للأعمال الفنية البوليسية سحر خاص لدى المتلقي، سواء كانت رواية تُقرأ، أو عملا دراميا تم تنفيذه بالوسائط البصرية السمعية مثل السينما والتليفزيون، إذ يبدا العمل عادة بعرض بعض الشخصيات والعلاقات، وفجأة تحدث جريمة غامضة، ليتلخص العمل كله بعد ذلك فى كلمة واحدة: من الذي ارتكب الجريمة؟ وفي الطريق نحو هذا الاكتشاف، الذي يأتي دائما في الصفحات أو المشاهد الأخيرة، تتوزع الاتهامات بين هذا وذاك، وكلما شعرت أنك اقتربت من المجرم الحقيقي أدركت أنك تزداد عنه ابتعادا، وعندما يحين أوان الكشف عن المجرم تأتي المفاجأة، إذ يكون هو أبعد الشخصيات عن الشك، ولكن ... لكننا سوف نترك هذه الـ"لكن" إلى نهاية المقال!
هذا هو السر في النجاح الجماهيري للمسلسل الدرامي البوليسي "أهل كايرو"، الذي كتبه بلال فضل وأخرجه محمد علي، لأن هذا النوع من الدراما كاد أن يختفي من على شاشة التليفزيونات والفضائيات العربية، برغم أن له مساحة ثابتة ومكانة مهمة في الدراما التليفزيونية في العالم كله، وهو ما تستطيع أن تتأكد منه إذا استطعت أن تفلت من مسلسلاتنا ذات مرة، لتتفرج على المسلسل الأمريكي "24" مثلا، غير أن أعمالنا التليفزيونية الدرامية تمضي دائما في "الموضة" السائدة، تارة مسلسلات سيرة حياة المشاهير، أو الأحياء العشوائية، أو كوميديا الموقف شديدة التواضع في شكلها ومضمونها.
جاء إذن "أهل كايرو" ليخرج عن المألوف في شكله، لكن السؤال هو إذا ما كان قد شق لنفسه طريقا جديدا في المضمون أيضا، وهذا ما سوف نحاول الإجابة عليه. الخط الدرامي هنا شديد البساطة، والتعقيد الظاهر ليس إلا مناورة من صناع المسلسل لتحقيق بعض الأهداف التي تبدو مشروعة من الناحية الفنية، حيث يصبح "التشويق" هو السمة الرئيسية. في البؤرة الدرامية هناك شخصية تدعى صافي سليم (رانيا يوسف)، يقال أنها سيدة مجتمع، وهي الصفة التي يحاول المسلسل بها الإيحاء بأنها اتخذت طرقا ملتوية في رحلة صعودها من حضيض الفقر إلى قمة الثراء والوجاهة الاجتماعية.
يقول المسلسل في نهاية الحلقات أن هناك من حولك في حياتك اليومية عشرات من أمثال هذه الشخصية، وهو تلميح إلى أن الصعود الاجتماعي يحدث في "القاهرة" الآن من خلال الطرق غير المشروعة، وهذا جانب آخر من جوانب التشويق، إذ توجد "توليفة" من الجريمة والسياسة، لكن صناع المسلسل لن يتطرقوا بالطبع لأي جرائم سياسية سوى بنوع من "التلسين" الذي اشتهر به الأدب والفن المصريين في الآونة الأخيرة. ولأن صافي سليم في رحلة صعودها التقت بالعديد من الشخصيات، فسوف يتجمعون في ليلة زواجها (وهي التي تزوجت مرات عديدة سابقة) في حفل الزفاف بفندق فاخر، وهو ما تلخصه لك جملة من الحوار تأتي على لسان إحدى الشخصيات: "نجوم سياسة على فن على دين على بيزينيس على كورة".
إذن هؤلاء هم "أهل كايرو" كما يراهم صناع العمل (أرجو أن تلتفت إلى استخدام كلمة "كايرو" بما يذكرك بأحد مونولوجات شكوكو!)، لكن هناك جانبا آخر يشير له العمل كلما تذكره، أو بالأحرى أنه ينساه متعمدا لكي يجعلك تنساه، هذا الجانب هو الحي الفقير الذي ولدت فيه صافي سليم قبل أن تغير اسمها، تاركة وراءها شقيقة وأبا، بينما رحلت دون عودة مع الأم والشقيق، وهنا يتعمد المسلسل أيضا أن يتجاهل تماما الحديث عن أسباب انقسام أفراد العائلة على هذا النحو، لكنه سوف يكشف لك السر في حلقته الأخيرة.
قررت صافي أخيرا أن تتزوج من طبيب جراح مشهور يدعى شريف راسخ (زكي فطين عبد الوهاب)، عاد من أمريكا بعد سنوات من الغربة ليستقر في مصر لحنينه إليها، فهكذا نقرأ على الشاشة في عبارات مكتوبة (مع تثبيت الصورة) على طريقة بعض الأفلام الأمريكية المعاصرة، وهو الأسلوب الذي سوف يتبناه العمل مع العديد من الشخصيات حتى العابرة منها، والتي لن يفيدك أن تعرف عنها شيئا، مثل منظم الأفراح أو زوج الشقيقة، أو حتى شخصية رئيس تحرير جريدة يستخدمه المسلسل في البداية لإثارة بعض السخريات حول من يزعمون الثورية ثم ينساه العمل تماما!! دعنا نشير هنا إلى أن المفترض أن تلك المعلومات المكتوبة صحيحة، لأنها لا تأتي على لسان إحدى الشخصيات، وإنما من وجهة نظر سارد الأحداث (وهو هنا المؤلف والمخرج معا)، الذي يعرف كل شيء عن الشخصيات لكنه يخفي بعض المعلومات حتى يصرح بها في الوقت المناسب دراميا، وهذا من أبسط قواعد التشويق، لكن من غير المتصور على الإطلاق أن هذا الراوي "يخدع" المتفرج بمعلومات سوف نعرف لاحقا أنها غير صحيحة!!
الأسلوب البوليسي هنا تلفيقي وبعيد عن صدق السرد، والعمل البوليسي الناضج ينثر المعلومات هنا وهناك بطريقة قد تفوت عليك (أو يجب أن تفوت عليك) حين تراها على نحو عابر، لكنك عندما تراجعها بعد ذلك تسأل نفسك كيف فاتت عليك، وهذا هو مصدر المتعة في العمل البوليسي، لكن أن يلقي إليك صناع المسلسل بمعلومات مغلوطة (مرة أخرى يفترض أنها موضوعية وصادقة) فإن معنى هذا أنه يلعب معك لعبة الخداع، والأدهى كما سوف نرى هو أن يحجب عنك معلومات أخرى تماما ليرميها لك في الحلقة الأخيرة.
من جانب آخر يجب أن نشير إلى أن في المسلسل عوامل فنية غطت على هذه العيوب الأسلوبية في الصياغة الدرامية، فأداء خالد الصاوي في دور ضابط المباحث حسن محفوظ اتسم بحيوية فائقة، إنه المعادل المصري تماما لشخصية البطل في سلسلة أفلام "داي هارد"، المتفاني في عمله حتى أنه ينفصل عن زوجته ابنة المسئول الكبير، ويعاني من تزمتها معه في أيام رؤيته لابنته وابنه، وهو يغطي إحساسه الإنساني المرهف بالصفات التي اكتسبها من عمله، والتي تمزج بين الصرامة و"الفهلوة" وخفة الظل ونخوة أولاد البلد. تكتمل هذه الشخصية وتتكامل مع شخصية الصحفية داليا غنيم (كندة علوش) المتخصصة في الحوادث، فبينهما علاقة عمل غريبة وطريفة معا، إنها تعتمد عليه كأحد مصادرها، وهو يعتمد عليها أحيانا في بعض أمور حياته الشخصية، مثل تسهيل رؤيته لطفليه، وهذه العلاقة تنمو لكي تصبح إحساسا عاطفيا يسري تحت السطح بما يعطي للملسلسل مسحة رومانسية رقيقة أحيانا.
من جانب آخر يمكنك أن تشعر بالأسلوب البصري المختلف الذي يتبعه المخرج محمد علي، فهناك حركة متدفقة في التصوير والمونتاج يندر أن تجدها في أعمالنا التليفزيونية، وما يؤكد عليها استخدام التصوير الخارجي في الأماكن الطبيعية للأحداث في العديد من المشاهد، ناهيك عن الكثير من التلقائية التي اتسم بها أداء معظم الممثلين، لكن هذه التلقائية تحولت أحيانا إلى الاصطناع كما يحدث مع شخصية شقيق صافي، تماما كما أن الأسلوب البصري ذي المسحة السينمائية بدا مجانيا أحيانا مثلما هو الحال مع استخدام الشاشة المنقسمة دون أن تكون لذلك ضرورة درامية، ولا تنس بالطبع الاستغراق في مشاهد الفرح لزوم تطويل الحلقات!
يمكنك أن تعد عشرات الشخصيات التي مر عليها العمل مرور الكرام، إنه يستخدمها ثم يتخلص منها كأنها أدوات "ذات الاستخدام الواحد" (!!) لمجرد أن تسمع منها وعنها بعض عبارات ساخرة، أو لإثارة الشك حول إذا ما كان أحدها هو القاتل، بدءا من الداعية الديني، ومرورا بالوزير السابق، والوزير الحالي، ورئيس التحرير الانتهازي، والمثقف الثوري على طريقة الأفلام المصرية، والذي يقول الشعر ويعلق صورة عبد الناصر ولا يحلق ذقنه أو يمشط شعره (!!)، ورجال الأعمال أصحاب السطوة والنفوذ، وصديقة قديمة لصافي أصبحت الآن سكرتيرتها، وخادمتها التي خرجت لتوها من عباءة زينات صدقي، ورجال أمن الفندق الذين تنحصر مهمتهم في أن يكونوا لسان حال المؤلف في التعليق على الشخصيات والأحداث!
في الحلقة الأخيرة، وبدون أية إشارة درامية سابقة، تحدث المفاجأة: فالأب الفقير الذي هجرته ابنته وزوجته سعيا إلى الثراء الفاحش ليس إلا وحشا آدميا، إنه كان يغتصب ابنته، وهو القاتل أيضا!! وإذا كان ذلك يمثل بدوره خداعا للمتفرج، الذي لم ولن يجد لهذه الصفة البشعة جذورا في المسلسل، فإن هذا "الحل" التلفيقي يحيل كل ما تصوره المتفرج نقدا سياسيا واجتماعيا إلى المرض النفسي الجنسي، بينما يجب على كل حديث عن مثل هذه التشوهات النفسية أن يردها إلى جذورها وأسبابها التي تكمن في الحالة الاقتصادية والسياسية المتردية للمجتمع المصري الآن، و"أهل كايرو" ليسوا أبدا هم أهل القاهرة الحقيقية، بل أهل هذه النوعية من الكتابات التي تخلط الجد بالهزل، وتضع الجاني والضحية معا في سلة واحدة، وهي سلة السخرية السوداء من أي شيء، وكل شيء.
Wednesday, November 17, 2010
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment