Tuesday, August 24, 2010
برامج الكلام ... كلام فارغ في الهواء
سيل جارف من تلك الأشياء التي يطلقون عليها تقعرا "التوك شو"، لعل ذلك المصطلح الغربي يضفي عليها احتراما، أغرق المتفرج العربي فجأة فيما يعرف باسم "البرامج الرمضانية"، لا يكاد أحدها أن ينتهي حتى يبدأ الآخر، وإن هربت بجلدك من واحد منها لطاردك على فضائية أخرى، وهكذا أصبحت معظم فضائياتنا العربية قناة واحدة، تحتشد بالكلام والمزيد من الكلام، ولو أنه كلام ربما كان الصمت أفضل منه، لأنه – وهذا هو أهم ما في الأمر – يؤثر سلبيا إلى حد كبير على ذهن المتفرج ووجدانه، وهذا هو ما سوف نتوقف عنده الآن ببعض التأمل، برغم أن "سياسة" من يصنعون هذه البرامج، ومن يقفون وراءهم، هو أن نتوقف تماما عن أي نوع من أنواع التأمل، لنصبح كائنات تفتقد أبسط شروط الحياة.
سوف يلاحظ القارئ أننا لن تذكر اسم برنامج واحد منها، لأنها في الحقيقة – من ناحية الشكل أو المضمون – ليست إلا برنامجا واحدا يتكرر وإن اختلفت الأسماء والأشكال. سوف نبدأ بالمضمون الذي يمكن أن نلخصه في كلمة لا أكثر: النميمة، فكأنك في مجتمع كامل مؤلف من عشرات أو ربما ملايين "المواطنين" (وطنهم الافتراضي هو جهاز التليفزيون وقنواته الفضائية العديدة) ليس لديهم ما يفعلونه أو يفكرون فيه إلا تلك النميمة، ماذا قال فلان على علان؟ وكيف رد علان على هذا؟ لكن من هو فلان وعلان وأشباههما أصلا حتى نهتم بهم كل هذا الاهتمام؟ إليك عينة عشوائية منهم: مطربون ومطربات (إذا تغاضيت عما إذا كانت لهم حقا علاقة بالطرب بالمعنى الحقيقي)، وممثلون وممثلات، ومخرجون ومخرجات، وصحفيون وصحفيات، وربما أحيانا رجال ونساء أعمال، والطريف في الأمر، واالذي يدل على إفلاس تام، هو أن يصبح مقدمو ومقدمات هذه البرامج أحيانا هم الضيوف، أو أن يكون الضيف في برنامج هو مقدم برنامج آخر، فكأنهم "شلة" أو عصبة أو عصابة استولت على استوديوهات التليفزيون في كل أنحاء الوطن العربي، وقررت أن تطارد المتفرج أينما ذهب، حتى أن الأمر يبدو أحيانا كأنه أحد كوابيس أفلام الخيال العلمي، حيث الدولة الشمولية تسيطر على مواطنيها من خلال تلك الشاشات المزروعة في كل مكان!
قد تتصور في هذا التشبيه الأخير نوعا من المبالغة، لكنه الحقيقة وإن لم ندركها بسهولة، وإن كنت في شك من ذلك أرجوك أن تتأمل قليلا نوعية "الكلام" والأفكار والقضايا التي يريدون مني ومنك أن نشغل بها أنفسنا. هناك مثلا ممثلة قررت أن تكون داعية دينية فبدأت تهاجم في أحد البرامج مخرجة تدعو بدورها إلى قدر كبير من الجرأة، وهنا يجد البرنامج فرصة لإشعال حريق بأن يطلب من المخرجة أن ترد، أما محور الخلاف فهو "الجنس". وفي برنامج آخر يطلبون من "محامٍ" (نعم، محامٍ!) أن يتحدث عن القضايا التي رفعها ضد الفنانين الذين يراهم العدو الأول للمجتمع. وفي برنامج ثالث يسألون "مطربة" عن خلفية صراعها مع مطربة أخرى، وقد يزيدون فيسألونها عن رأيها في عملية تجميل الأرداف، فتقول أنها لا توافق عليها لأنها لا تنجح، ويواجهون مطربة ثالثة بأنها مطربة تعتمد على "خلفيتها" ويطلبون منها أن تدافع عن نفسها، ويواجهون مخرجا بأنه متهم باصطياد "المزز" (تلك الكلمة السوقية المقحمة حديثا على العامية المصرية) لتمثلن في أفلامه، فيعترض على كلمة "اصطياد" ولا يجد في وصف الممثلات بهذه الصفة المبتذلة ما يثير رفضه!
أسوق لك هذه الأمثلة لأذكّرك فقط بنوعية "الأفكار" التي يشغلون ذهننا بها، وكأننا في مجتمع من "العوالم" أو الجواري، لا همّ لنا إلا الرقص والهزر والهزل، نخلط الدين والجنس في "توليفة" شديدة السخف، لا نناقش أيا منها بالحد الأدنى من الجدية، لكن كبف تأتي الجدية وصناع هذه البرامج يسعون إلى تسطيح وعي المتفرج، ليس وعيه بهذه "الأفكار" وحدها، وإنما بكل القضايا الحقيقية الأخرى، فليست هناك كلمة واحدة فقط (كلمة واحدة يا ناس) عن عشرات المشكلات التي تواجهنا، فكأننا نعيش في عالم آخر غير العالم الذي تعيش فيه بقية الأمم، المشغولة بصنع مصائرها (بل بصنع مصائرنا أيضا!)، بينما نحن لاهون بالخلاف بين المعلق الرياضي والقاضي السابق، أو حتى بين الأهلاوبة والزمالكاوية، وكان هذا هو محور برنامج بين مقدم برامج كان هنا ضيفا، وصحفي كان يقوم بدور مقدم البرنامج، وكلاهما من "النجوم" الزاهرة، في القاهرة المعاصرة!!
هذا عن المضمون فماذا عن الشكل؟ إذا عدنا إلى القاعدة الجمالية الأصيلة في كل عمل فني فالحقيقة أن الشكل ليس إلا الوعاء الخارجي للمضمون ولا يختلف عنه، فهو طريقة توصيل الرسالة. وإذا كانت الرسالة هي تغييب وعي المتفرج فلابد أن يساعد الشكل على ذلك, وهنا يأتي دور الإبهار الفارغ من المعنى تماما، فهو نوع من التشويش على المتلقي حتى لا يجد فرصة للتفكير، ولعلك لاحظت البذخ الفاحش في "الديكورات" التي لا ندرى لها وظيفة أخرى غير التضليل والتغطية على تفاهة المضون وابتذاله، وهناك على سبيل المثال ديكور لمغارة في الجبل (لبرنامج حواري، تصور!!)، ناهيك عن استخدام الكاميرا المحمولة التي تؤدي إلى لقطات مهتزة بدون أي معنى، أو الكادر المائل الذي تستخدمه السينما في الأفلام للتعبير عن لحظة درامية لعدم التوازن، والإفراط في استخدام الحيل الكومبيوترية كأن طفلا يلعب على أزرار الكومبيوتر دون هدف محدد، بل أيضا استخدام موسيقى مستوحاة من أفلام الرعب!
أما شكل الحوار فهو يحتشد بقدر هائل من العدوانية والغوغائية والسوقية، ولا مانع من أن يصل أحيانا إلى درجة الصراخ، مع "توليفة" هزيلة مضحكة من خلط ما هو جاد بما هو هازل سخيف، وتتحول المسألة في بعض الأحيان إلى مباراة في الابتذال بين الضيف ومقدم البرنامج، ولا مانع أيضا من الاستفزاز المتعمد للضيف (في برامج المقالب السخيفة)، لتقترب الكاميرا من وجه الضيف في لقطة قريبة ليظهر لنا غيظه الذي لا نعرف إن كان حقيقيا أم تمثيلا، لكن ما يهمنا هنا هو أن ذلك يكرس العدوانية المتزايدة بين الناس في المجتمع المصري خاصة في الفترة الأخيرة، فكأنها لغة متعارف عليها، فلماذا لا يستخدمها المواطن العادي في حياته اليومية وهو يشاهدها بكل هذا القدر من الاحتفاء على شاشات الفضائيات، ويمارسها "نجوم" مجتمعه اللامعون؟!!
يمكننا القول بدون أدنى مبالغة أن هناك مؤامرة حقيقية على عقل الشعوب العربية، من خلال هذا اللغو المبتذل، واللغة المستخدمة للتعبير عنه، مؤامرة لإخفاء القضايا الملحة التي تتعلق بوجودنا، وليس قضايا الصراعات بين العوالم والراقصات ومن دخل في زمرتهن ممن يعتبرون – للأسف – من صفوة المجتمع من الصحفيين والمثقفين والمحامين. لا أدري في الواقع بماذا يمكن لهؤلاء أن يدافعوا عما يقدمون للناس، قد يرددون القول الشائع بأن تلك رغبة "الجمهور"، لكن هذا الجمهور، الذي يظهر في برامج أخرى مستذلا مهانا في صورة الأبله الذي يمكن الضحك عليه ومنه، تماما كما يُستذل ويُهان في قوت يومه وقدرته على صنع مصيره، هذا الجمهور يستحق فضائيات أفضل، وسياسات إعلامية واقتصادية واجتماعية وسياسية أفضل، لكن متى يسمحون له بالاختيار، أو متى ينتزع هو بنفسه هذا الحق، على الأقل عندما يمسك بجهاز التحكم عن بعد، ويغلق التليفزيون في وجه من يلقون في وجهه بكل هذا القدر من الهزل والابتذال؟
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment