حتى وقت قريب، كان من المستحيل في المسلسلات
التليفزيونية أن ترى شخصية درامية ما تدخن سيجارة، ولم يكن ذلك في أغلب الأحوال ميثاقا
مكتوبا أو ناتجا عن رقابة متزمتة، ولكنه كان بسبب إحساس صناع هذه المسلسلات
بالمسئولية الأخلاقية الضمنية تجاه جمهورهم. وكانت السينما لا تشعر بهذا القيد
بدرجة كبيرة، لذلك كان من السهل على المخرج، حين يريد من الممثل التعبير عن
التوتر، أن يطلب منه تدخين سيجارة وراء أخرى، ولعله يذهب ببطله أيضا إلى إحدى
الحانات، لكي يتجرع الخمر "حتى ينسى" (!!)، ولا مانع أيضا أن تكون تلك
فرصة لرقصة أو أغنية على الأقل!
كان الفارق الأساسي – وما يزال – هو أنك تذهب للسينما
بإرادتك، وتختار الفيلم الذي تسعى إليه بقدميك، بينما تقتحم المسلسلات
التليفزيونية عليك حياتك دون استئذان، كما أنها لا تعرف التفرقة بين شرائح
المتفرجين، خاصة عندما تصبح المسلسلات (وحاليا برامج التهريج أيضا) مادة أساسية
لعشرات القنوات التليفزيونية، لا يكاد أحدها أن ينتهي حتى يبدأ الآخر، وعندما تمسك
بالريموت لكي تغير المحطة ففي الأغلب سوف تجد نفسك تنتقل إلى مسلسل آخر، ولا حيلة
لك في الاختيار بين هذا وذاك، في معظم الأحوال.
وللأسف أصبح من المعتاد اليوم في مسلسلاتنا أن تدخن
الشخصيات سجائرها بنهم بالغ، ولا مانع أيضا من تدخين أشياء أخرى، وتظهر هذه
الشخصيات وهي تتجرع الخمر في حياتها اليومية، بدلا من أن تشرب شايا أو قهوة أو
مشروبا لطيفا، بل ربما كان الأخطر أن تمارس سلوكيات كانت مستهجنة في مجتمعاتنا،
مثل حديث الأبناء للوالدين باستهتار ومزاح ثقيل، يصل أحيانا لدرجة عدم الاحترام
والعدوانية التي لا تخلو من الصفاقة. وإذا تأملت أكثر في الأجواء الاجتماعية التي
يتم تقديمها في معظم المسلسلات، فسوف تكتشف أنها تقول لك دائما إن كل شيء قابل
للمساومة بالمال أو الإغراء الحسي، بما يشير إلى أنه لا وجود لقيمة تدعى
"الشرف" الإنساني الذي هو قرين كل "حضارة" حقيقية، وليس مجرد "المدنية"
التي يتم التعبير عنها بالملابس الأنيقة أو الأشياء الاستهلاكية العصرية.
إن ذلك يفتح في الحقيقة بابا واسعا أمام مناقشة علاقة
الفن بالواقع، لكن دعنا أولا نلقِ نظرة على هذا "الواقع" كما تقدمه معظم
مسلسلاتنا التليفزيونية. إنه الواقع الذي يبادل فيه الناس السباب والشتائم في كل
مناسبة، أو توصف الشخصيات بأحط الألفاظ وأكثرها سوقية. ومن الغريب أن لفظا كان –
وما يزال – يعتبر في العامية المصرية وصفا بالغ القبح مثل "وسخ" (وإن لم
يكن ذا دلالة قبيحة مماثلة في مجتمعات أخرى)، أن يتردد على الألسنة بسهولة مفرطة،
وهو ما يبدو واضحا، على سبيل المثال لا الحصر، في مسلسل "تحت الأرض"
و"نيران صديقة"، تماما مثل شخصيات مسلسل "حكاية حياة" الذي
يتردد فيه كثيرا وصف عائلة البطلة (غادة عبد الرازق) بأنها "واطية"!
والعائلات في معظم المسلسلات التليفزيونية تتبادل
ممارسات بالغة السوء، لا فرق بين أم وابنة أو أخ وأخته، فكلهم يبغضون بعضهم
ويدبرون المكائد المتبادلة، على نحو ما ترى مثلا في مسلسل "الشك"
و"حياة حياة"، بل قد تكون هناك في هذا المسلسل الأخير إشارات مكشوفة
لعلاقات محرمة، حين يبدو الابن وهو يشعر بالانجذاب نحو من تفترض أنها أمه، ولن
يقلل من هول تلك التلميحات أننا سوف نعرف أنها في الحقيقة خالته.
وإذا كان هذا هو
الحال بين أفراد الأسرة، فإنه يصبح أكثر وضوحا بين الأصدقاء أو زملاء العمل، الذين
يعيشون خيانات زوجية بين بعضهم البعض في مسلسل "تحت الأرض"، بل يصل
الأمر إلى أن تصبح هذه الخيانات متبادلة بعلم أطرافها (!!)، كما في مسلسلات
"نيران صديقة" و"حكاية حياة" و"رقم مجهول" مثلا،
وتسير الحياة "طبيعية" تماما في ظل هذه الخيانات، وكأنها شيء عادي تماما!
وليس غريبا والحال كذلك أن تجد دورا هنا وهناك لشخصية
امرأة تمارس الغواية كأنها تتنفس، مثل شخصية رانيا يوسف في "نيران
صديقة"، أو شخصية نهلة سلامة في "حكاية حياة"، في دور طبيبة مستشفى
الأمراض النفسية والعقلية، التي تبدو أقرب لفتاة ليل بالمعنى الكامل والصريح
للكلمة. وفي هذه الأجواء تنتشر على نحو غريب "خلطة" الجمع بين
"البيزينيس" والجنس والإغراء، على نحو ما يبدو واضحا تماما في مسلسل
"تحت الأرض".
وكنتيجة أخرى لسهولة التقنيات التليفزيونية الرقمية
المعاصرة، بدا أنه من السهل أيضا تنفيذ مشاهد "الأكشن" والعنف المفرط،
فمسلسل "تحت الأرض" على سبيل المثال يكاد أن يعتمد تماما على مشاهد
القتل والتفجيرات، كما أن مسلسل "طرف ثالث" يحتوي على الكثير جدا من
مشاهد مطاردات السيارات، التي كان من المستحيل تنفيذها للتليفزيون بالتقنيات
القديمة. وليس الأمر هنا هو مجرد "القدرة" على تنفيذ مشهد بطريقة
السينما، وإنما أن هذا العنف يدخل بيوتنا بالرغم منا، ويراه أطفالنا في لحظات
استرخائهم، ليصبح في حد ذاته مصدرا لـ"متعة" مريضة، كما أنه يتحول إلى
ممارسة يومية قد تتسلل دون وعي إلى سلوكياتهم.
وبرغم أن مسلسل "بدون ذكر أسماء" يعتبر من
الناحية الفنية الأفضل بين مسلسلات الموسم الأخير، فإنه لم يخلُ أيضا من مشاهد
عديدة لعنف الشوارع، حيث تستخدم الأسلحة البيضاء كطريقة للتفاهم بين الجميع!! وفي
هذا المسلسل أيضا تجسيد لملمح آخر من ملامح مسلسلاتنا المعاصرة، فهو يختار أن يصور
"حضيض" المجتمع، على نحو قد لا تعرفه إلا في روايات تشارلز ديكنز في
النصف الأول من القرن التاسع عشر على سبيل المثال، ليبدو العالم السفلي للمدينة
أشبه بمعرض للتشوهات الاجتماعية. وفي مقابل عالم الفقر المدقع ذاك، هناك في
مسلسلاتنا تصوير لعالم الثراء الفاحش، الذي يتجسد دائما في شخصيات تسكن قصورا
فاخرة، وتركب سيارات فارهة، كما في مسلسل "اسم مؤقت" مثلا، وأن يصبح
مصدر الخلافات الزوجية هو الاختيار بين عمرو دياب أو تامر حسني، كما في مسلسل
"نيران صديقة"!!
قد يدهشك – ومعك الحق – أنه لا وجود للطبقات المتوسطة في
مسلسلاتنا، وليس هناك اهتمام بالتعبير عن آمالها وآلامها، وأحلامها وكوابيسها،
التي تعيشها في ظل واقع حقيقي مضطرب، تكاد فيه هذه الطبقة أن تغرق، بينما هي في كل
المجتمعات الطبقة الحاملة للقيم الاجتماعية السائدة، والتي تمثل للطبقة الدنيا
أملا في الترقي، كما تمارس نوعا من الكبح للسلوكيات المترفة للطبقات الثرية، وليس
هناك دليل على غياب الطبقة المتوسطة أكثر وضوحا من المسلسلات التي قامت يسرا ببطولتها
في الأعوام الأخيرة، فجميعها يدور في "يوتوبيا" منبتة الصلة عن الواقع،
مثل ذلك المطعم الافتراضي في مسلسلها الأخير "نكدب لو قلنا ما بنحبش"،
حيث جميع الشخصيات – دون استثناء – تعيش مشكلات عاطفية ليس بينها وبين الواقع صلة
من قريب أو بعيد.
الصلة مع الواقع، تلك هي المشكلة حقا، والتي تعيدنا إلى
السؤال التقليدي: هل الفن انعكاس للواقع، أم تعبير عنه؟ وفي الحقيقة أنه سؤال
مراوغ، فالفن شيء بين هذا وذاك، وفي الحالتين توجد هذه الصلة بينه وبين الواقع.
فحتى أفلام الخيال العلمي على سبيل المثال تعبر عن شخصياتها الافتراضية من خلال
مفردات واقعية (عيون، أيدي، أقدام....)، كما أنها تحكي عن صراع الخير والشر كما
نعرفهما في حياتنا، أو قل إنها تحكي عن "قيم" أخلاقية واجتماعية هي جوهر
هذه الحياة.
ولكي نجعل الأمر أكثر بساطة، دعنا نتصور أنك تريد أن
تعرض على الشاشة مشهدا للقتل، فهل ينبغي عليك أن تختار صورة الدماء وهي تتدفق من
الضحايا، أم أن من الممكن تجسيد قسوة الفعل يالإشارة إلى آثاره؟ وإذا كان هذا
الاختيار متاحا في السينما، فإنه ليس كذلك – ولا ينبغي له أن يكون – في
التليفزيون. وربما يقول لك البعض إن العنف مثلا منتشر في المجتمع في لحظة ما، لكن
هل دور الفن – خاصة التليفزيون – أن يجعل منه عنفا "عاديا"، ليصبح جزءا
من سلوكيات وأخلاقيات المشاهدين، خاصة الأطفال منهم؟
وإذا كان بعض صناع مسلسلاتنا يستعرضون مهاراتهم في
محاكاة السينما، التي قد تتناول جوانب غير سوية من الحياة اليومية، فإننا نطلب منهم
– إلى جانب هذه المهارة – القليل من الأخلاق أيضا!
No comments:
Post a Comment