قبل بداية عرض الفيلم المصري "أسرار عائلية"
بشهور طويلة، أصبح مثارا لجدل كبير بين الرقابة من ناحية، وصناع الفيلم وبعض
النقاد من ناحية، بسبب ما أشيع عنه من أنه يتناول مشكلة الانحراف النفسي والجنسي.
وللأسف، لم تكن هذه المرة هي الأولى ولن تكون الأخيرة، التي يتم التعامل فيها مع
فيلم مصري على أساس "الموضوع"، بعيدا عن الشكل والمضمون والمعالجة، كما
لن تكون المرة الأخيرة التي تُستغل فيها مشكلة مثارة، كنوع من الدعاية المجانية
للفيلم!
وليس ببعيد عنا ما حدث مع فيلم "أحاسيس"، الذي
قيل عنه أنه يعالج الانحرافات الأسرية، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات الزوجية، لكن
عندما عُرض الفيلم تبين أنه ليس إلا استغلالا تجاريا خالصا لهذه العلاقات، أو قل إنه
نموذج على القول الخبيث المأثور: "نحن لا نوافق على الممارسات المريضة، وهذه
هي عينة من تلك الممارسات"!! ورغم ذلك فإن العلاقة بين السينما وعلم الاجتماع
وعلم النفس تعود إلى بداية السينما ذاتها، خاصة أن السينما نشاط اجتماعي يمارس بشكل
جماعي، حيث يصبح المتفرج الفرد في ظلام قاعة العرض مجرد واحد من متفرجين كثيرين،
يتأثرون في اللحظة ذاتها بما يشاهدونه على الشاشة. من ناحية أخرى، فإن السينما
تضرب بجذورها في علم النفس، حتى في مجرد انطباع صورة ثابتة على الشاشة، فإذا بها
تصبح صورة متحركة في عقل ونفس المتلقي، نتيجة عملية نفسية وفسيولوجية تدعى
"بقاء الرؤية".
ولم يكن غريبا أن يتوافق ظهور السينما مع تطور العلوم
الإنسانية، خاصة علم النفس، فمع بداية ظهور الأفلام تطورت نظريات نفسية عديدة، لعل
أشهرها ما أتى به سيجموند فرويد، من أن هناك لدى الإنسان عقلا "غير
واعٍ"، يؤثر في سلوكه على نحو أكثر قوة من العقل الواعي، ناهيك عن محاولة
الدخول إلى عالم الأحلام، والعديد من الأمراض النفسية الأخرى، التي كان أشهرها ما
عرفناه بشكل لا يخلو من سذاجة، فيما أسميناه "ازدواج الشخصية" أو
"الشيزوفرينيا"، والتي أصبحت موضوعا خصبا للعديد من الأفلام، كان من
أشهرها المعالجات العديدة لرواية "دكتور جيكل ومستر هايد"، التي كانت
تحكي عن رجل متحضر يمارس حياته العادية نهارا، لكنه يتحول خلال الليل إلى وحش
شرير، وبالطبع كان من المشاهد الآسرة التي لا تقدر على تجسيدها سوى السينما، ذلك
المشهد (بالمزج البطيء بين لقطتين) لهذا التحول الغريب.
وكثيرا ما عالجت السينما العالمية مثل هذه الأمراض
والسلوكيات الشاذة، وإن لم يكن ذلك دائما مطابقا للعلم. ومن أهم الأفلام الأولى من
هذا النوع الفيلم الألماني "إم"، الذي يتناول حياة رجل مريض باختطاف
الأطفال، ولا يتوقف عن ترديد لحن معين يصفره بفمه، وكلما كان هذا اللحن يتردد على
شريط الصوت، كان المتفرج يتوقع وقوع جريمة جديدة شريرة. من جانب آخر يصبح المريض
النفسي في "صمت الحملان" هو دليل مفتشة الشرطة للإمساك بمجرم منحرف هارب،
لأنه يعرف ويتوقع سلوك هذا المجرم قبل أن يرتكب جريمته.
وتراوحت الأمراض النفسية بين الظهور في أفلام فنية غير
تجارية، وأفلام أخرى ليس من هدف لها إلا جذب المتفرج، وإن كنا سوف نهتم أكثر
بالنوع الأول، للتدليل على أن السينما تستطيع أن تعالج الممارسات المريضة أو
الشاذة على نحو فني رفيع. هناك مثلا فيلم "خطبة الملك"، الذي يتحدث عن
معاناة الملك جورج السادس ملك بريطانيا قبيل الحرب العالمية الثانية، من التلعثم
نتيجة قسوة أبيه عليه في طفولته، وكيف أنه تخلص من مرضه حين أعلن دخول بريطانيا
الحرب لإيقاف العدوان النازي. كذلك فيلم "رجل المطر" الذي يتناول مريضا
بالتوحد، كان يمثل في البداية عبئا على أخيه الانتهازي، لكنه يصبح في النهاية
دليله لحياة أعمق في معناها ومغزاها.
ومن أكثر أفلام هذا النوع طرافة فيلم
"اقتباس"، الذي بدأ مشروعه كاقتباس لكتاب تسجيلي عن سارق زهرة نادرة من
محمية طبيعية، ولأن كاتب السيناريو تشارلي كاوفمان وجد صعوبة في تحقيق هذا
المشروع، فقد قام بتحويل الفيلم لتصوير معاناته الشخصية في الاقتباس، التي تجسدت
في وجود توأم له أكثر مرونة وانفتاحا، يساعده على خوض المشروع أحيانا ويحبطه
أحيانا أخرى، وكان من الغريب أن يظهر اسما كاوفمان وتوأمه المفترض باعتبارهما
كاتبين لسيناريو الفيلم!! أم فيلم "حياة باي"، فيصور رحلة بالغة القسوة
لفتى في قارب، يصاحبه فيه نمر بنغالي متوحش، لنكتشف في النهاية أن ذلك كله يدور في
عقل بطلنا، الذي فقد عائلته في غرق سفينة خلال عاصفة عاتية.
وحين يأتي الأمر للأفلام المصرية التي تناولت مثل هذه
الموضوعات النفسية، ذات الظلال الاجتماعية، فسوف تكتشف أنها كانت في الأغلب تقوم
بذلك لتحقيق هدف تجاري خالص. تأمل على سبيل المثال فيلم صلاح أبو سيف (الذي كان
يجيد صنع أفلام فنية وأخرى تجارية) "حمام الملاطيلي"، ولعلها كانت المرة
الأولى التي تظهر فيها هذه الشخصية منحرفة السلوك، لكن دون أن يكون ذلك تناولا
جادا. كذلك في الفيلم المعاصر "عمارة يعقوبيان"، المأخوذ عن رواية بنفس
الاسم أطلق عليها بحق الناقد الراحل فاروق عبد القادر "أدب التلسين"
(بمعنى إثارة الفضائح)، وكانت الشخصية المنحرفة مجرد توابل تجارية لا تهدف إلى أي
معالجة جادة.
من هذا النوع أيضا تجد توابل فيلم "حين
ميسرة"، الذي يعكس روحا مغرقة في الميلودرامية الزائفة، فالبطلة تخوض رحلة
قاسية في المجتمع، تطوف فيها بعوالم غريبة ووحشية، ومن هذه العوالم امرأة منحرفة
يمكنك أن تحذفها من الفيلم تماما دون أن تفتقد أي شيء. وإذا كان فيلم "سوق
المتعة" يبدي في ظاهره الرغبة في تناول العالم النفسي المشوه لسجين اعتاد على
حياة السجن، فإنه في الحقيقة يتحول إلى "متحف" يحتشد بكل أنواع الأمراض والانحرافات،
وهو ما يتناقض مع المضمون المفترض الذي ينادي بالحرية، فإذا به يقول: "دع
السجين مستريحا في سجنه، فسوف يعاني عندما يحصل على حريته"!!
لكنك تستطيع أن تجد معالجات أكثر نضجا للانحرافات
النفسية، في عدد قليل من الأفلام المصرية. وربما كان أهمها على مستوى الشكل هو
"زوجتي والكلب" لسعيد مرزوق، و"الاختيار" ليوسف شاهين،
فكلاهما يلجأ إلى التعقيد الشكلاني، الذي يعتمد على المونتاج السريع القافز،
وزوايا التصوير الغريبة، للتعبير عن عالم نفسي مشوه يعيش فيه البطل، وإن كان هذا
التعقيد سببا في غموض مضمون الفيلمين كليهما. على العكس، يأتي فيلم محمد أبو سيف
"النعامة والطاووس" دراسة في العلاقات الزوجية الحميمة، دونما ابتذال يُفقد
الفيلم معناه.
لكن هناك فيلمين لمخرج واحد هو محمد أمين، يُظهران أزمة
السينما المصرية في معالجة هذه القضايا. كان الفيلم الأول هو "فيلم
ثقافي"، الذي اُعتبر حين ظهوره علامة على سينما جديدة، تتخلى عن
"الحواديت" التقليدية، لتتبنى بناء يقوم على الفقرات، ليستعرض قطاعا
كبيرا من المجتمع، الذي يعاني من ازدواجية المعايير والثقافة، خلال رحلة ثلاثة
أصدقاء بحثا عن مكان وجهاز يشاهدون فيه فيلما فضائحيا. وكان الحرمان الجنسي في هذا
الفيلم تعبيرا عن مجتمع لا يلبي الاحتياجات الأساسية لأبنائه بشكل سوي. وللأسف جاء
فيلم تالٍ لنفس المخرج، هو "ليلة سقوط بغداد"، ليذهب إلى فرضية لا تخلو
من سذاجة ورعونة وتطرف، إذ يحيل تخلف قطاع كبير من أبناء العالم العربي كله إلى
الحرمان الجنسي، ويقول إن الحل هو الحرية المطلقة، متناسيا الأسباب الحقيقية لهذا
التخلف، الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحضارية..... وهكذا
فإن الموضوع الجاد يتحول إلى هزل كامل، نتيجة الوقوع في مأزق التبسيط المخل من
ناحية، والرغبة في إضافة توابل تجارية من ناحية أخرى، ليبقى موضوع الانحرافات
النفسية في أغلب أفلام السينما المصرية تجسيدا لنوع من الانحرافات السينمائية!!
No comments:
Post a Comment