Monday, August 23, 2010

البحث عن الشخصية المصرية فى أفلام حنان راضى

نادرا ما أشعر خلال مشاهدتى لمعظم الأفلام التسجيلية المعاصرة بتلك النشوة التى تملكتنى وأنا أشاهد بعض أفلام المخرجة الشابة حنان راضى، وما كان لهذه الفرصة أنا تُتاح لى لولا الزميلة والصديقة صفاء الليثى، التى تملك شعورا كبيرا بالحماس الحقيقى تجاه التجارب السينمائية الجادة لسينمائيينا الشبان. أعترف أننى تقبلت فى البداية أن أشاهد الأفلام يراودنى بعض التردد، ذلك لأن أرى أحيانا أن السينما التسجيلية المصرية تعيش أزمة بسبب انقطاعها عما يحدث فى العالم من تطورات هائلة فى هذا الفن، فهناك إما تعليق رتيب يأتيك على شريط الصوت يشرح لك ما تراه، أو مجموعة من اللقاءات المصطنعة، تم مونتاجها كيفما اتفق، تجلس فيها الشخصيات لتتحدث إليك بعبارات متقعرة كأنها الحقيقة المطلقة، بحيث يتحول الفيلم فى هذه الحالة أو تلك إلى مقال طويل ممل، يفتقر إلى الحد الأدنى من الفن السينمائى سواء من ناحية الشكل أو المضمون.
ولعل من الأفضل أن أوضح مع السطور الأولى لهذا المقال أن إعجابى ببعض أفلام حنان راضى لا يخلو من تحفظات، لأن بعض سمات هذه الأفلام تعكس أمراض السينما التسجيلية المصرية، لكن يجدر بى أن أبدأ بمصدر هذا الإعجاب: إنها من المرات القليلة – وربما النادرة – التى وجدت فيها سينمائيا مصريا يشعر بكل هذا الحب تجاه مادة موضوعه، خاصة أن هذا الموضوع هو "الإنسان"، المواطن المصرى الغلبان الذى لا يجد فرصة لأن يكون له صوت فى وسط هذا الضجيج الصاخب فى حياتنا الإعلامية والثقافية، وحين يقرر أحد أن يتحدث بالنيابة عنه فإنك تجد حديثا مشوها مشوشا، لكن حنان راضى تقرر أن يكون هذا المواطن، بشحمه ولحمه، هو "بطل" أفلامها، إنه يتحدث إليك مباشرة دون وسيط، و"شطارة" حنان راضى الإنسانية والفنية هى أنها تعطى الفرصة كاملة لهذا البطل أو البطلة للفضفضة، بكل ما يدور فى عقله وقلبه، لتكتشف أن تحت تلك البساطة الظاهرة أعماقا تثير البهجة والأسى معا .... إنها يا قارئى العزيز تركيبة "الشخصية المصرية" التى ما تزال تبحث – بعد جهود الرواد الأوائل فى علم الاجتماع مثل د.حامد عمار ود.سيد عويس – عمن يمضى قدما نحو فك أسرارها وألغازها.
سوف أتوقف بك عند أفلام أربعة لحنان راضى، دون التزام بسنوات إخراجها، وسوف تكتشف بالفعل أن هناك وحدة تربط بينها جميعا، وهو ما يعكس أن هذه الفنانة وهى ما تزال فى بداية الطريق تملك "رؤية" واضحة لما تريد أن تصنع من أفلام، تلك الرؤية التى لم يملكها سينمائيون مصريون قضوا عمرهم فى صنع الأفلام التى ليست إلا سلعا تجارية. يدور فيلم حنان راضى "المنسيون" عن أحد أطفال الشوارع، تتركه ليتحدث إلينا حول أسباب نزوحه إلى الشارع، ونمضى معه فى رحلته التى يحاول فيها التوافق مع المجتمع مرة أخرى. أما فيلمها "فاطمة: فتاة من مصر" فهو كما ترى من العنوان عن فتاة فلاحة فى العاشرة من عمرها، تصمم على بدء تعليمها الذى فاتها، لنعيش معها رحلة المعاناة لتحقيق هذا الهدف. ويأتى فيلم "الساحر" لنرى فيه صبيا صغيرا فى حوارى القاهرة، و"يناضل" بالمعنى الحرفى للكلمة لكى يصبح لاعب كرة قدم ماهرا لعله تأتيه يوما فرصة الاحتراف والشهرة. وأخيرا نصل إلى فيلم حنان راضى الرائع "أهل الرضا: الناس فى بلادى"، وفيه أربع شخصيات: صياد يعيش بين ضفتى النيل فى القاهرة فى قارب صغير مع أسرته، وقروية تسافر فجر كل يوم من قريتها فى الشرقية إلى القاهرة لكى تبيع كمية صغيرة من الخضار، وشيال فى محطة باب الحديد تحول إلى هذه المهنة بعد خصخصة الشركة التى يعمل بها، ثم ماسح أحذية عجوز ترك عائلته فى الصعيد لكنه يعولها بأن يمضى فى شوارع مصر الجديدة بحثا عن لقمة العيش.
منذ اللحظة الأولى تدرك أن خلف هذه الأفلام والشخصيات "رحلة" يحب على كل منهم أن يخوضها، إنها أحيانا رحلة نحو تحقيق هدف أبعد، وهى أحيانا أخرى رحلة كل يوم، وبرغم المعاناة الشاقة فإن أحدا منهم لا تنتابه أبدا أية مشاعر "وجودية" على طريقة سيزيف الذى يحلو لمثقفينا التعلق به بمناسبة وبدون مناسبة، وكأن هذه الأفلام تدلنا – كما كانت تفعل أفلام داود عبد السيد فى مرحلته الأولى، مثل "الكيت كات" و"سارق الفرح" – على أنه يجب أن نتعلم من هؤلاء الفقراء البسطاء كيف نعيش الحياة ... نعم، إن هناك رحلة مضنية مكررة، لكن لها إطارا أكبر وهدفا أسمى، وهذا هو أول دروس "فلسفة" الشخصية المصرية التى تبرزها أفلام حنان راضى: ربما تبدو الحياة وكأنها "محلك سر"، لكن هناك حركة تحت السطح، نحو افق جديد ربما لا نراه الآن، لكنه موجود أو يجب أن نجعله موجودا. وإذا كان واضحا هدف "الساحر" أو "فاطمة" أو "المنسى"، الأطفال الذين يحلمون بالمستقبل، فإن هدف "أهل الرضا" جميعهم هو "تربية العيال" على نحو أفضل. أما ثانى دروس "فلسفة" هذه الشخصية فهو الأهم، ولعله يضرب بجذوره فى الديانة الأوزيرية المصرية القديمة، التى أخذت فى مصر تنويعات أكثر تعقيدا مع دخول ديانات جديدة، إنه ذلك المزيج بين الاستسلام للقضاء، حتى لو كان الواقع مرا، والإيمان فى الوقت ذاته بأن العدالة الإلهية سوف تعيد الأمور إلى نصابها الصحيح. إنك مع "أهل الرضا" جميعهم تسمع عبارات مثل "ربنا ما بينساش حد"، "أو ما دام الواحد ماشى بما يرضى الله لو أكل رغيف بشوية ملح ها يكفّوه"، أو "لازم البنى آدم مننا يرضى بنصيبه عشان يعيش أسعد الناس"، وهو ما يمكنك أن تصفه بالتواكل والسلبية، لكن تحت السطح هناك لدى هؤلاء فهم حقيقى للواقع، إن الصياد يتحدث عن أن "الناس اللى فوق مرتاحة"، والقروية بائعة الخضار تشير إلى "البلدية وبتوع الحى" الذين يصادرون منها بضاعتها بين الحين والآخر، والشيال يؤكد لك أنه "بنسمع إن فيه ناس بتاخد مليارات، بتروح فين ما حدش عارف"، وماسح الأحذية يقول بمرارة: "كله اتغير من ناحية الأخلاق، بس كله غصب عشان الغلا، الناس تعبانة".
هناك إذن أسطح عديدة لتلك البللورة التى نسميها "الشخصية المصرية"، إنها تبدو "راضية" بقدرها لكنها فى أعماقها ترفض هذا الواقع، وتتوقع أن يأتى العدل يوما، وهذا التناقض (والتوازن) وحده هو ما أعطاها على مر العصور قدرة على البقاء برغم كل الظروف الكفيلة بإفناء شعوب بأكملها، وهذا ما يجعلك تسأل دائما: ترى كيف يكون حال هؤلاء الفلاسفة البسطاء إذا تحسنت ظروفهم؟! ... سؤال مرير، أليس كذلك؟؟ وما يزيد مرارته هو ذلك "الجمال" المبهر الذى تراه فيهم فى أفلام حنان راضى، ففى اللقطات العامة القليلة، واللقطات القريبة الكثيرة، ترى كيف أن وجوه هؤلاء تسطع بجمال حقيقى، برغم التجاعيد والأخاديد والندوب التى حفرها الزمن والحياة القاسيان على أرواحهم، تأمل مثلا البسمة التى تضىء وجوه "أهل الرضا" فى نهاية فيلمهم، أو ذلك الذكاء الذى تعاملت به حنان راضى مع "فاطمة"، إنها تبدا الفيلم بها كطفلة فلاحة، لكن فجأة تراها وقد خلعت ملابسها الريفية وارتدت ملابس المدرسة فلا تملك إلا أن تقول: "ياللجمال!!".
حققت حنان راضى ذلك باستخدام تقنيات بسيطة لكنها شديدة التأثير، فهى تتبع شخصياتها بالكاميرا على نحو تنسى فيه الشخصيات أنه يتم تصويرها، ومن المؤكد أن ذلك قد تحقق من خلال التصوير ساعات طويلة حتى اعتادت الشخصيات على وجود الكاميرا، لذلك فإن الشخصيات لا تمثل، كما أنها تعيش أمامنا لحظات القوة والضعف، بما لا يجعلها بطلة بالمعنى التقليدى للكلمة، وبما يزيد من تعاطفنا وتوحدنا معها، وإدراكنا للتطور الذى عاشته بين بداية الفيلم ونهايته. وبرغم أن التعليق يأتى من خلال "ضمير المتكلم" إذ تتحدث الشخصية المحورية عن نفسها بقدر هائل من الصدق، فإن هناك عنصرا بالغ الأهمية فى أفلام حنان راضى، إن بطل الفيلم أو بطلته ليسا فردين استثنائيين، إن كل الشخصيات من حولهما يمثلون امتدادا لهما، وهكذا تقول لك المخرجة أن وراء كل شخصية ثانوية عابرة من هؤلاء قصة مماثلة.
والحياة اليومية هى النسيج الذى تصنع منه حنان راضى "قصص" أفلامها، بعيدا عن الاصطناع، وهى تلتقط أيضا تلك اللحظات النادرة من حياة الشخصيات وتضعها فى مكانها فى مونتاج الفيلم. تأمل مثلا ماسح الأحذية فى "أهل الرضا" يبدأ فى سرد واقعة حدثت له منذ سنوات طويلة، إنه فجأة يتوجه إلى المصور ويسأله: "إنت معايا يابيه؟"، لأنه بذكاء بالغ يريد ألا تفوت علينا تلك الأمثولة التى تلخص فلسفته فى الحياة. لكن ... وهذه الـ"لكن" تعبر من جانب هذه السطور عن رغبة فى اكتمال الحس التسجيلى الراقى هنا ... أقول: لكن هناك شيئا ناقصا فى أفلام حنان راضى، وأستطيع أن ألخص هذا الشىء فى "الأسلوب" الذى أراه أحيانا لا يمضى متوافقا مع الرؤية العميقة والواقعية تماما لمادة الموضوع ومعالجته. إنها تقع للأسف الشديد فيما يمكن أن أسميه "الشكل المصرى المعاصر" للفيلم التسجيلى، فهو يبدو فى أحيان كثيرة مؤلفا من فقرات لا علاقة بينها بما يكسر وحدة الأسلوب والرؤية الفنية. تأمل مثلا على شريط الصوت تلك المسحة الانتقائية التى تنتقل بين عناصر صوتية متنافرة، فالموسيقى المؤلفة للفيلم متناثرة كيفما اتفق، وتُستخدم أغنية أحيانا كأنك فى فيلم روائى دون أن تعرف لماذا يجب أن يتضمنها فيلم تسجيلى يعتمد على الصدق الداخلى وليس الابتزاز العاطفى (ذلك الاستخدام الفج للأغنية أصبح آفة فى أفلامنا، خاصة القصيرة، التى يضيع جزء غير قليل منها فى هذه الحيلة الفنية التى لا أدرى من اخترعها). إن هذه الانتقائية تظهر أحيانا على شريط الصورة أيضا، فلا أعرف سببا لاختيار أماكن سياحية مثل جامع السلطان حسن ومسجد الرفاعى لتصوير بعض اللقطات فى "الساحر"، أو القفز الأسلوبى وغير المبرر إلى مشهد حلم يقظة لـ"فاطمة" تسقط فيه عليها أوراق الورد.
فلألخص هذه الملاحظات فى كلمات قليلة: يجب على الفنان أن يضع نفسه فى مكان محدد من مادة الموضوع (أى الشخصيات التى يريدنا أن ندخل عالمها)، فإذا قررت منذ البداية أن أترك مادة الموضوع تفصح عن نفسها بأقل قدر من التدخل الصريح والمباشر من جانبى، فيجب ألا أقع ابدا فى فخ "الشكلانية" التى تغرينى بصنع مشهد "جميل"، لأن هذا يعنى اقتحامى للعلاقة بين مادة الموضوع والمتفرج، كما يعنى كسرا لوحدة الأسلوب، وهو الأمر الذى لا تكمن أهميته فى الجانب الفنى فقط، لكنه يترك تأثيره السلبى على تحقيق أكبر قدر من التأثير فى المتفرج، لأننى – وأنا أبحث عن إثبات ذاتى الفنية بالتلاعب الشكلى – حطمت قواعد اللعبة التى أرسيتها بينى وبين المتفرج منذ اللقطة الأولى. من ناحية أخرى يجب أن يكون هناك بناء "درامى" للفيلم، يتصاعد نحو الذروة دون انقطاع، وبأكبر قدر من التركيز والاختزال، خاصة فى الفيلم القصير، وهو ما يضمن أن يصل الفيلم إلى المتفرج فى كل أنحاء العالم، وليس فقط المتفرج المصرى الذى سوف يتعاطف مع الشخصيات لمجرد أنها مألوفة بالنسبة إليه. هدف هذه الملاحظات فى التحليل الأخير هو الحفاظ على ذلك النقاء الفنى والإنسانى فى أفلام حنان راضى، والحلم بأن تستطيع أن تبلوره يوما لتصنع أفلاما ترقى بحق إلى مستوى العالمية.

3 comments:

Ahmed Gharib said...
This comment has been removed by the author.
Ahmed Gharib said...
This comment has been removed by the author.
Ahmed Gharib said...

شكرا دكتور أحمد على المقال السلس، كعادة أسلوبك، فقد شوقني كثيراً لمشاهدة أعمال حنان راضي، التي لم يسعدني الحظ بعد بمشاهدتها.
تعليقي سيركز على مقدمة مقالك حول الانقطاع في السينما التسجيلية المصرية، وهو أمر غريب، حيث تفيض السينما التسجيلية في دول العالم بأضعاف أضعاف ما تنتجه مثيلتها المصرية، وتتنوع أساليب التناول وإمكاناته بشكل كان صادما لي بمجرد زيارة مكتبات صغيرة تتبع الأحياء في مدن غربية بعضها ليس رئيسياً،فقد شعرت ببلاهة ما نفعله، وفداحة الإهمال الذي نمارسه فنفوِّت فرصة معالجة الكثير والكثير من تفاصيل الحياة المصرية الغنية إنسانياً.
والحق أن ما يقال عن السينما التسجيلية ينسحب على الأدب، وعلى جملة الإنتاج الفني، لكن ما يخص السينما في هذا المقام هو أن حجة الإمكانات أصبحت واهية للغاية بفضل التقنيات الحديثة، وأنه آن الأوان للنقد أن يسلط الضوء على تركيبة المبدعين المصريين طبقياً، وأيديولوجيا، وتشريح، وإعادة تعريف انتماءاتهم، وتحيزاتهم، وما يتبنونه من قيم وأهداف حقيقية في ضوء حقيقة ما أنتجوه.
في حدود علمي أن للمترجم والشاعر بشير السباعي كتاب عن تركيبة الإنتلجنسيا المصرية، وأنه فريد من نوعه، وللأسف لم أتمكن من الحصول على نسخة منه لأقرأه، لكن ضرورة دخول هذه الزاوية إلى المنظور النقدي وإيلائها اهتماما محورياً أصبحت في نظري حاجة لا غنى عنها، خاصة أن النقد الأدبي مثلاً أحيانا ما يقوم بإشارات عند تناول رواية لكاتب، كعمل عن القرية، أو عن طبقة معينة أو حي شعبي في مدينة، لكن نظيره السينمائي يتجنب هكذا منظور لأسباب ربما تعود إلى تشابك العمل السينمائي، ظاهرياً، بينما سيتيح مثل هذا التناول مجالاً للتعرف على حقيقة أولويات مبدعي السبنما المصريين، وما يتبنونه فعلاً من قيم تجاه دور السينما أولاً ووظيفتها، والتي للأسف أصبحت غاية للشهرة وجمع المال فقط