Monday, April 07, 2014

مسلسلات تليفزيونية بطعم السينما، ولكن!!

مع التطور الهائل في التقنيات التليفزيونية، بدت المسلسلات في الآونة الأخيرة تقترب في أسلوبها من السينما، ولا يدرك وجود هذا الأسلوب بقوة سوى الجيل الأكبر سنا من المشاهدين وصناع المسلسلات معا، فقد كان هناك حين من الدهر (ربما حتى بداية السبعينيات من القرن الماضي) لم يكن هناك وجود لما يمكن أن تسميه "المونتاج"، ولعل هناك من يتذكر مثلا مسلسل "القاهرة والناس" لمحمد فاضل، الذي كان يتم تصويره كأنه مسرحية متصلة دون قطع مونتاجي واحد، بما كان يفرض نوعا خاصا من الكتابة تقترب كثيرا من المسرح، حتى أنه لم يكن من الممكن لممثل أن يخرج من مشهد ليدخل آخر جديدا، إلا إذا كان هناك مشهد بينهما يتيح له زمنا يسمح له بذلك، كما كان يعني أن خطأ واحدا في الأداء يتطلب إعادة تصوير وتسجيل المسلسل من أوله مرة أخرى!!
الآن أصبح ممكنا الانتقال في الزمان والمكان حيث يقتضي التطور الدرامي، فكما يتم تصوير الأفلام، لا يصبح المسلسل التليفزيوني جاهزا للعرض إلا بعد إجراء المونتاج عليه، ذلك لأن مشاهده – بل لقطاته أحيانا – يتم تصويرها منفصلة تماما، لذلك بات من الشائع استخدام "الفلاش باك" للعودة إلى الماضي، أحيانا في لقطات بالغة السرعة في إيقاعها، ففي مسلسل "حكاية حياة" على سبيل المثال تتذكر البطلة (غادة عبد الرازق) لحظات اعتداء الممرض الشرير عليها في ومضات سريعة، وفي مسلسل "تحت الأرض" يتخيل البطل (أمير كرارة) أن ابنه الوحيد يلقى مصرعه، في حادثة اغتيال من المقرر أن يقوم الأب بتدبيرها. كما أصبح من الممكن تصوير مشاهد هي بطبيعتها ذات إيقاع سريع ومتوتر، مثل مطاردة السيارات في "طرف ثالث".
لكن المونتاج لم يكن إلا واحدا من العناصر السينمائية التي دخلت على المسلسلات التليفزيونية، فربما كان الأهم هو تلك الكاميرات المحمولة خفيفة الوزن، التي يمكن بها تصوير مشاهد خارجية، حررت المسلسلات من قيود الاستوديو وديكوراته، وكثيرا ما ترى فيها مشاهد تدور في أماكن عامة، بل قد يبلغ الأمر حد التصوير في يخت عائم مثلما هو الحال في "تحت الأرض"، أو في لقطات ذات حس تسجيلي بالغ القوة في "بدون ذكر أسماء"، في الشوارع والحارات، وأماكن من قاع المدينة وأحراشها، لم يكن من الممكن إتقان تنفيذ ديكوراتها على هذا النحو شديد الواقعية، حتى أنك ترى في بعض المشاهد البطلة (روبي)، وهي تبيع الزهور لأصحاب السيارات الفارهة في إشارات المرور المزدحم، بطريقة تبدو (ولعلها كذلك بالفعل) قد تمت بأسلوب التقمص الكامل للشخصية.
لقد أتاحت هذه الكاميرا المحمولة أيضا أن تعبر عن عين الممثل ووجهة نظره، فنحن نسير مع شخصية الصعلوك رجب (محمد فراج) في "بدون ذكر أسماء" لنستعرض المكان الموحش حيث تقيم زعيمة الشحاذين (فريدة سيف النصر)، أو نتسلل مع شخص غامض في "رقم مجهول" إلى منزل ما، لتدور معركة يتم التعبير عنها بحركة شديدة الاهتزاز للكاميرا. كما أدت هذه الكاميرات الرقمية الحساسة إلى الاستغناء في أحيان كثيرة عن الإضاءة الاصطناعية، والتصوير بدلا من ذلك في الضوء المتاح (ولعل ذلك يفسر الإعتام غير المقصود في بعض اللقطات)، لكن ذلك يصبح ذا أثر درامي مرهف كما في أحد مشاهد "نيران صديقة"، حين تنقطع الكهرباء وتضاء الشموع، لتزيد هالة الغموض التي تحيط بعلاقة الأصدقاء القدامى الذين تجمعوا بعد مرور زمن طويل.
وقريبا جدا من السينما، أصبح من المعتاد أن ينتهي مشهد بإظلام تدريجي، ليبدأ المشهد التالي في ظهور تدريجي. وبدلا من استخدام تقنية عدسة الزووم للاقتراب من شخصية أو شيء ما، هذه التقنية التي كانت من العلامات المميزة للمخرج اسماعيل عبد الحافظ في أعماله مع الكاتب أسامة أنور عكاشة، أصبح من السهل تصوير لقطات قريبة مكبرة (كلوزاب)، للأيدي أو الوجوه أو الأشياء، وإجراء المونتاج عليها لتحقيق أثر درامي، بل استخدام هذه اللقطات أحيانا بشكل متكرر، يوحي بالنذير بأحداث متوقعة، مثل لقطة كبيرة جدا لنقاط دماء في "نيران صديقة". وعلى العكس، أصبح من السهل تصوير لقطات عامة شديدة الابتعاد، وهي اللقطات التي استخدمت كثيرا في "اسم مؤقت"، كذلك تغيير البؤرة في نفس المسلسل من الصورة المشوشة إلى الصورة الواضحة، تعبيرا عن غموض يحيط بالبطل (يوسف الشريف)، الذي سوف نعرف في نهاية الحلقات أنه يعاني من هلوسات بصرية وسمعية.
كذلك شاع استخدام المرشحات الضوئية (الفلاتر) للإشارة إلى الزمن الماضي، خاصة في "بدون ذكر أسماء" الذي يدور فى العام 1980، أو في "ذات" الذي يحاول أن يتعقب سيرة حياة بطلته (نيللي كريم) عبر فترة زمنية تمتد إلى ما يقرب من نصف قرن، كما أن هذا المسلسل استخدم في بدايته التقنية الرقمية لتحويل الصورة إلى الأبيض والأسود، بينما يظهر على الشاشة عنوان "1952"، لتتحول الصورة بعد ذلك بشكل تدريجي بطيء إلى الألوان.
وساعدت الكاميرات الرقمية الجديدة على استخدام زوايا تصوير لم تكن تقليدية في عالم الفيديو، خاصة مع تحول شاشات التليفزيون المنزلية إلى مقاس الشاشة العريضة (ولعل هذا هو السبب في الاستخدام المفرط للعدسة واسعة الزاوية، حتى لو لم تكن هناك ضرورة درامية). وكثيرا ما كانت هناك لقطات مائلة في "حكاية حياة"، تشير إلى الاضطراب النفسي للبطلة، الذي يجعلها ترى العالم على نحو مشوه، كما أن مسلسل "تحت الأرض" يحاكي أفلام "الأكشن" في تصوير البطل من زاوية منخفضة، ليبدو على الشاشة عملاقا، بينما تسير أمامه الكاميرا وهو يتجه نحونا.
وعلى مستوى شريط الصوت، أصبح من الممكن إضافة أي "تراك" صوتي، من الموسيقى أو المؤثرات الصوتية، وهو ما يبدو أحيانا اقترابا من خليط الأصوات الواقعية كما نسمعها في حياتنا اليومية، كما في "بدون ذكر أسماء"، لكنه يبدو أحيانا أخرى تعبيرا عن عالم ذهني غير سوي، يتجسد على سبيل المثال في "المونولوجات" الداخلية الكثيرة في "حكاية حياة".
كانت كل هذه التقنيات الجديدة تبشر بظهور "فن تليفزيوني" ذي مذاق مختلف، ومحاولة للاقتراب أكثر من الواقع الحقيقي أو النفسي، على نحو كانت السينما وحدها الأقدر على التعبير عنه. لكن ذلك لم يحدث في الأغلب الأعم من الحالات، إذ بدت هذه التقنيات نوعا من الإبهار والانبهار، وهو ما بدا واضحا عنصرين: الأول هو التمثيل، الذي دخل إليه عشرات الممثلين والممثلات لمجرد تلبية الطلب الزائد على المسلسلات، خاصة في المواسم "الرمضانية"، ونادرا ما يمكنك أن تجد موهبة تمثيلية حقيقية بين معظم أبناء هذا الجيل، ربما بسبب ضعف الموهبة ودخول أغلبهم إلى هذا العالم من باب "الواسطة" (!!)، أو قد يكون السبب عدم وجود مخرجين قادرين (إلا في استثناءات قليلة بالنسبة للموسم الأخير، مثل تامر محسن في "بدون ذكر أسماء") على توجيه الممثل، أو لعله ضعف رسم الشخصية التي يؤديها الممثل.
وهنا نصل إلى العنصر الثاني والأهم: الكتابة. وللأسف الشديد يبدو أن هناك حالة انقطاع كامل بين جيل أسامة أنور عكاشة أو وحيد حامد مثلا، وبين أبناء الجيل الجديد من الكتاب، الذي لم يتعلموا – بجدية – جوهر الكتابة الدرامية، وتغلب الثرثرة على المشاهد التي يكتبونها (ربما بسبب قانون الثلاثين حلقة بالغ الغرابة)، وانحصرت موهبتهم في كتابة حوار يبدو في ظاهره سريعا متدفقا، لكنه يمضي في الأغلب بدون اتجاه، كما غلبت على الأعمال شبهة اقتباس عشوائي من أفلام أمريكية، منقطعة الصلة تماما عن واقعنا.
لذلك أصبح من السهل أن يكتب كاتب ما مسلسلا، يحشوه بكل التوابل، بما في ذلك التوابل السياسية التي أصبحت "موضة" في الآونة الأخيرة، ليأتي في الحلقة الثلاثين ليقول لك "ضحكت عليك"، فكل ما رأيته ليس إلا وهما في خيال مريض، كما في "حكاية حياة" و"اسم مؤقت"، أو مبنيا على خداع تم بطريقة بالغة السذاجة مثلما هو الحال في مسلسل "الشك" مثلا. لكن هناك وجها أخطر في هذا النوع من الكتابة، هو القيم التي يدعو لها هذا المسلسل أو ذاك، قيم تكاد أن تقلب مفاهيم المتفرج رأسا على عقب، وتقتلع المجتمع من جذوره، وهذا جانب يستحق الكثير من الدراسة والتأمل.


No comments: