بقدر ما تمثل الدراما التاريخية، خاصة في المسلسلات التليفزيونية، إغراء كبيرا لصناع العمل، فإنها تشكل أيضا اختبارا حقيقيا لهم على مستوى الفن والتاريخ معا، كما أنها تحتاج منهم إلى فض اشتباك لا مفر منه بين الحقيقة التاريخية والإبداع الفني. ولعل المأزق الأساسي في كل هذا هو أن المتفرج سوف يأخذ العمل الفني التاريخي على أنه "التاريخ"، خاصة فيما يتعلق بشخصيات وفترات تبعد عن زماننا بفترة طويلة، ولا نملك لها وثائق مؤكدة حول كيف كانت تبدو في الحقيقة، وليس غريبا في هذا السياق أن يتصور معظم المتفرجين أن صلاح الدين الأيوبي يشبه أحمد مظهر في فيلم يوسف شاهين، كما أن من المؤكد أن المتفرج الغربي سوف يتصور أن فرعون مصر في عهد النبي موسى هو يول براينر، مثلما بدا في فيلم "الوصايا العشر" للمخرج الأمريكي سيسيل دي ميل!!
إن ذلك يشير على نحو ما إلى أن للدراما التاريخية سحرها وأهميتها بالنسسبة للمتفرج، لذلك فنحن لا نذهب بعيدا حين نقول أن الدراما التاريخية لا يتم صنعها لمجرد الإبهار الإنتاجي فقط، لكن قد تدخل عوامل أخرى قد يكون العامل السياسي أهمها، وليس ببعيد عنا أفلام هوليوود التي تصور "وقائع" الحرب العالمية الثانية، وبالطبع فإنك لن تتوقع أن أمريكا سوف تقول "الحقيقة" المجردة بشأن هذه الحرب، وأسبابها ونتائجها، لكنها بالتأكيد سوف تصور ذلك كله من خلال "وجهة النظر" السياسية الأمريكية في فترة محددة يكون مطلوبا فيها تحقيق تأثير بعينه في وجدان المتفرج، داخل أمريكا وخارجها على السواء.
وربما كانت كلمة السر هنا هي "وجهة النظر": إنك عندما تنظر إلى مكعب مثلا فإن إدراكك له سوف يعتمد تماما على الزاوية التي تنظر منها تجاهه، إنك قد تراه مجرد شكل مربع إذا نظرت له من الأمام، وهو متوازي أضلاع من زاوية مائلة قليلا، لكنك لن تدرك أن له "حجما" في الفراغ إلا إذا درت حوله لتكتشف أن له سطوحا ستة. هذا هو ما يحدث أيضا مع التاريخ (أو بالأحرى كل حقائق الحياة)، إنك تحتاج إلى منظور صحيح لكي تراه على نحو صحيح، وإن كان ذلك مرهونا أيضا بالواقف المسبقة لمن يرى، وبأهدافه السياسية، وبطريقة تعبيره عن رؤيته لهذا التاريخ، لذلك فإن حدثا تاريخيا واحدا قد يأخذ أشكالا عديدة في تجسيده، وإذا كان ذلك يحدث في دراسات المؤرخين الذين يختلفون حول حدث تاريخي واحد، فما بالك بالفنانين الذين يصنعون من هذا الحدث عملا فنيا، فهم – بوعي أو بدون وعي – سوف يلونون هذا التاريخ ليس فقط برؤيتهم، وإنما أيضا بقصور رؤيتهم في بعض الأحيان، عندما لا يبحثون في التاريخ عن "الحقيقة" وإنما يتخذونه ذريعة للإبهار، فتحدث الكارثة عندما يصبح التاريخ ضحية للفن، أو قل ضحية للضحالة الفنية والإبداعية.
دعنا نتخيل أن فنانا ما قد قرر أن يصنع عملا فنيا عن شخصية تاريخية أو حدث تاريخي: السؤال الأول هنا هو لماذا هذا الحدث أو تلك الشخصية بالتحديد؟ وبقدر جدية الفنان سوف تتفاوت الإجابات تفاوتا هائلا، ولدينا أمثلة راهنة نشاهدها الآن على شاشات فضائياتنا توضح تماما هذا التفاوت. إليك مثلا مسلسل "سقوط الخلافة"، إن الدافع – الظاهر على الأقل – وراء اختيار فترة اضمحلال الدولة العثمانية حتى سقوطها هو ما يبدو أن هناك تشابها ما بين هذه الحقبة التاريخية والفترة الراهنة: أمة تقف في مفترق الطرق، بين التمسك بالماضي والقفز إلى مستقبل ما يزال لم يتشكل بعد، في نفس الوقت الذي تتربص به قوى معادية لا تنتظر فقط أن يحدث هذا السقوط بل إنها تعمل جاهدة على أن يقع وشيكا وبشكل مؤكد. وهذا التشابه بين التاريخ والحاضر يذكرنا بعمل تليفزيوني كان رائدا حين ظهر في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وهو "ليلة سقوط غرناطة"، الذي صنع توازيا عميق الدلالة بين اضمحلال الإمارات الأندلسية وبين الاستسلام المخزي المعاصر أمام العدو الصهيوني، وهو الاستسلام الذي ما نزال نحصد ثماره المريرة حتى اليوم.
لكن السبب وراء اختيار التاريخ ذريعة لعمل درامي قد يكون هزيلا – أو حتى هازلا – تماما، مثلما هو الحال مع مسلسل "ملكة في المنفى"، الذي تكمل به نادية الجندي "ملاحمها" عن "النساء" القويات في تاريخ مصر المعاصر، وكلهن تتبعن مواصفات واحدة تريد أن تتماهى نادية الجندي معها، بصرف النظر عن أي صدق تاريخي، أو حتى بصرف النظر عن الأهمية الحقيقية للشخصيات التي تختارها، فقد سبق لها مثلا أن قدمت الراقصة حكمت فهمي (وهي راقصة شبه مجهولة حتى على المستوى الفني!) باعتبارها حجر الزاوية في أحداث غيرت مجرى وقائع الحرب العالمية الثانية، كما جسدت من قبل أيضا سيدة تدعى ناهد رشاد لها صلات بالشرطة السرية التي أنشأها الملك فاروق، لكن نادية الجندي جعلتها عضوا مؤسسا في تنظيم الضباط الأحرار الذي قام بثورة يوليو!!
إنها تستمر في "ملكة في المنفى" في نفس الطريق، ولعلك قد لاحظت كيف تتبختر نادية الجندي – ولا نقول الملكة نازلي البطلة الدرامية للمسلسل – في أفخر الثياب وأثقل أنواع الماكياج وتنظر للجميع نظرة استعلاء (إنها النظرة التي لا تتخلى هنا نادية الجندي في كل أعمالها، وتحتاج إلى تحليل من نوع ما). وعندما تتحدث نازلي عن "الثمن الذي دفعته مقابل تاج الشوك"، وما يعتمل في النفس من الألم والعذاب والوحدة، فإنك تكاد أن تسمع الممثلة كأنها تتحدث عن نفسها في لقاء تليفزيوني، وهي بالفعل كانت قد كررت تلك التعبيرات ذاتها في أحاديثها الصحفية كثيرا. مثل هذا العمل إذن يُفصِّل التاريخ على مقاس النجمة، وهو لا يجعلها بطلة "درامية" تعيش صراعا داخليا وخارجيا، لكنه يصنع منها بطلة "ميلودرامية" تمثل الخير المطلق، فهي الضحية الجميلة النبيلة بين أنياب الوحوش، وكم كان مضحكا تصوير الملك فؤاد، في ليلة زفافهما، كأنه الشيطان مجسدا، بثيابه الحمراء والإضاءة الحادة من زاوية منخفضة، حتى أنه يغتصبها اغتصابا، وهو أمر لا ندري من أين استقى صناع المسلسل مصدره، ومن كان منهم في غرفة النوم؟!!
وقريبا من هذه المعالجة التي تقع في تحويل الشخصية الرئيسية إلى ملاك، تتصدر وحدها الدراما بينما تحول كل الآخرين إلى شياطين أو "كومبارس"، يأتي مسلسل "كليوباترا" الذي جعل من بطلته قديسة رومانسية بكل معنى الكلمة، وهو بذلك يتجاهل تماما أن دورها في التاريخ اعتمد على المؤامرات والتحالفات المشبوهة، وأن تلك الفترة شهدت صراعا دمويا على السلطة والسلطان، انتصرت فيها كليوباترا لفترة لكنها انتهت بهزيمة منكرة، وكانت مصر والشعب المصري هما آخر ما يفكر فيه المتصارعون، بل كان هما "الغنيمة" التي ينتظر من ينتصر أن يمتص دماءها.
السبب الثالث لاختيار التاريخ محورا لعمل درامي هو "الانحياز" المسبق إلى وجهة نظر، كما يبدو في مسلسل "الجماعة"، الذي يأتي في إطار صراعات سياسية تشهدها مصر في الفترة الأخيرة، خاصة أن هناك انتخابات تشريعية على الأبواب. يحكي المسلسل وقائع تاريخ قريب، وهو يبدأ من الأقرب ليعود إلى الأبعد، وبذلك يلون العمل كله بوجهة نظر جاهزة. تسود في الأوساط السياسية المصرية الآن فكرة أن الصراع الرئيسي يدور بين النظام الحاكم من جانب وجماعة الإخوان المسلمين من جانب آخر، وبرغم أن هناك شبه اتفاق بين مختلف الرؤى حول سلبيات النظام السائد، فإن هناك ميلا لدى بعض الأطراف لتصوير جماعة الإخوان المسلمين على أنهم أكثر خطرا من النظام الراهن، لذلك فإنك سوف تختار دون وعي أن تقبل سلبيات النظام!! ولسنا هنا في مجال المفاضلة بين هذين الطرفين (وكأنه ليس هناك من بديل سواهما!!)، لكن تلك الرؤية السياسية الجاهزة والصريحة، بل المسطحة أيضا، صبغت العمل كله بقدر من السذاجة الفنية، ولك أن تتصور أن الرغبة في تصوير أبناء النظام كملائكة قد جعلت في مركز الدراما "وكيل نيابة" بريئا تماما، حتى أنه لا يعلم شيئا عن الإخوان المسلمين الذين يحقق بشأنهم، وهي حيلة فنية باهتة تماما لكي يستمع بطلنا إلى حكاية "الجماعة" (ونسمع نحن معه أيضا) وحكاية تاريخها، فيعود المسلسل في "فلاش باك" طويل إلى بدايات تكوينها. ولا حاجة للقول بأن أبسط القواعد هي أن يكون رجال السلطة في مثل هذه الأمور قد تلقوا تعليما طويلا ومكثفا حول "الجماعات" التي يواجهونها، بما لا يضطرهم أبدا لاستقاء معلوماتهم من متهمين عابرين.
لم ينجُ مسلسل "الجماعة" أيضا من كل "الكليشيهات" التقليدية في تصوير "الأشرار" من وجهة نظر صانعي العمل، فأعضاء الجماعة أقرب إلى عصابات "المافيا" أو الجماعات الماسونية، وهو كعادة الدراما المصرية تجهلهم يتحدثون بالفصحى في حياتهم اليومية وكأنهم قد خرجوا لتوهم من إحدى المسلسلات الدينية بالغة التقليدية. ومن هذه المسلسلات يأتي "رايات الحق"، الذي يتناول الفترة اللاحقة على وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهي فترة حافلة بالدراما بمعناها العميق، لكن المسلسل توقف عند من حاولوا تقويض ما أضافته النبوة إلى أمة العرب من القوة والوحدة، وغلبت المعالجة التقليدية على تصوير هؤلاء، في شكلهم وطريقة حديثهم وحركاتهم، فخلا المسلسل تماما من أي جديد قد يجذب المتفرج للاقتراب من هذه الفترة التاريخية المهمة.
المفارقة هنا – والتي قد تلقي ضوءا كاشفا أيضا على المعالجات الدرامية للتاريخ – هي أن هناك العديد من المصادر التاريخية التي تناولت هذه الفترة، ومن مختلف المناهج ووجهات النظر، لكن برغم أنها فترة حافلة بالكتابات الجادة فإنه يبدو أن صناع العمل اكتفوا بأبسط هذه المصادر، بينما كان اعتمادهم الأكبر على الأعمال الدرامية السابقة، وهي طريقة يمكنك أن تسميها – للأسف الشديد – نظرية "التوالد الذاتي"، فيصبح التقليد هو القاعدة: المؤمنون يرتدون ثيابا بيضاء، ويتحدثون بهدوء واطمئنان، وتبدو على محياهم ملامح الجمال، بينما "الكفار" على العكس تماما، إنها المعالجة الهوليوودية للبطل الطيب والخصم الشرير، وقد تصلح هذه المعالجة في الميلودراما أو الترفيه الخفيف، لكنها لا يمكن أن تكون أساسا لمعالجة درامية ناضجة للتاريخ.
أنت إذن في الدراما التاريخية أمام أركان أساسية لتُقيم دعائم عمل مقنع وراقٍ، أولها هو المصدر الذي يجب أن يكون موثوقا به، أو قل بالأحرى العديد من المصادر التي قد تختلف في مناهجها لكنها معا سوف تساعدك على تكوين وجهة نظر أقرب إلى الصدق التاريخي، وقد تستطيع أيضا أن تعود في هذا المجال إلى أهل الاختصاص حتى يكون هذا المستوى الأول من الصدق متحققا. لكن المستوى الثاني لا يقل أهمية، وهو ما يتعلق بالصدق الفني، الذي لا ينفصل عما يطلق عليه في فلسفة الفن "القصد الفني"، وببساطة فإن هذا الصدق يعكس ما تريد أن تقول من معالجتك لمادة تاريخية. هناك في مسلسل نادية الجندي "ملكة في المنفى" مشهد أثار ألمي بعمق، لقد أراد المسلسل أن يجعل من بطلته ضحية، وأتبع مشهد زفافها (اغتصابا) ببيرم التونسي وهو يلقي قصيدته المشهورة عن زواجها المشبوه من الملك فؤاد، ليبدو بيرم كاذبا وضيعا، وهو ما يتناقض مع الحقيقة التاريخية تماما، أي أنه يمكنك ببساطة أن تقول أن المسلسل أراد أن ينقذ بطلته "بالعافية"، فلم يجد أمامه إلا أن يضحي بالتاريخ!!
Saturday, November 20, 2010
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment