عندما تخفى النزعة الإنسانية المواقف السياسية الملتبسة
على مدار ساعتين كاملتين، تلقى إليك المخرجة نادية كامل فى فيلمها التسجيلى "سلطة بلدى" بعشرات الأسئلة، التى تتلاقى أحيانا وتتباعد أحيانا أخرى، وإذا كان المفهوم الشائع فى الفن – وإن لم يكن مفهوما دقيقا تماما لكننا سنصرف النظر عن دقته الآن – هو أن وظيفة العمل الفنى هى طرح التساؤلات وليس تقديم الإجابات، فإن هذا يبرر لصانعة الفيلم أن تطرح الأسئلة التى تؤرقها، لكن هناك فى الحقيقة عدة أنواع من الأسئلة التى تؤرق أى إنسان، مثل الأسئلة التى تمثل قلقا شخصيا للفنان وقد يحلو له أن يبثها إلى أصدقاءه فى جلساته الخاصة، لكن مادام قد قرر أن يصوغ من هذا القلق عملا فنيا مثلما فعلت نادية كامل فى فيلمها "سلطة بلدى" فلابد أنها تريد توصيل "رسالة" ما إلى أكبر قطاع من المتلقين ليشاركوها هذا القلق، وهنا لابد أن نتساءل بدورنا عن الرسالة التى كانت تفكر فيها وهى تصنع "سلطة بلدى"، وإن كنت فى البداية أؤكد (كل التأكيد) على أنه ليس لدى كاتب هذه السطور أية نية لتوجيه تهمة أو شبهة "التطبيع" لصانعة الفيلم على النحو المتعجل الذى قام به العديد من النقاد، بسبب أن الجزء الأكبر من الفيلم يتحدث عن السيدة نائلة كامل، أم المخرجة، التى تربطها قرابة الدم ببعض اليهود فى "إسرائيل"، وقامت بالفعل بزيارتهم وقد قاربت أعمار الطرفين على الانتهاء، كأنها رحلة وداع، وهو كما ترى سؤال "إنسانى" يتعمد الابتعاد عن البعد السياسى، بما يذكرك بإنسانية الفيلم الإسرائيلى "زيارة الفرقة" وإن كان فى "سلطة بلدى" أكثر "ميلودرامية" وتشوشا وأقل رهافة ونعومة.
هو فى الحقيقة سؤال أقرب إلى الصدمة، لكن أرجو أن يتحملنى القارئ لبعض الوقت لو ذهبت إلى مدى أبعد فى صدمته، وهى أياً منا لا يستطيع أن يؤكد على وجه اليقين أنه ليس له أقارب من اليهود، بل إن من المؤكد أنه قد حدثت عبر التاريخ تحولات فى معتقدات البشر، فقد يكون لى من بين أسلافى أو أسلافك من كان مسيحيا أو يهوديا أو حتى وثنيا، وربما يكتشف المرء منا أن هناك لعائلته فرعا ينتمى لديانة أخرى، ولعل مصر – تلك البوتقة الجغرافية والتاريخية – هى الدليل الأكبر على هذا التمازج، وليس غريبا أن تجد عائلتين مصريتين مسلمة ومسيحية تتشاركان فى نفس اللقب والجذور، وليس غريبا أيضا أن تجد فى فيلم "سلطة بلدى" ذلك الاختلاط بين الأديان والجنسيات (ولا نقول الأجناس أو الأعراق)، ففى عائلة المخرجة نادية كامل أبناء وبنات عمومة ينحدرون من أصول قوقازية مسلمة، وأخوال ينحدرون من جذور مسيحية إيطالية ويهودية تركية روسية، بل إن هناك الطفل نبيل، ابن شقيقة المخرجة، فلسطينى الأب، مصرى الأم، إيطالى الجدة، وهو يذهب فى بداية الفيلم لصلاة العيد للمرة الأولى حائرا وكأنه يبحث عن هوية، وفى مشاهد لاحقة يقف أمام قبر جده اليهودى إيلى روزينتال متمتما، فلا نعرف إن كان يقرأ له "الفاتحة" أو بأى دعاء يلهج به لسانه وقلبه البريئان.
هذا الطفل "نبيل على شعث" هو النموذج الأمثل على "السَلَطة المصرية البلدى"، وقد كان من الممكن أن يكون "البؤرة الدرامية" للفيلم التى تدور حولها العديد من الخطوط السياسية المتقاطعة والمهمة، من بينها – على سبيل المثال – أنه لا يحمل جواز سفر أو جنسية لأنه فلسطينى الأب بعد أن ضاعت فلسطين، وفى الوقت الذى تعجز فيه الأنظمة العربية عن استرجاع فلسطين فإنها تنكر على فلسطينيى الشتات (إن جاز التعبير) أن تكون لهم هويتهم المحددة. لكن الأهم فى هذا الطفل (بخلطة و"سلَطَة" جذوره الإنسانية) أنه التأكيد الحى (الذى أضاعته المخرجة للأسف سهوا أو عمدا) على زيف النزعة السياسية الصهيونية، والتى تقوم على أكذوبة "نقاء العنصر"، وهى الأكذوبة التى ينسفها وجود نبيل نسفا.
دعنا ياقارئى العزيز نتوقف عند هذه الأكذوبة قليلا، فعلى أساسها قام الكيان الصهيونى، بذريعة أنه يضم "اليهود" فى دولة واحدة، وكأن الدين اليهودى قومية تجمع شعبا نقى العنصر، وهو الخطأ القاتل الذى نقع فيه نحن أيضا عندما نتحدث عن الصراع بين "اليهود" و"العرب"، فاليهودية "دين" والعروبة "قومية" ولا مجال للصراع أو حتى المقارنة بينهما، بل إن هناك دراسات عديدة لكتاب من "اليهود العرب" أو ذوى الأصول العربية تشير إلى الحقيقة التى لم يلمسها – للأسف – فيلم "سلطة بلدى" ولو من بعيد، وهى الحقيقة التى تشير إلى أن إسرائيل ليست إلا كيانا استعماريا غربيا، لم يسرق الوطن الفلسطينى فقط، لكنه طمس وقمع الهوية والتاريخ العربيين لليهود العراقيين واليمنيين والمغاربة، أو كما تقول إيللا حبيبة شوحاط أستاذة الدراسات الاجتماعية فى جامعة نيويورك: "إن التعارض بين اليهودية والعروبة ليس إلا وجهة نظر أوروبية، ونحن – كيهود عرب – كنا نتحدث العربية وليس اليديشية، وعبر ألف عام كان إبداعنا الثقافى باللغة العربية... وإنك لو ذهبت حتى اليوم إلى معابدنا فى نيويورك أو مونتريال أو باريس أو لندن فسوف يدهشك أن تسمع فى تراتيلنا نغمة "الربع تون" حتى يخيل لك أنها تنبعث من مسجد... لقد انتزعت إسرائيل منا – نحن اليهود العرب – تاريخنا... وأصبح مصطلح "شعب واحد" ذريعة لكى يجبرونا على التخلى عن ذاكرتنا العربية التى تكونت عبر مايزيد على ألف عام وقبل أن تكون هناك دولة اسمها إسرائيل".
فى سياق آخر يكتب نعيم جيلادى، اليهودى الأمريكى من أصول عراقية الذى تخلى عن جنسيته الإسرائيلية، أن "يهود البلدان الإسلامية لم يهاجروا طوعا إلى إسرائيل لكنهم أجبروا على ذلك... واستخدمت طريقتان مع اليهود العراقيين للرحيل إلى إسرائيل: الخداع أو الإرهاب، فاليهود غير المتعلمين خدعهم الحديث عن أن إسرائيل هى أرض الميعاد والجنة التى يبصر فيها الأعمى ويسير الكسيح، أما اليهود المتعلمون فقد قام الصهاينة بإرهابهم بإلقاء القنابل على ممتلكاتهم وأماكن تجمعهم".
الصهيونية إذن لم تجمع "اليهود" فى سلتها النظرية المصطنعة إلا لسبب سياسى استعمارى، بينما هى تميز فى طياتها وممارساتها بين اليهود الشرقيين (واليهود العرب من بينهم) لتجعلهم أدنى من اليهود الغربيين بما يتنافى مع الزعم بنية إقامة "دولة يهودية". وإذا كان فيلم "سلطة بلدى" يلمِّح إلى "إنسانية" زيارة السيدة المناضلة نائلة كامل، زوجة المناضل اليسارى سعد كامل، المولودة فى مصر لأب يهودى تركى روسى وأم مسيحية إيطالية، والتى قد أصبحت مصرية تماما وتحلف "والنبى والنبى"، إذا كان الفيلم يلمِّح إلى إنسانية زيارتها لأبناء عمومتها اليهود فى "إسرائيل"، فإن من الغريب أنها تصفهم صانعة الفيلم بمجرد كونهم "يهودا" ولا تذكر شيئا مطلقا عن كونهم "صهاينة"، حتى أنها لم تذكر لنا كلمة واحدة، واحدة فقط، عن "نضال" هذه الأم الجليلة ضد الصهيونية وفضح زيفها ونزعتها الاستعمارية، مثلما فعل غيرها من المناضلين اليهود المصريين اليساريين مثل يوسف درويش وشحاتة هارون اللذين خاضا هذه المعركة على طريقة القديسين الشهداء.
إن ذلك يثير المرارة من جانب المتفرج لأن المخرجة تبدو كما لو كانت تتخلى فى نزق – بذريعة النظرة الإنسانية الأكثر رحابة - عن نضال الجيل السابق (لعل هذا يشير – للأسف - إلى عوامل تآكل وتشوه المفاهيم السياسية لدى شريحة المثقفين المصريين من الأجيال اللاحقة)، فالكيان الصهيونى كما يبدو فى الفيلم قائم وانتهى الأمر ولا حيلة لنا إلا التعامل معه، والمواطنون اليهود الإسرائيليون فى الفيلم غير مسئولين عن قرارات وتصرفات الحكومة الإسرائيلية، بينما تتناسى المخرجة أنهم اختاروا الصهيونية مذهبا سياسيا وعلما ونشيدا "قوميا"، كما لا تذكر أو تتذكر أن الصهيونية – وليس العروبة أبدا – هى التى تقوم على التمييز الدينى بين اليهود والأغيار، وأن إسرائيل هى النموذج السرطانى لكل النزعات العنصرية التى تميز بين البشر على أساس دينى، وأن الصهيونية تقوم على خرافة وجود "عرق يهودى" وهى أول من تعلم بزيف هذه الخرافة، كما تنكرها كل الدراسات الجادة بدءا من جمال حمدان وانتهاء بتروتسكى الذى رأى أن الصهيونية "تحالف عنصرى أعمى وفخ دموى لعين"، أو الفيلسوف اليهودى رافاييل كوهين الذى يؤكد أن "الصهيونية فى جوهرها تتبنى نفس الأيديولوجيا النازية لكنها تصل إلى نتائج مختلفة، فبدلا من تفوق العنصر الآرى يصبح اليهود هم الجنس الأرقى".
لكن فيلم "سلطة بلدى" - خاصة فى مشاهد البداية وتركيزه على خطبة العيد التى تهاجم "اليهود" – يلقى بتهمة التطرف والتمييز الدينى علينا، وينسى أن كل حركات التطرف الإسلامى هى تاريخيا رد فعل لاحق على الصهيونية، وأن وجود "الدولة اليهودية" لن يفرز إلا مزيدا من النزعة المضادة التى تدعو لإقامة "دولة إسلامية". وخلال الساعتين اللتين يستغرقهما عرض الفيلم تجد نفسك فى "سلطة بلدى" غارقا فى بحر من الأفكار المشوشة داخل كيان فنى مشتت، لذلك لا تجد مناصا من أن تقوم بنفسك بفرز تلك الأفكار المتناقضة. إنك على سبيل المثال (وإن لم يذكر لك الفيلم أية تفاصيل كانت ضرورية لإلقاء الضوء على موقف الجيل السابق تجاه الكيان الصهيونى) تقدر كل التقدير نضال سعد كامل ورفيقة حياته نائلة كامل، كما أنك تتعاطف أو حتى تعشق الطفل نبيل شعث الحائر فى البحث عن هوية فى وطن عربى ممزق. لكننى لا أستطيع تجاه "ابن عمى" اليهودى العربى الذى ارتضى إسرائيل وطنا أن أتعاطف معه وأذهب لزيارته لمجرد أنه يحب أن يستمع إلى أم كلثوم كل يوم، فهو الذى اختار أن ينضوى تحت راية نظام معادٍ للإنسانية. فنحن نرفض الصهيونية والاعتراف تحت أى ذريعة بدولة "إسرائيل، ليس من منطلق أننا مصريون أو عرب أو مسلمون ومسيحيون وجدنا أنفسنا طرفا فى صراع فرضته علينا حركة استعمارية غربية تحت شعار مزعوم (أكرر: مزعوم) بالبحث عن حل لما يسمى "المسألة اليهودية"، وإنما نرفض الصهيونية حتى لو كانت فى بلاد واق الواق، الآن وغدا وبعد مئات الأعوام، لأنها إحدى أكثر الضلالات الإنسانية خطرا، فهى لا تعادى العروبة أو الإسلام وإنما تعادى "الإنسان" بجوهرها العنصرى الذى يميز بين اليهودى وغير اليهودى، كما تميز بين اليهودى الغربى واليهودى الشرقى، على نحو لا يختلف مطلقا عن النازية وكل النزعات العنصرية البغيضة الأخرى.
يذكرنى اسم الفيلم "سلطة بلدى" ببضع سطور من رواية لليهودى يمنى الأصل يوسف تزويل، الذى يحكى عن هجرة أسرته خلال مراهقته إلى إسرائيل، وانتزاعهم دار أسرة فلسطينية، لم يبق منها إلا رجل وحيد... "كان يزرع فى الحقل المحيط بالدار بعض الخضروات، يعطينا بعضها ويحتفظ بالباقى، وإن "السَلَطة" التى أكلتها من هذه الخضروات، التى تنتمى إلى هذه العائلة الفلسطينية، تركت فى روحى ندوبا لا يمكن محوها، لذلك ظللت دائما غريبا عن هذه الدار المغتصبة". وربما كان من المثير للأسى أن تقرأ هذه الحقائق المريرة عند كُتَّاب ربما كانوا أكثر عرضة للتعاطف مع أسطورة "الدولة اليهودية"، لكنك تجد هذه الحقائق عندهم بوضوح، بينما تفتقدها فى فيلم "سلطة بلدى" لأنه تصور أنه ينادى بنزعة "إنسانية" وهو يتحدث عن كيان لا علاقة له بالإنسانية فى فلسفته أو ممارساته. مرة أخرى وبوضوح كامل، لو كان الفيلم يسألنى عن إمكانية زيارة "ابن عمى" اليهودى العربى فى "إسرائيل" فإننى أرفض على نحو قاطع الذهاب إليه فى الكيان الصهيونى، لكننى أرحب به إذا رفض هذا الكيان وعاد إلى جذوره العربية، أما اليهود الأوربيون فإن عليهم فى نهاية المطاف أن يبحثوا عن حل لمشكلاتهم فى الأوطان التى جاءوا منها، وأن يلتهموا كما يشاءون "سَلَطة بلادهم" أما "سَلَطة بلدى" فهى لنا، المسلمين والمسيحيين واليهود العرب، فى دولة فلسطينية ديموقراطية تجسد بحق الروح الإنسانية فى أرقى تجلياتها.
Thursday, November 18, 2010
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment