"ليس هناك عمل مثل العمل فى
صناعة الفن"، هذا قول مأثور يجري على ألسنة العاملين في عالم الترفيه بأنواعه
المختلفة، من المسرح والاستعراض والغناء والسينما، دلالة على تفرد هذه الفنون. وفي
الحقيقة أنها مثل كل الصناعات الأخرى تتطلب قدرا من المعرفة والجهد، لكن العمل
المستمر الذي لا يتوقف أبدا، بحثا عن الجديد والتجديد، وسعيا دائما إلى إرضاء
الجمهور الذي يواجه صانع العمل وجها لوجه، يتطلب أن يذوب شيئا فشيئا ذلك الحد
الفاصل بين الحياة الخاصة والمهنة، حيث يصبح التفكير فيما تم صنعه، وما سوف يتم
صنعه، أمرا يشغل العامل في صناعة الترفيه في كل لحظات حياته. ومن هنا تكونت
"عائلات" فنية في كل مجالات الترفيه، سوف يضيق المجال عن حصرها، لكننا
سوف نقتصر الآن على بعض عائلات السينما.
وربما لا يوجد
سحر يعادل أن يعيش الطفل أو الطفلة مع أحد والديهما في "بلاتوهات"
الاستوديوهات، التي تصبح عندئذ امتدادا للمنزل ذاته. فهكذا تربى – على سبيل المثال
لا الحصر – الممثل مايكل دوجلاس مع أبيه كيرك دوجلاس، أو جين فوندا مع أبيها هنري
فوندا، أو أنجلينا جولي مع أبيها جون فويت. ولعل المثال الأوضح هو حالة نجمة
الاستعراض ليزا مينيللي، التي عرفت هذا العالم بكل تنويعاته – من المسرح إلى
السينما – بوجودها مع أبيها المخرج الشهير فينسينت مينيللي، أو أن تكون عائلة
كاملة من المخرجين والممثلين، مثل عائلة المخرج فرانسيس فورد كوبولا، وابنته
المخرجة صوفيا كوبولا، وابن أخيه الممثل نيكولاس كيدج، رغم أنه لا يكاد أن يوجد
عمل فني واحد يجمع بينهم!
لكن هذه العلاقة
الأسرية كثيرا ما أنتجت روائع سينمائية، فلا يمكن أن ننسى فيلم
"امرأتان" الذي أنتجه المنتج الأشهر كارلو بونتي لزوجته صوفيا لورين،
كما كان فيلم "رحلة إلى إيطاليا" ثمرة الحب الملتهب الذي انتهى إلى
الزواج بين المخرج روبيرتو روسيلليني والممثلة إنجريد بيرجمان، كذلك كانت علاقة
الزواج بين المخرج والممثل الكوميدي ميل بروكس والممثلة آن بانكروفت هي التي أدت
إلى أفلام مهمة في تاريخ السينما الكوميدية، مثل "أن تكون أو لا تكون"
و"فيلم صامت". غير أن هناك أفلاما "فنية" بحق (ليست تجارية
بالمعنى التقليدي للكلمة) ظهرت نتيجة لهذه العلاقات الأسرية الحميمة، فقد كان
المخرج الأمريكي جون كاسافيتيس صاحب أسلوب واقعي خاص، ربما لم يكن هناك غير زوجته
الممثلة جينا رولاندز من يقدر على تجسيده، كما في فيلم "وجوه" أو
"امرأة تحت التأثير"، ولا يمكن أن ننسى الفيلم ذا الطابع الوجودي القاتم
"الوعد" الذي أخرجه الممثل شون بين، وقامت ببطولته زوجته روبين رايت
بين، بالاشتراك مع النجم جاك نيكولسون.
وهناك في السينما المصرية أمثلة على مثل هذه العلاقات
الأسرية، التي أدت إلى أفلام مهمة. وربما كانت البداية – التي تركت أثرا كبيرا على
صناعة السينما المصرية في مرحلة مهمة من مراحلها – هي زواج الممثلة والمنتجة ماري
كويني من الصحفي وكاتب السيناريو أحمد جلال، الذي تحول إلى الإخراج، بل التمثيل
أيضا في بعض الحالات، في أفلام مثل "أم السعد" و"رباب"
و"فتش عن المرأة"، وأثمرت هذه العلاقة تأسيس "استوديو جلال"،
الذي ظل حتى وقت قريب مكانا لصنع العشرات من الأفلام المصرية، كما أثمرت أيضا
جيلين من مخرجي السينما: الابن نادر جلال، والحفيد أحمد نادر جلال!
لكن العلاقتين الأشهر في المرحلة اللاحقة، واللتين أسستا
لأنماط فيلمية مصرية خالصة، هما أولا علاقة الزواج بين الممثل المخرج المنتج
(وأحيانا كاتب السيناريو) أنور وجدي بالمطربة الممثلة ليلى مراد، ومعهما عرف
الجمهور العربي لونا خاصا ومميزا للسينما الغنائية، برع أنور وجدي في صنعه، مثل
"قلبي دليلي" و"غزل البنات". أما العلاقة الثانية فكانت بين
المخرج حسين فوزي والممثلة الراقصة نعيمة عاكف، اللذين قدما تنويعة مصرية للسينما
الاستعراضية، تجمع بين التمثيل والرقص والغناء، مثل فيلمي "أحبك يا حسن"
و"العيش والملح" . وفي هاتين الحالتين قفزت السينما المصرية قفزات
حقيقية، من سينما فطرية لا تخلو من السذاجة، لكي تصبح "صناعة" تعرف كيف
تلبي احتياجات الجمهور، سواء على مستوى الشكل أو المضمون.
وهناك من بين النجمات الممثلات من أتاح لهن الزواج الفني
فرصة للظهور أو الاستمرار أو كليهما معا. فخلال الفترة القصيرة التي ارتبط فيها
المخرج الممثل الكاتب السيد بدير بالمطربة الصاعدة آنذاك شريفة فاضل، صنع لها أول
أفلامها التي ظلت قليلة، لكن التجربة انتهت دون أن تترك أثرا، بسبب طموح بدير إلى
أن يصنع "فيلم رعب وتشويق" مصريا (كانت تلك هي "موضة"
المسلسلات الإذاعية الرائجة في تلك الفترة!)، وهو ما لم يتفق أبدا مع رسم صورة
النجومية المطلوبة لشريفة فاضل. كذلك فإن المنتج صبحي فرحات خلق فرصا عديدة لزوجته
زبيدة ثروت لكي تكون نجمة، مثلما تبدى في فيلم "يوم من عمري" وأفلام
أخرى، كما أن المنتج الشهير رمسيس نجيب كرس كل جهوده في مرحلة ما من أجل صنع أفلام
لزوجته لبنى عبد العزيز، مثل "غرام الأسياد" والعديد من الأفلام، لكن
ذلك لم يأت معهما (زبيدة ثروت ولبنى) بما كانتا تحلمان، لأن الظروف كانت مهيأة
أكثر لظهور نجمة الطبقة الوسطى الصاعدة سعاد حسني، ومعها نادية لطفي.
ولعل سعاد حسني ذاتها تمثل في مرحلة من حياتها هذا
التعاون الفني "العائلي"، الذي نجح مع زوجها المخرج على بدرخان في
"الجوع" و"أهل القمة" و"الراعي والنساء"، بينما لم
يحقق نفس النجاح مع زوجها كاتب السيناريو ماهر عواد في "الدرجة
الثالثة". لكن الفرق هنا هو أن سعاد كانت بالفعل "نجمة" عندما صنعت
هذا التعاون، بينما تم "تصنيع" النجومية على مقاس نادية الجندي في مرحلة
لاحقة، بفضل زواجها من المنتج محمد مختار، وكانت قد بدأت التمثيل قبلها بعقدين من
الزمن (هل يتذكرها أحد في "صغيرة على الحب" مثلا؟)، لكي يصنع لها الزوج
العديد من الأفلام على مقاسها، حيث يتم تفصيل الفيلم لكي يحقق لها حلمها بأن
"تمثل وترقص وتغني"، حتى لو لم يتسق ذلك كله في نسيج فني، لتأتي أفلام
من نوعية "امرأة فوق القمة" و"الشطار" و"مهمة في تل
أبيب" و"48 ساعة في إسرائيل"، وهي أفلام كانت ذائعة الصيت في
زمانها، لكنها مضت دون أن تترك أثرا، والدليل الواضح على ذلك أنها لم تعد الآن
مطلوبة حتى لإذاعتها في القنوات الفضائية.
وبالمثل فإن فيلم الأب المنتج (وصاحب التاريخ الطويل في
كل فروع السينما) فريد شوقي، لم يؤدِ إلى تحقيق النجومية لابنته رانيا فى "آه
وآه من شربات"، أو محاولة الزوج المنتج أحمد أبو بكر لصنع نجومية لزوجته
الممثلة تيسير فهمي في "دسوقي أفندي في المصيف" أو "الشيطان يقدم
حلا". لذلك فإن مجرد العلاقات العائلية في السينما المصرية ليس ضمانا لصنع
أعمال فنية أصيلة، لكن قد تأتي الرياح أحيانا بما تشتهي السفن. فعلى سبيل المثال
صنع المنتج سلطان الكاشف لزوجته الممثلة الراقصة لوسي فيلما بعنوان "كرسي في
الكلوب"، أتى بدائيا إلى حد كبير رغم المجهود الكبير في إنتاجه، وعلى النقيض
أنتج لها فيلما سوف يبقى من علامات السينما المصرية، هو "سارق الفرح"،
من إخراج داود عبد السيد، أصبحت فيه لوسي ممثلة بحق، كما فعلت من قبل في دور صغير
لفيلم نفس المخرج "البحث عن سيد مرزوق".
لذلك "ليس هناك عمل مثل العمل في صناعة الفن"،
بشرط ألا تكون العلاقة العائلية هي السبب الوحيد لصنع العمل، وأن يكون عملا فنيا
بمعنى الكلمة!! ومثل كل المهن الأخرى، قد تنتقل المهنة بين أفراد العائلة، لأن تلك
العلاقة تتيح لهم معرفة بعض من "أسرار المهنة"، لكن الأعمال الفنية
تتطلب تفانيا أكبر، يتلاشى فيه الفرق بين العمل الفني والحياة.
No comments:
Post a Comment