انتماء فلسطينى مثل "الجنة الآن" يغفل تماما السياق شديد القسوة الذى يصنع "العقلية الاستشهادية"، بينما ينجح الفيلم الأمريكى "سيريانا" مثلا فى رسم التفاصيل التى تمتد عبر خريطة الكرة الأرضية لتصنع هؤلاء الاستشهاديين. وأرجو أن تتأمل هذا الابتزاز العاطفى المقتبس عن أفلام التشويق بدءا من هيتشكوك وحتى "ميونيخ" سبيلبيرج، لظهور طفلة تلهو فى المكان المفترض تفجيره، مما يسمح لصانع الفيلم أن يتلاعب بمشاعر وأفكار المتفرجين، لكن لو كان الفيلم منصفا بحق لأظهر جنازات الأطفال الفلسطينيين الذين يلقون مصرعهم كل يوم برصاصات الاحتلال.
هل نحن فى حاجة للاعتذار للعالم عن عمليات استشهادية ليست بأى حال مقتصرة على الفلسطينيين أو المسلمين كما يصور الإعلام الغربى؟ فماذا عن اليابانيين والتاميل وبادرماينهوف والألوية الحمراء؟ بل ماذا عن التفجيرات التى دبرها الصهاينة أنفسهم فى بداية الخمسينات وسط دوائر اليهود فى مصر والعراق لدفعهم للهجرة إلى فلسطين؟ إن هناك خطا رفيعا بين الإرهاب والمقاومة، ونحن لا نطلب ولا نريد من الفيلم أن يعطى المقاومة صفة الانتقام المبرر، لكننا نريد منه أن يجعلنا ويجعل العالم أكثر وعيا بحقيقة الصهيونية والاحتلال الإسرائيلى، وفى هذا السياق فإننا لا نستطيع ـ أيا كانت المبررات أن نقبل وجود هذا الاحتلال كأمر واقع حتى لو أعطانا نموذجا على تحقيق "الجنة الآن" كما ظهرت فى الفاتنات لابسات البكينى على شاطئ تل أبيب!! لكن لأننا نعيش فى عصر مابعد الحداثة المزعوم، فليست هناك من حقيقة واضحة حول أى احتلال، فله كما لكل شئ أسماء مضللة كالعودة إلى أرض الميعاد أو "فرض" الديموقراطية فى الشرق الأوسط، أو الدعوة لتعايش مسنحيل بين العرب والصهاينة (ولا نقول اليهود بأية حال)، ولو كان الفيلم يملك الرؤية الأقرب للموضوعية، واعترف أن "الإسرائيلى" (مرة أخرى نؤكد أننا لا نقول "اليهودى") هو صهيونى الفكر والممارسة، وهو الذى لا يقبل إلا بنفى وجود غيره من البشر، نقول أنه لو اعترف الفيلم بذلك لأضاف إلى عنوانه كلمة واحدة ليصبح عنوانه دعوة لتحقيق "الجنة هنا، والآن"!
Monday, October 18, 2010
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment