فيلم "كيف تروض تنينك؟"
أجمل ما فى الأفلام الموجهة للأطفال، والمكتوبة جيدا، أنها تحتوى دائما على مستويات عديدة للتلقى. وهى فى هذا تشترك مع كل عمل فنى أصيل فى أنه يبدو على السطح بسيطا سهلا، لكنك تشعر أن هناك معانٍ خفية بين السطور (يطلق عليها أهل السيميولوجيا بمصطلحاتهم المعقدة "النص الفرعى")، إن هذه المعانى العميقة تلمس وترا عميقا في وجدانك وعقلك، وتدفعك إلى اكتشافها، لتدرك أن "فيلم الأطفال" الجيد والجاد أكثر أصالة من العشرات من أفلامنا المصرية الراهنة، التى نصنعها بقدر كبير من "الفهلوة" بمعناها السلبى، ونتفرج عليها وقد أعطينا عقولنا ومشاعرنا إجازة.
إن هذه المستويات المتعددة للمعنى فى أفلام الأطفال المتميزة تعود إلى أن صناعها يدركون الرابطة الوثيقة التى تربطها بالأسطورة، وفى كتب الدراسات السينمائية يمكنك أن تقرأ – على سبيل المثال – أن جورج لوكاس درس الميثولوجيا لكى يبدأ فى صنع سلسلته عن "حرب النجوم". فالأسطورة التى وُلدت بدورها فى طفولة الفكر الإنسانى، ويمتزج فيها الفن والدين وصورة بدائية للعلم، هذه الأسطورة تخاطب بداخل الإنسان مخاوفه وأحلامه مها، وتحاول أن تقدم لأسئلته الوجودية إجابات تبعث له الثقة بنفسه، حتى لو كانت بمفاهيمنا المعاصرة تعتبر إجابات ساذجة. إن هذه الأسئلة تبدأ وتنتهى دائما بعلاقة الإنسان بالعالم من حوله، سواء كان هذا العالم هو الكون الغامض الممتد بلا نهاية، أو كان العالم هو المجتمع الصغير الذى يعيش فيه الفرد محاولا الدفاع عن ذاته الفردية، والذوبان فى المجموع فى نفس الوقت.
كثيرا ما تدور أفلام الأطفال الأمريكية حول هذه الأزمة (الصراع بين الفرد والجماعة)، ويمكنك أن تلاحظ بشكل عام أن هذه الأفلام تمتد بين نقيضين متعارضين، تمثلهما شركة "بيسكار" من جانب، وشركة "دريم ووركس" من جانب آخر، وإذا أردت مثالا واضحا على هذا التناقض فإليك فيلمين، كلاهما من بطولة "نملة"، الأول هو فيلم شركة بيكسار "حياة حشرة"، الذى يؤكد أن العدوان على مجتمع النمل لن تتم مواجهته إلا من خلال تكاتف الجماعة، أما الفيلم الثانى فهى "النملة زِى" لشركة دريم ووركس، حيث البطل لا يهتم إلا بفرديته المطلقة، وهى الفردية التى يزعم الفيلم أنها السبيل الوحيد للخلاص.
لذلك فإننى أحب أفلام شركة بيكسار المرهفة والعميقة، مثل "البحث عن نيمو" و"شركة الوحوش المتحدة" و"الخارقون"، ولا أخفى كراهيتى لأفلام دريم ووركس الخشنة الغليظة مثل سلسلة "شِريك" و"حدوتة سمكة القرش". لكننى أعترف بأن مشاعر المفاجأة استولت علىّ مع الفيلم الأخير لشركة دريم ووركس "كيف تروض تنينك"، حتى أننى أتصور أنها تأثرت على نحو ما بأفلام شركة بيكسار. ففى هذا الفيلم لم يعد البطل هو الشخص المغرق فى ذاتيته (ويحتفى به وبها الفيلم ويكرسهما)، لكنه البطل الذى يمكن لكل متفرج طفل أو بالغ أن يشعر أنه يشبهه على نحو ما، لأنه يخوض "رحلة" داخلية وخارجية معا، إنه يرفض الامتثال للقيم الاجتماعية السائدة من حوله، بقدر ما هو مرفوض من المجتمع لاختلافه الواضح عما هو مألوف ومقبول، لكن الرحلة المضنية سوف تنتهى بقبول المجتمع له، وبنضجه فى التعامل مع هذا المجتمع.
تلك "الرحلة" هى ما يطلق عليه علماء الأنثربولوجيا والاجتماع مصطلح "طقس العبور"، وهو مصطلح مأخوذ عن ممارسات القبائل البدائية (وحتى المدنيات المعاصرة، وإن اختلفت الطريقة)، عندما تفرض على الصبى لكى يثبت "بلوغه" أن يخوض اختبارات قاسية مؤلمة، وهذا الألم – الذى عايشه كل منا على نحو ما، وربما ما يزال يعايشه أيضا – هو الثمن الباهظ الذى يجب علينا أن ندفعه لكى يتحقق هذا الهدف المزودوج النبيل: ألا ندع القيم السائدة تفرض علينا بلادتها وتقيد حريتنا فى الاختيار، فى نفس الوقت الذى ننجح فيه فى أن نؤثر فى الآخرين بقدر تأثرنا بهم. إنها العلاقة الناضجة بيننا وبين العالم، وإن كانت فى السياق المضطرب الذى نعيش فيه علاقة مبتورة مشوهة.
العالم الخارجى فى فيلم "كيف تروض تنينك" هو مدينة رمادية فى بلاد "الفايكينج"، مدينة لا تشعر بالاستقرار لأن هناك على أطرافها أنواعا مختلفة من التنانين، لا تتوقف عن الهجوم على المدينة واختطاف المواشى منها، لذلك فإن أهل المدينة يكرسون كل حياتهم لمحاربة هذه الوحوش، ولذلك أيضا فإن الرجل "العادى" فى بلاد الفايكنج هو عملاق ضخم الجثة متجهم الملامح، لا تكاد المشاعر الرقيقة أن تعرف طريقها إلى قلبه. فى هذا العالم ولد بطلنا الصبى هيكاب (زغطة!)، نحيل الجسم، مرهف الأحاسيس، حتى أن الآخرين من الكبار وأقرانه الصغار يسخرون منه دائما، والمفارقة الساخرة المؤلمة أن هيكاب ليس إلا ابن زعيم القبيلة ستويك، الذى يكاد أن يشعر بالعار من أن ابنه ليس فايكينج أصيلا. وهنا ندخل إلى العالم الداخلى لبطلنا الصغير، إنه يريد أن يكون نفسه لا كما يريده الآخرون أن يكون، وهو يدرك تماما أنه لا يحب أن يصبح رجلا قاسيا فى هذه المدينة الكئيبة التى لا تعرف للحياة معنى أو هدفا إلا قتل التنانين التى تحيط بمدينتهم.
بعد أن يؤسس الفيلم للشخصية الرئيسية وأزمته الداخلية، والتى هى فى جوهرها انعكاس لواقع خارجى خارج عن إرادته، يبدأ الصراع الدرامى. إن الجميع ينصحونه: "توقف أن تكون نفسك!"، ويشيرون إلى جسده الهزيل، وهو يريد أن يكون "طبيعيا" وسطهم حتى يتوقفوا عن السخرية منه، لذلك فإنه يذهب متسللا من خلف الجموع التى انشغلت بمحاربة التنانين، ويجرب أن يصطاد تنينا بأداة بسيطة اخترعها، وبالفعل فإنه يصيب التنين المعروف باسم "غضب الليل"، الذى لم يره أحد أبدا ثم عاش ليروى ماذا رأى، لأنه أخطر التنانين جميعا، لكن المشكلة أن أحدا لا يصدق هيكاب ويغالون فى السخرية منه.
يذهب هيكاب فى الصباح التالى باحثا فى الغابة عن المكان الذى يفترض أن "غضب الليل" قد سقط فيه، وبالفعل يجد التنين سجينا فى شبكة الحبال وقد فقد نصف زعنفة ذيله فأصبح عاجزا عن الطيران. هذا هو أحد أكثر مشاهد الفيلم رهافة فى المعالجة: كيف ستكون المواجهة بين هيكاب وتنينه؟ إنه يدرك أن مشاعره لن تسمح له بقتله، فيفك أسره، وعلى طريقة "أندروكليز والأسد" يتعامل برقة مع التنين الجريح العاجز عن إطعام نفسه، ويعطيه سمكة ويطلق عليه اسم توثليس (الأهتم) لأنه يستطيع إخفاء أسنانه عندما لا يحتاجها، وتنشأ بينهما علاقة رقيقة تزداد عمقا، يحاول فيها هيكاب أن يصلح الذيل المكسور للتنين، ويتعلم كيف يربت عليه فإذا به يربض فى سكينة كقطة وديعة، كما يعرف أن التنانين تخاف من سمكة صفراء، وهى المعرفة التى سوف تفيده فى معاملة التنانين.
لقد قام هيكاب بترويض التنين، لكنه تعلم أيضا من خلال هذا الترويض، وفى الحقيقة أنه ترويض متبادل، ومن الطرائف ذات الدلالة أن كريسيدا كاول مؤلفة سلسلة الروايات التى أخذ عنها الفيلم مادته، كتبت نفس القصة مرة أخرى من وجهة نظر التنين توثليس، وجاءت القصة بعنوان "كيف تروض فايكينجك"!! سوف يستخدم هيكاب ما تعلمه عندما يتدرب مع أقرانه الصغار على محاربة التنانين، فينبهرون بقدرته الغامضة التى أتته بعد شهرته وسطهم بالخوف، كما أنه سوف يثير غيرة الفتاة "الفايكينجية" أستريد، الفاتنة المقاتلة، لأن الصبى النحيل سرق منها نجوميتها فى ساحة التدريب.
تتسلل أستريد فى الغابة خلف هيكاب لنعرف سره، فتدرك حقيقة علاقته بالتنين توثليس، إنه يبدو للوهلة الأولى قد تخلى عن عقيدة الفايكينج فى قتل التنانين فتثور عليه، لكنها تغير رأيها عندما يصحبها هيكاب فوق ظهر التنين ليطير بهما فى الفضاء فى مشهد فاتن ساحر. العقدة الدرامية الآن أصبحت تتركز فى انبهار الأب بمواهب ابنه التى خفيت عليه، وهو ما يجعل الأب يقرر أن يقبض على توثليس ليقوده ورجال القبيلة إلى عش التنانين للقضاء عليهم، برغم رفض هيكاب لذلك، وهنا أتركك تكمل مشاهدة الفيلم بنفسك، لتعرف كيف انتهى الصراع.
فلنعد إلى "طقس العبور" فى تلك المرحلة الحرجة من العمر، أو قد يمتد إلى السؤال الذى يستمر طوال الحياة: هل أرضخ للقبيلة، أو أتمرد عليها؟ أم أن هناك إمكانية للتفاعل الخلاق بينى وبينها برغم اختلافى عنها؟ يؤكد الفيلم أن الاختلاف حق مشروع ومطلوب لإثراء الحياة، المهم أن "تكون نفسك"، أن تحقق ذاتك لا أن تسعى لإثارة إعجاب الآخرين ورضاهم، خاصة الآخرين الذين ترفض قيمهم ومعاييرهم المشوهة المريضة. وفى طقس العبور هذا سوف تعانى فى البداية من الألم والإنكار والاستنكار من جانب الآخرين، حتى "تنينك" سوف يتألم، وهنا أود أن أشير إلى أن إضافة التنين إليك تعنى أنه جزء منك، إن التنين لا يوجد خارجك، إنه فى داخلك وفى أعماقك، إنه الخوف والقلق والقوة الحبيسة التى تخشى أن تنطلق من عقالها، والتصالح مع التنين بداخلك هو الذى سوف يجعلك تنجح فى طقس العبور، ويجعلك "تطير" فى أجواز الفضاء، وحلم الطيران فى علم النفس والميثولوجيا يعنى دائما الإحساس بالتحرر والانطلاق، ولا يخلو من تفسيرات فرويدية، وأرجو أن تتأمل جيدا مشهد طيران هيكاب وأستريد فوق ظهر التنين، يبدأ بالخوف وينتهى بالنشوة، فى سماء ملونة حيث يمكنك أن تلمس السحاب، وتسمع موسيقى ملائكية ناعمة، كما يمكنك أن تربت عنق التنين فى امتنان لأنه حقق لك هذه الرحلة الحلم.
تأتى هذه المعانى وغيرها من خلال أسلوب التحريك شديد الإمتاع والإبهار، فمدينة الفايكينج تبدو فى البداية رمادية يخيم عليها الظلام، بينما هى فى النهاية مشرقة زاهية الألوان، فى إشارة للتغير الدرامى الذى حدث لأهلها، والتنانين مزيج من الزواحف والحيوانات المائية والطيور الملونة والقطط مع بعض الملامح الإنسانية (إنك لن تنسى عينى توثليس الجريح وهو يتوقع أن يغمد هيكاب خنجره فى قلبه)، ناهيك عن معارك الأطفال المضحكة فى تدريبهم على قتال التنانين، ورحلة الفايكينج فى مراكبهم عبر البحار.
تأمل أيضا تلك النهاية غير التقليدية لبطل فيلم من أفلام الأطفال: إن هيكاب يفقد إحدى ساقيه فى المعركة الأخيرة، تماما كما كان التنين توثليس قد فقد نصف زعنفة ذيله، فهما وجهان لعملة واحدة، ولا مبرر لخوف الفايكينج من التنانين. فى حوار بين الأب والابن يقول ستويك مشيرا إلى التنانين: "لقد قتلوا منا المئات"، فيجيب هيكاب: "ونحن قتلنا منهم الآلاف، إنهم يهاجموننا للدفاع عن أنفسهم"، فتلمس مستوى سياسيا واعيا, ونضجا فى صناعة فيلم للأطفال، إن العالم وكائناته حول المدينة ليس مخيفا كما يتصور أهلها، إن الجميع يبحث عن الطعام والمأوى، وليس هناك تناقض إذا فهم الفايكينج ذلك، وإذا تخلوا عن نزعة القتل والقتال. كل هذا ياعزيزى القارئ فى فيلم موجه للأطفال، لكننى أعترف أننى استمتعت به كطفل وناقد معا، ويكفى أنه أكد لى ما تعلمته من يوجين يونيسكو فى الماضى البعيد من مراهقتى: حتى لو تحول كل أهل المدينة إلى خراتيت، عليك رغم الألم أن تحافظ على إنسانيتك، حتى لك كنت الإنسان الوحيد.
Wednesday, November 10, 2010
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment