Monday, August 30, 2010

الفرسان الثلاثة للسينما المصرية فى المرحلة الكلاسيكية




كانت السنوات بين عامى 1952 و 1970 هى الفترة الى قدمت أهم الأفلام لأهم مخرجى هذه المرحلة الكلاسيكية، ولأن السينما تعكس الواقع (حتى لو لم تكن تعى ذلك) فإن هذا الواقع قد تجلى فى صور عديدة، نستطيع أن نضرب عليها بعض الأمثلة إذا توقفنا عند ثلاثة مخرجين وأعمالهم فى تلك الفترة، هم يوسف شاهين، وصلاح أبو سيف، وتوفيق صالح.

يوسف شاهين ؛ المتمرد

اعتـادت معظـم الكتابـات النقديـة على وصف سينــما يوســف شاهيـن بأنهــا”سيــرة ذاتيــة”، وتلك نصف الحقيقة فقط، أما الجانب الأخر من الحقيقة ( والذي أراه أكثر أهمية حتى في السيرة الذاتية الخالصة ) أن أفلامه كانت”صورة للواقع في مرآة الذات”، ويمكنك أن تقول أن أي عمل فني هو كذلك بالفعل، لكن النتيجة تتفاوت طبقا لتحدب أو تقعر المرآة، أو استوائها إذا ما أراد الفنان أن يكون – بقدر ما يستطيع – موضوعيا محايدا.
وإذا كان يوسف شاهين قد حاول الحديث عن نفسه، فإنه – مثل معظم من صنعوا سيرا ذاتية – لم يكن صادقا كل الصدق، إنه لم يتحدث عن نفسه كما كانت بالفعل بقدر ما تحدث عنها كما يحلم بها أن تكون. إن أردت اقترابا من عالم يوسف شاهين، من خلال الأفلام التي صنعها في المرحلة الكلاسيكية من تاريخ السينما المصرية، فيمكنك أن تلخص في أنه يصور واقعا خانقا ( برغم رحابته الظاهرة )، ويحاول البطل التمرد عليه والخروج منه.
وعندما أراد يوسف شاهين أن يسجل بعضا من سيرته الذاتية في فيلمه”حدوتة مصرية”( 1982 )، تحت اسم”يحيى مراد”، قام بتغيير بعض الحقائق التاريخية، فهو على سبيل المثال يقول أن فيلمه”ابن النيل”( 1951 ) عرض في مهرجان كان عام 1955، وكان الفيلم الذي عـرض هو”صـراع في الـوادي”( 1954 )، كما أن شاهيــن يتجاهــل أفـلام”صـراع في المينــاء”و”ودعت حبك”( 1956 ) و”أنت حبيبي”( 1957 )، ليقفز مباشرة إلى”باب الحديد”( 1958 ). ولم يكـن ذلك محـض مصادفـة بالطبــع، فالفيلمـان :”ابـن النيـل”و”بـاب الحديـد”، يقدمان بطلا واحدا وإن تغيرت ملامحه، حتى أنه يمكنك أن تقول أن”قناوى”ليس إلا”حميدة”بعد أن”نجح”في تحقيق حلمه بالذهاب إلى القاهرة، ونضع فعل النجاح بين قوسين لأنه انتهى إلى مأساة دامية.
إن”حميدة”في”ابن النيل”يعيش في قرية نائية في أقصى الصعيد، إنه لا يرى في الريف أي نوع من الجمال، والحياة فيه ليست إلا يوما مملا طويلا ممتدا بلا نهاية. لذلك يسمع حميدة صفير القطار الذاهب إلى القاهرة كأنه يسمع نــداء غامضـا يدعـــوه – كالنداهة – إلى عالـم سحــري، يتسامى في خياله فوق الحياة العادية. لذلك فإنه يترك القرية هاربا من أسر علاقته بالمرأة التي أحبته، ومن كل القيود التي تشده بأغلالها إلى الواقع اليومي الذي اعتاده الآخرون ورضوا بقبوله أو الإذعان له. يفر حميدة إلى القاهرة ليضيع في زحامها، ويفشل مرة أخرى في أن يحقق ذاته، ويكتشف أنه لا مفر من النكوص.
أما”قناوى”فإنه كسلفه حميدة يهرب من بلدته في الصعيد، ليستقر في”باب الحديد”، في القاهرة، لكنه أيضا لا يجد لأزمته الذاتية حلا في هذا الواقع الجديد، بل تأخذ هذه الأزمة شكلا أكثر حدة، فاغترابه عن الواقع من حوله يزداد عمقا بسبب ساقه العرجاء. ( قام يوسف شاهين فى”حدوتة مصرية”بإلقاء الضوء على هذا الملمح من الشخصية بقوله :”كل واحد فينا أعرج بطريقته”، وكأن الساق العرجاء ليست إلا معادلا موضوعيا للاختلاف عن الآخرين، هذا الاختلاف الذي يرفضه الآخرون ! ). وأرجو أن تتأمل كيف أن قناوى يصنع لنفسه عالما”طوباويا إذ يعلق صور نجمات السينما على جدران كوخه، فالسينما ملجأه وملاذه، وحين يخرج من عالمها ليحاول التفاعل مع الواقـع – مجسدا في”هنومــة”– فإنه يواجـه بالرفـض، مما يدعـوه للانتقـام الدامـي، وحين يساق في أخر الفيلم – في مشهد يذكرني كثيرا بالمشهد الأخير من الفيلـم الامريكـى”سانصــيت بوليفـارد”( 1950 ) – مقتـادا إلـى مستشفــى المجــانيـن، فإنـه يصــرخ :”هاأوريـكــم”، وبالفعل قام يوسـف شاهيـن في أفلامـه التاليـة بتنفيـذ وعـده وانتقامـه، بأن”أورانا”أفلاما تتحدث دائما عن واقع يخنق الذات.
وبقدر إعجاب شاهين بشخصية قناوى، حتى انه قام بتمثيلها بنفسه، فإنه كان يرى أوجه النقص الخطيرة فيها ( وفيه ؟ )، وأرجو أن تلاحظ الحبكة الفرعية ( أو الخلفية بكلمات أدق ) التي تدور عليها قصته قناوى، لقد كان رئيس الحمالين في محطة”باب الحديد”يسعى لإنشاء نقابة، ويخوض صراعات عاتية، لقد كان الواقع يموج بتغيرات هائلة، لكن قناوى ظل لاهيا عنه بصور نجمات السينما وعشقه من طرف واحد تجاه هنومة. وليس غريبا أن تصبح هاتان الحبكتان،الرئيسية والفرعية، هما محور أهم أفلام شاهين – من وجهة نظري –”إسكندرية كمان وكمان”( 1990 )، إذ يبدو يحيى مشغولا بفتاه الذي هجره، وكان يجد فيه صورته الشابة في الفن والحياة، بينما في الخلفية يدور إضراب الفنانين الشهير، مطالبين بنقابة ديموقراطية. وفى هذا الفيلم الأخير صرخت نبقة في يحيى الاسكندرانى :”إنت تعمل عننا روايات وبس، وكلها كدب في كدب، زى المرهم الأسود اللي كنت حاطه على وشك يوم”باب الحديد”، لكن إحنا الزفت بحق وحقيق”!
كأن ذلك اعتراف من يوسف شاهين بأنه لم يكن صادقا مع الواقع الخارجي لأنه كان مهتما بواقعه الداخلي الذاتي، ومن نفس الفيلم أيضا نقتبس اعترافا أخر، انه يقول لامرأة بسيطة أن ( أحسن أفلامي” إسكندرية ليه”، هو اللي أخذ جوايز )، فتهز رأسها في استهانة قائلــة : ( لأ، أحسن أفلامك”الأرض”... ). وبالفعل كان”الأرض”تتويجا للمرحلة الكلاسيكية من تاريخ السينما المصرية، وهو الفيلم الذي ما يزال يحتل القمـة في معظم استفتـاءات النقـاد المصرييـن، لأنه حدوتة إنسانية بسيطة وعميقة في آن واحد، تصور نضالا تاريخيا من خلال شخصيات تكاد أن تتوحد معها في ألامها وأحلامها، لأن هذه الأحلام لم تكن الهروب من الواقع أو التمرد الذاتـي عليـه، وإنما الانطلاق من هذا الواقع لتحقيق واقع أكثر جمالا وعدلا.

صلاح أبو سيف ؛ الحكواتى

كلما جاء ذكر صلاح أبو سيف وردت إلى الذهن على الفور صفة”الواقعية”، بسبب المفهوم الشائع – الذي نراه غير دقيق – عن أبو سيف والواقعية معا، فالواقعية أكثر دقة وحدة من أسلوب أبو سيف، وعالم أبو سيف أكثر اتساعا من أن يقتصر على الواقعية وحدها. لذلك اخترت الملمح الرئيسي عنده كبؤرة لأعماله في المرحلة الكلاسيكية أو المرحلة اللاحقة لها، وهو قدرته الرائعة على السرد السينمائي على نحو يصل إلى المتفرج العادي والمثقف على السواء، وهو من أجل هذا السرد يستعين بالكثير من عناصر الحدوتة الشعبية ليدفع الحبكة إلى الإمام، مثل الاراجوز في”الوحش”( 1954 ) أو شاعر الربابة في”الفتوة”( 1957 )، كما لابد أنك قرأت كثيرا عن "المجاز" عند أبوسيف وتشبيهاته التى ينثرها فى أفلامه ، مثل إعـلان المشـروب الغـازي”كبيـرة ولذيـذة”، وبغل السرجة في”شباب امرأة”( 1956 )، أو مثل قرني الثور المعلقتين على الجدار في”القاهرة 30”( 1966 )، وإن كان هذا التشبيه الأخير قد شاهدته في فيلم تجارى إيطالي حوالي تلك الفترة ذاتها. لكن ما أريد أن أشير له هنا أن أبو سيف لم يكن يتردد عن استخدام التعبيرية – نقيض الواقعيــة – عندما يضطـر إلى ذلك، ففي فيـلم”أنا حـرة”( 1959 ) يصــور”الضمير”في مشهد حلم، إنه يأتـي كظـل غامــض ينبثـق من الخلفيـة ويمتد حتى مقدمـة الكـادر، حتى لو كان تنفيذ المشهد يحاكى مشهــدا من فيـلم هيتشكوك”إني اعتـرف” ( 1953 )، كما أن الموسيقى مأخوذة من الفيلم الامريكى”تأمين مزدوج”( 1944 ). ( قارن أيضا المشاهد التعبيرية للحظات القتل فى "ريا وسكينة"، أو لحظة فقدان نفيسة بكارتها في”بداية ونهاية”).
إن أهمية صلاح أبو سيف من وجهة نظري تنبع من اهتمامه بالتفاصيل الصغيرة و الرقيقة التي أضفت على أفلامه”مظهرا”واقعيا، لكن الأهم هو أنه كان واعيا كل الوعي بضرورة أن يترك أثرا باقيـا و عميقـا على المتلقــي، وهو في سبيـل ذلك يستعيـن بكل التوابــل السينمائيـة الجماهيــريـة، الأغنية والرقصة والخناقة التي تمزج بين العنف والكوميديا، وحتى المشاهد الجنسية الساخنة. وإنني أعتقد أن هناك في هذا المجال تأثيرا جدليا بين نجيب محفوظ و صلاح أبو سيف، اللذين اشتركا معا في صناعة بعض من أهم أفلام تلك الفترة، وعندهما تجد عناصر الميلودراما ( وليس في الميلودراما أي عيب كما يتصور البعض، وليرجع القارئ إلى دراسات الدكتور على الراعي في هذا السياق )، كما تجد المصادفة، والشخصيات النمطية مثل المومس الفاضلة، والشيخ الغامض صاحب الأسرار، والفتوة الذي يتصارع بداخله الخير والشر.
أن تكون”واقعيا”بالمعنى الدقيق للكلمة قد يعنى – في الكثير من الحالات، خاصة في سياق تاريخي غير مستقر – أن تتصادم أحيانا مع الواقع، لذلك تريد أن تكشف عنه لكي يتغير. وعلى العكس كان أبو سيف يسعـى إلى نــوع من”الحـل الوسـط”سواء مع الواقـع أو مع جمهـور السينـما، فلم يكن يفكر مرة واحدة في أي من أفلامه إلا وكان الجمهور في مقدمة حساباته، كما أنه نادرا ما كان يحاول نقض الأفكـار والمفاهيـم السائـدة في عصره. إنه يريـد تطويـرها لا تغييـرها، وإن كانت هناك استثناءات نادرة مثل”بين السماء والأرض”( 1959 )، أو الفيلم المشابهة له في المرحلة اللاحقة”البداية”( 1986 ). ولعل هذا هو السر في أن صلاح أبو سيف كان وما يزال أكثر اقترابا من الجمهور البسيط، على نحو لم يستطع تحقيقه فنانون آخرون لا يقلون عنه موهبة وأصالة، كما أن معظم أفلام أبو سيف لم تكن في جوهرها نقدا للواقع”المعاصر”، بل كانت تميل في الأغلب إلى أن ترفع الشعارات الصريحة التي تعلن عنها السلطة السائدة، ولعل المقارنة بين تفسير رواية نجيب محفوظ “القاهرة الجديدة”وتحويلها إلى فيلم ”القاهرة 30”( 1966 ) يشير إلى ذلك بوضوح. ( هل كان يملك الجرأة الفنية على تحويل زمن الرواية إلى الواقع الراهن ؟! ).
لم يكن غريبا أن يختفى – أو يكاد – انتقاد الواقع الراهن السائد في معظم أفلام أبو سيف، فكانت معظم أفلامه ذات المضمون”الثوري”تدور في أطار الإحالـة إلى”عهـد بائـد”، مثل”الوحـش”و”الفتوة”و”بداية و نهاية”و”القاهرة 30”و”الزوجة الثانية”، وحتى”المواطن المصري”( 1991 ). كما أتت أفلام أخرى له لتشيد بالعمل الوطني والفدائـي في فتـرة سابقـة تجاوزهـا العصـر، مثل”لا وقت للحب”، وأن ترفع أفلام مثل”هذا هو الحب”و”أنا حرة”و”الطريق المسدود”شعارات الدعوة لحرية المرأة في سياق يرحب بهذا الشعار. ( قارن ذلك بفيلم ”وسقطت في بحر العسل”( 1977 )، كان السياق السياسي والاجتماعي والثقافي قد تغير، فبدت المرأة في هذا الفيلم وكأنها قد عادت بإرادتها عشرات السنين إلى عصر الحريم ! ).
لقد كان”الوحش”مرتبطا في عملياته الإجرامية بالإقطاع، كما كان”الفتوة”صنيعة لفساد القصر”الملكي”، و قصة السقوط الاجتماعي في حضيض الفقر في”بداية و نهاية”مرتبطة بمجتمع”ما قبل الثورة”، والانحراف الأخلاقى في”القاهرة 30”ليس إلا نتيجة للحياة الحزبية المهترئة في العهد البائد، والعمدة الظالم في”الزوجة الثانية”ينتمي إلى ماضي الظلم والهـوان... إن مثـل هذه المعالجـات”شبـه الواقعيــة”لا تتيـح للمتلقـي أن يفهـم واقعـه المعاصـر، وبالتالي فإنه لن يسعى إلى تغييره. لكن”اللمسات الواقعية”في التفاصيل الصغيرة تملأ أفلام صلاح أبو سيف : قضبان ديكور الحديد المشغول في قصر المرأة الثرية في”الأسطى حسن”( إنها قد ترمز أيضا إلى حصار البطل الفقير عندما يدخل هذا العالم )، وتلك اللحظات الحميمة في”هذا هو الحب”للأم وهى تتأمل المطر من وراء زجاج النافذة، وذلك الأب الحنون، الموظف متواضع الحال في”الوسادة الخالية”، والمشهد الافتتاحي من”شباب امرأة”لمسيرة أقدام عارية خشنة، وحبل ممتد، وسيقان جاموسة، وأيدي تتداول تبادل الجاموسة والنقود، ويد تحنو على رقبتها كأنها لحظة وداع، لنعرف أن الأم الفلاحة تبيع جاموستها لكي يستطيع ابنها أن يذهب لاستكمال تعليمه في القاهرة.
وجهة نظري الخاصة أن صلاح أبو سيف كان”انتقائيا”، يأخذ من كل مذهب فني ( ومن كل من ساعده طوال حياته الفنية ) أفضل العناصر التي يصهرها في عالمه، وبهذا المعنى فإن صلاح أبو سيف كان”واقعيا”في حياته الفنية أكثر مما كان في فنه... إنه تجسيد لحكمة”ابن البلد”في قدرته على التفاعل مع العالم الذي يعيش فيه، وإيجابيته في التعامل والتكيف مع الواقع، وليس تغييره.

توفيق صالح ؛ خارج السياق، وفى القلب منه!

برغم أن أفلام توفيق صالح”المصرية”( إنتاجا ) لا تتجاوز الخمسة أفلام ( وجميعها تم صنعها في هذه المرحلة الكلاسيكية )، فإنني أعترف أنه من الصعب تلخيص عالمه الفني في هذه المساحة المحدودة، لكنني سوف أحاول. إن شئت نقطة انطلاق إلى هذا العالم فهي أن توفيق صالح من أكثر أبناء جيـله هما و اهتمامـا بالواقع، إنه يحـاول دائمـا الاقتـراب منه إلى أقصى حد ممكــن، وفهمه، والبحث عن إيجابياته وسلبياته، وإثارة الرغبة دائما لتغيير هذا الواقع نحو الأجمل، والأعدل.
حتى وهو يعالج سينمائيا الرواية الأدبية”يوميات نائب في الأرياف”( 1968 ) لتوفيق الحكيم، والتي تدور - بالمصطلحات التقليدية – في”العهد البائد”، فإن توفيق صالح ينهى فيلمــه بأن كلمـات مثل”الشعـب”أو”العدالــة”ما تزال غامضــة. وفى معالجـة أخرى، عـن”المتمردون”( 1968 ) لصلاح حافظ، تبدو مصحة الأمراض الصدرية، المعزولة عن العالم، أشبه بالمعتقل الذي ينفى فيه النظام المختلفين معه وعنه ( حتى لا يصيبوا الآخرين بالعدوى، التي تعنى هنا التمرد على الواقع الراهـن )، كما أن عالـم المصحـة – الذي يبدو في الظاهـر عالمـا دراميـا مغلقـا – هو في حقيقة عالم مصغر ( ميكروكوزم ) للعالم خارجه، أو بالأحرى للنظام الاجتماعي الذي يكرس الفوارق بين الطبقات. وفى”السيــد البلطــي”( 1968 ) يدور الصـراع حول تياريـن : الالتصاق بموروثات الماضي، والانطلاق نحو المستقبل، أو أنه يدور بكلمات أدق حول ضرورة التقدم والتطور. أما في”صراع الأبطال”( 1962 ) فإن نضال طبيب شاب ضد تفشى وباء الكوليـرا في قريــة صغيـرة يكشــف لـه – ولنـا – أنه ليـس نضـالا”طبيـا”، وإنمـا هـو نضــال”سياسي”، من أجل الحصول على حرية الوطن والمواطن، وعلى الحق في حياة كريمة لا تعرف الفقـــر والجهــل والمـرض والظلــم الاجتماعــي. وما دمنا نمضـى مع أفلامــه من أخرهــا إلى أولهـا، فسوف ننتهـي إلـى”درب المهابيل”( 1955 )، وفيه أقسى وأصدق صورة سينمائية لما يمكن للفقر أن يصنعه في نفوس البشر، إنه ينزع عنهم حتى إنسانيتهم ويحولهم إلى وحوش.
أهم ما في المعالجة السينمائية عند توفيق صالح هو وعيه الدائم بشكل التأثير في المتفرج، ليس على طريقة صلاح أبو سيف الذي يميل إلى”تدليل”هذا المتفرج سواء في الشكل أو المضمون، بل يأخذ هذا التأثير عند توفيق صالح شكل الاستفزاز، إنه يدفع المتفرج دائما إلى التساؤل حول ما يراه على الشاشة، وبالتالي التساؤل حول الواقع الذي تطرحه هذه الصورة السينمائية للواقع. وفى كل أفلام توفيق صالح هناك ملامح تتكرر، تبدو شديدة الاقتراب من”الواقعية”بتعريفها الدقيق الذي طرحناه في بداية هذا البحث، حيث الشخصيات تعيش في”سياق”ذي أبعاد متكاملـة، والواقع الفيلمي يشير إلى واقع أكثر امتدادا و عمقا، ويكاد صانع الفيلم أن يختفي ليترك المتفرج أمام الواقع ( الفيلمي و الحقيقي ) وجها لوجه.
إن هذه الملامــح السينمائيــة تتجلــى في العناصــر التاليـة ( قد لا أستطيــع إحصاءها كاملـــة، وليسامحني القارئ، عن إغفال بعضها ) : المكان واضح المعالم تماما، يبذل فيه توفيق صالح جهدا فائقا لكي يصبح كالبلورة التي يتكثف فيها الواقـع بكل أبعاده، والزمـان محـدد تمامـا، تكاد أن تضع له قوسي البداية والنهاية دون عناء، ومع ذلك فإنك ترى ما قبل البداية وما بعد النهاية، لأن هذا الزمان ليس إلا لحظة من زمان أكبر كان وما يزال مستمرا، أما الحدث فهو شديد الكثافة ( إلى حد يشكل إرهاقا على المتفرج في بعض الأحيان )، ولا يترك توفيق صالح سيناريوهات أفلامه دون أن يعالجها بنفسه، لأنه يريد لها أن تتصاعد دائمـا نحو ذروة دراميــة”تتصادم”فيها أطراف الصراع، كأنه يدرك أن هذا الصدام هو الطريق الوحيد لحل تناقضات الواقع.
وأرجو أن تتوقف قليلا عند البطل فى أفلام توفيق صالح، الذي يخطئ بعض النقاد – للأسف – بوصفه أنه ينتمي إلى”الواقعية الاشتراكية”، فالحقيقة أن الأمر على العكس تماما : البطل عند توفيق صالح يريد التغيير ويسعى إليـه، لكنه هو نفسـه يحتوى على صراعـات ذاتيـة داخليـة، إنه يحارب التخلف أحيانا لكنه لا يزال يحمل بعض أثار هذه القيم المتخلفة، وهو يناضل ضد الديكتاتورية لكنه يمارسها عندما تؤول المسئولية إليه، وهو يحارب الأسطورة لكنه ما يزال واقفا في أسرها وسحرها. وهذا الصراع الداخلي هو الذي يجعل الدراما أكثر عمقا، وقل أيضا أكثر واقعية. وليست هناك”نهاية سعيدة”في أفلام توفيق صالح، لأنه ليست هناك حلول توفيقية أو تلفيقية لتناقضات الواقع، ليخرج المتفرج وهو يطرح على نفسه عشرات الأسئلة باحثا لها عن إجابات.
لقد كان توفيق صالح هو الأقرب إلى قلب الواقع، وهو فى نفس الوقت على اليسار منه، لقد كان مع الثورة، لكنه كان يرى سلبياتها أيضا، ويتمنى لو استطاعت أن تتجاوز هذه السلبيات. بكلمات أخرى فإنه كان "يحب" الثورة، ولأنه الأكثر صدقا فى حبها من أعماقه فإن ككل محب عاشق كان قاسيا وقاطعا فى رغبته أن تمضى الثورة نحو مستقبل أكثر جمالا وعدلا .... لكن الثورة ذاتها كانت تمضى نحو منعطف خطر، فمنذ السبعينات وحتى اليوم وهى تعيش انقلابا حقيقيا وكاملا عليها، ولتتأمل حالنا على المستوى الداخلى والخارجى لتدرك أن الزمان دار دورة كاملة، ليعود من جديد إلى النقطة التى اندلعت فيها الثورة!

No comments: