Wednesday, August 25, 2010

تأملات ناقد مقهور عن السينما التسجيلية والسياسة والنضال


خلال نشاطات مهرجان الإسماعيلية الدولى العاشر للأفلام التسجيلية والقصيرة، وفى الندوة التى أقيمت حول الفيلم اليابانى التسجيلى الطويل "أيها المارينز عودوا لبلادكم" من إخراج فوجيموتو يوكيشا، تقدم واحد من الرعيل الأول للنقاد السينمائيين المصريين، وأبدى اعتراضه لأن الفيلم ليس "سينما" لابد لها أن تحتوى على تقنيات وجماليات وأبعاد من ذلك النوع الذى يستغلق على الجمهور "العادى" فهمه، حتى تتاح للناقد "الأخصائى" أن يفحص الفيلم ويكتب "الروشتة" التى يجب على المشاهدين إتباعها للفرجة على الفيلم، وأعتقد أن ناقدنا الرائد كان يتحدث عن سينما بعينها فى رأسه، وليست "السينما" بالألف واللام، فإحدى مشكلاتنا المستعصية أن أغلب أساتذتنا قد توقف بهم الزمن عند كتاب قرأوه فى بداية حياتهم هو فى الأغلب الكتاب الوحيد الذى قرأوه أو حتى سمعوا عنه ، وكان هذا الكتاب عن فيرتوف أو إيزنشتين مثلا، وبالكثير جان لوك جودار، ونسوا أن السينما ليست إلا وسيطا فنيا، يمكن – ومن حقه وواجبه – أن يستخدم أدواته لكى يصنع عشرات الأشكال والمضامين، مثلما تستطيع اللغة المكتوبة أن تنتج قصيدة أو ملحمة أو قصة قصيرة أو رواية أو مقالا أو تحقيقا صحفيا أو بحثا أو حنى معادلة رياضية، كذلك فإن السينما تمتد رقعتها إلى مالا يمكن أن نحدده فى شكل فنى معين ذى مواصفات جاهزة.
وإذا كان مصطلح "الفيلم الأنثروبولوجى" على سبيل المثال كان أعجوبة عندما ظهر إلى الوجود خلال الستينات والسبعينات مع مخرجين جاءوا من ميدان علم الاجتماع مثل جان روش، فى فترة كان تحقيق مثل ذلك النوع من "التوثيق والتسجيل" صعبا باستخدام شرائط السليولويد والكاميرات المعقدة ومونتاج الموفيولا، فإن "الفيلم-البحث" أصبح إحدى المنتجات المهمة فى عالم السينما التسجيلية العالمية المعاصرة، ليس فقط بسبب تقنيات الكاميرا الرقمية الخفيفة والمونتاج على أجهزة كومبيوتر منزلية، وإنما لأن ابتكار هذه التقنيات جاء فى نفس الوقت الذى احتشد فيه العالم بعشرات المشكلات الملحة خلال العقد ونصف العقد الأخيرين، بعد توالى كوارث مايسمى "النظام العالمى الجديد" الذى أنتجته السياسة الأمريكية المعاصرة الحمقاء، لكن الأهم من ذلك كله هو ظهور "نوعية" جديدة من السينمائيين، يدركون أهمية السينما كوسيط إعلامى جماهيرى، فدخلوا الساحة وقد عقدوا العزم على كشف مايقوم به الإعلام الرسمى هنا وهناك من التجهيل والتعتيم.
هل كان ظهور هؤلاء السينمائيين الجدد سببا فى زيادة الوعى الاجنماعى والسياسى لدى قطاع مهم من الجماهير التى تحركت لتمارس حركات نضالية حقيقية؟ أم أن ظهور هذا النوع من السينمائيين كان نتيجة وجزءا من تزايد هذا الوعى الاجتماعى؟ قد تكون هناك علاقة جدلية، فكلاهما سبب ونتيجة، كما أن وجود الوسائط الجماهيرية القادرة على تسجيل حركات النضال وتعزيزها ونشرها كان فى حد ذاته باعثا على "وعى جماعى" عالمى بالأخطار المحدقة بنا، وكان هذا الفيلم اليابانى "أيها المارينز عودوا لبلادكم" أحد تجليات هذا النضال، حين يحمل صانع الفيلم كاميرته "ليسجل" حركة نضالية محدودة لبضع عشرات من الناس العاديين ضد الاحتلال الأمريكى لقواعد عسكرية تقع بين اليابان وكوريا الجنوبية، تتخذها لتدريبات عسكرية لقاذفات القنابل التى يؤكد الفيلم أنها سوف تذهب بعد ذلك لكى تقتل شعب العراق ولبنان، حتى ينجحوا بعد سنوات فى تحقيق أهداف نضالهم. وعبر هذه السنوات الطويلة كان السينمائى يسجل الوقائع اليومية لهذا النضال، مثله مثل الآخرين، عليه أن يخوض نفس الأخطار التى قد تهدد حياتهم، وهو لا يعلم إن كان ذلك سوف يتيح له فى نهاية المطاف أن يصنع فيلما، وبعد ذلك نقول أنه لا يصنع سينما؟!
كان "الفيلم-البحث" هو أحد الظواهر المهمة فى مهرجان هذا العام مثل الفيلم الفنلندى الفرنسى السويسرى المشترك "إرهاب أبيض" للمخرج دانييل شفايتسر، الذى ذهب إلى عدة بلدان تمتد من الولايات المتحدة حنى روسيا وعبر عدة بلدان أوروبية، ليسجل ظاهرة تصاعد "النازية الجديدة" التى تنتشر بين الشباب وتتذرع بضلالة الدفاع عن أسطورة "نقاء الجنس الآرى"، فى تناقض كامل مع أبسط مناهج العلم ومبادئ الأخلاق "الإنسانية"، ليدرك المتفرج أن "العولمة" بشكلها الأمريكى الراهن ليست إلا أكذوبة تخفى وراءها النزعة الإمبراطورية الأمريكية، التى تفرخ كل يوم تلك النزعات اليمينية المتطرفة، سواء كفعل مشارك أو رد فعل مناهض لهذه العولمة المزعومة، وبذلك تقسم العالم إلى مايطلقون على أنفسهم "الجنس الأرقى والأنقى" وآخرين لا يصلحون إلا عبيدا!! هناك أيضا الفيلم الأرجنتينى الرائع "أُعدموا فى ميدان فلوريستا" الذى يحكى كيف بدأت انتفاضة شعبية أطاحت برئيس الجمهورية الديكتاتور بعد صدامات مفرطة فى العنف، على إثر قيام أحد رجال الشرطة فى عام 2001 بقتل ثلاثة شبان فى مقتبل حياتهم دون سبب وهم يقضون وقتا طيبا فى مقهى ميدان فلوريستا، ومن هذا الحدث تولد وتنمو حركة سياسية يسجلها الفيلم بصبر بالغ وحساسية إنسانية مرهفة عبر سنوات، مما يجعلك تفكر كثير وتبكى كثيرا وتشعر بالمرارة العميقة.
هل هى المرارة من أن نقادا مصريين آخرين اعترضوا على هذه الأفلام لأنها ليست تسجيلية؟ هل تعرف لماذا هى ليست تسجيلية من وجهة نظرهم؟ لأنهم يقولون أن الفيلم التسجيلى يجب أن يتراوح بين عشر دقائق وعشرين دقيقة – هكذا يمكن تعريف الأنماط الفيلمية بالمتر!! – وجهل هؤلاء السادة أن الفيلم التسجيلى الطويل ،الذى يعرض فى دور العرض الجماهيرية، أصبح أحد الأنماط الفيلمية المهمة، وبالصدفة فإن قاعات العرض الأمريكية – نكرر: الأمريكية – تعرض هذا الأسبوع وحده أربعة أفلام تسجيلية طويلة كلها تتمتع بوعى سياسى ناضج، مثل فيلم "العراق للبيع: حول من أصبحوا أثرياء بفضل الحرب" من إخراج روبرت جرينوالد، الذى يفضح تحالف شركات المقاولات والسمسرة التى يملكها عسكريون سابقون مع قادة البنتاجون لكسب عمليات "البيزنيس" فى العراق، بل إن بعض هذه الشركات الخاصة تزعم أنها متخصصة فى "المحققين والمترجمين" الذين أرسلتهم لسجن "أبو غريب" مما أدى إلى موت المئات من العراقيين الذين لا علاقة لهم بالمقاومة. ومثل فيلم "تعتيم أمريكى" من إخراج إيان إينابا الذى يتهم الإدارة والإعلام الأمريكيين بسرقة نتائج الدورتين الأخيرتين من الانتخابات الرئاسية، أو فيلم "الحقيقة من على أرض الواقع" من إخراج باتريشيا فاولكرو الذى يسجل شهادات قدامى المحاربين الذين يؤكدون على تزييف حقائق التجنيد والتطوع فى الجيش، وتحويل الجندى الأمريكى إلى "أداة للقتل" بلا عقل ولا قلب، كما يحكى الفيلم عن تجارب حقيقية فى التعامل بعنف وحشى مع النساء والأطفال فى العراق، والقبض العشوائى على الأبرياء الذين قيدوا أحدهم من يديه أياما طويلة حتى أصيبت بالغرغرينا وانتهت إلى بترها، وبعد التحقيق اكتشفوا براءة الرجل!!
قلت أن هناك مرارة تغص بها النفس حين نقارن بين أحوالنا وأحوالهم، فنحن فيما يبدو لم يفهم أغلبنا ماذا تعنى السينما التسجيلية وكيف أصبحت متاحة للجميع بأبسط التكاليف والتقنيات لنصنع عشرات أو مئات الأفلام، ولن نحتار طويلا فى اختيار موضوعات الأفلام فنحن نعيش وسط ذلك الطوفان الكاسح من القهر الذى نعانيه وبذلك فإن السينما عندئذ سوف تؤدى جانبا مهما من دورها. كما أننا لم نبذل جهدا فى أن نرسخ من خلال مهرجان السينما التسجيلية هذا المفهوم الذى يمكن أن يكون مجسدا فى بانوراما حقيقية تجمع عشرات الأفلام التسجيلية التجارية خلال العام الذى مضى حتى نفتح الطريق أمام هذا النوع من السينما الذى مازلنا نجهله ونستهجنه لأننا "مثثقفون" توقفوا عن النمو. كما أننا فى النهاية لا نملك ولو حركة سياسية واحدة فكرت أن تجعل السينما أحد وسائطها للتوثيق ونشر الوعى النضالى.
فى "فلوريستا" بالأرجنتين مات ثلاثة شبان على يد شرطى فتغير النظام السياسى، بينما ينتهك عندنا عرض الرجال والنساء على نحو روتينى ثم تمضى بنا الحياة كسابق عهدها ونقول تلك الكلمة المقيتة: "عادى"!! هناك قام السينمائيون والسياسيون من أجل تعميق الوعى الجماعى بعمل مشترك فى وحدة لا تنفصم باعتبار السينما سلاحا للنضال، فهل نعرف نحن حقا معنى النضال؟!
ملحوظة:
هذا المقال أهديه ممتنا للصديق العزيز جدا أحمد غريب رد الله غربته
وتعود كتابة هذا المقال إلى أربع سنوات مرت، وللأسف ما نزال نقف عند نفس النقطة.
والأغرب أن هناك "ناقدا" مصريا كتب مقالا نظريا يؤكد فيه أن السينما التسجيلية فى العالم قد ماتت!!
ترى من الذى مات؟؟؟؟؟

No comments: