"لا أستطيع أن أتخيل حياتي بدونه!". إذا سمعت هذه العبارة، فما الذي يتوارد إلى ذهنك عن ذلك "الشيء" الذي لا تمكن الحياة بدونه؟ أرجو ألا تصاب بنوبة من الضحك أو الذهول إذا عرفت أنه نوع من "الشامبو"!! لكن لأن تلك "لغة" الإعلانات التليفزيونية فلابد أن تتوقع هذه المبالغة، لكن ما يجب علينا أن نفعله هو ألا نعتاد عليها، ونعتبرها أمرا مسلما به، لأن ذلك سوف يجعلها لغة "عادية" ومؤثرة، وهي بالفعل ليست عادية أبدا، فهي تعتمد على التلاعب بالمتلقي، وهي لا تقول له الحقيقة وإنما تزيفها، وهي أولا وقبل كل شيء لا تقدم لنا سلعا نحتاجها، بل كما يقول علماء الاجتماع تخلق بداخلنا احتياجا زائفا مصطنعا لتلك السلع، التي نستطيع طبعا أن نتخيل حياتنا بدونها، بل ربما سوف تكون حياتنا بدونها أكثر ثراء وعمقا.
تخيل مثلا أن تلك العشرات من القنوات الفضائية العربية التي تزدحم بها حياتنا قد توقفت عن بث الإعلانات، وسوف تكتشف أنك قد كسبت وقتا ربما يصل إلى ثلث عمرك! تلك هي الحقيقة، فإن ثلث وقت الإرسال – على الأقل – أصبح مخصصا للمادة الإعلانية الصريحة، ناهيك عن إعلانات خفية مبثوثة في شكل برامج تروج لطبيب ما، أو في شكل نوع من المشروبات تتناولها بطلة المسلسل أو الفيلم. لكن العلاقة بين الإعلانات والتليفزيون أصبحت علاقة لا يمكن تخيل حياة كل منهما بدونها، إلا إذا أعدنا صياغة العلاقة بيننا نحن المشاهدين وهذا الجهاز القابع في كل أركان حياتنا، فربما فرضنا عندها على الفضائيات شكلا أكثر حكمة وتعقلا وأخلاقية للإعلانات التليفزيونية.
يقول منتجو السلع أن الإعلان ضروري حتى يعرف المستهلك بمزايا البضاعة التي يروجون لها، وقد يكون هذا صحيحا في جانب منه (إذا افترضنا أنهم يقولون الحقيقة حول هذه المزايا)، لكن الجانب الأكبر من الحقيقة هو أن هناك عشرات المنتجين لسلعة واحدة، فتدفعهم المنافسة المحمومة إلى أن يطاردك كل منهم باسم سلعته في شكل إعلان، وبالطبع فإن الإعلان التليفزيوني هو أكثرها انتشارا، وضمانا لوصوله إلى قطاع أكبر من المستهلكين، إذا وضعنا في اعتبارنا عدد أجهزة التليفزيون والساعات التي نقضيها أمامه والقنوات الفضائية التي تتوالد كل يوم كالأرانب. ومن هنا اكتشف أصحاب هذه القنوات أن أرباحهم من هذه الإعلانات تفوق الخيال، حتى أن هناك العديد من المحطات لم تولد أصلا إلا لكي تكون "وعاء"، بالمعنى الحرفي للكلمة، للإعلانات التي تمثل الوقت الأكبر من الإرسال، الذي يمكن حشو المتبقي منه بالأفلام والتمثيليات المعادة المكررة، وهكذا فإن مثل هذا النوع من القنوات لا علاقة له بأي شكل بالإعلام، وإنما فقط بالإعلان.
تعال معي الآن نتأمل ما تقدمه لنا هذه الإعلانات، لنكتشف الحيل الفنية والنفسية التي تعتمد عليها، وهي حيل مكررة لا جديد فيها على عكس ما قد يروج له فنانو الإعلانات من أنها تقوم على الابتكار، برغم أن هناك حالات نادرة بالفعل من الإبداع الفني في بعض الإعلانات العالمية، لكنها استثناءات تؤكد القاعدة، وهي أن "الحاوي" ليس لديه من الألعاب إلا القليل لكي يقدمه المرة بعد الأخرى، خاصة في إعلاناتنا العربية التي لا تخلو في معظمها من البلادة أو حتى البلاهة! المبدأ الأول هو أن يتكرر اسم السلعة عشرات المرات خلال مدة الإعلان القصيرة جدا، والهدف بالطبع هو أن يلتصق هذا الاسم بذاكرة المتلقي، لذلك أيضا يلجأ فنان الإعلان إلى ابتكار "إفيه"، في شكل عبارة أو جملة موسيقية، لعل هذا الإفيه يغزو لاوعي المتفرج ويصبح جزءا منه، وإن شئت الحقيقة فإن ذلك ينجح في بعض الأحيان حتى أنه يصبح إضافة غير مباشرة لـ"فولكلور" الجمهور، قد يستخدمه في مناسبات ليست لها علاقة بالإعلان، مثلما حدث في مفارقة ساخرة مع إعلان تنظيم النسل في مصر، الذي كان يكرر جملة "أُنظر حولك"، فإذا بها تصبح وسيلة للسخرية المريرة من كل ما يحيط بنا من سلبيات.
وتلك الفكاهة ذاتها هي إحدى الحيل الفنية للإعلان، فهل يمكنك أن تدلني على إعلان واحد يدفعك إلى الحزن؟ نعم، أحيانا، في بعض الحملات السياسية المقصود بها إثارة الجماهير، مثلما حدث في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، فإعصار كاترينا على سبيل المثال اُستخدم للدلالة على تقصير الحزب الجمهوري الأمريكي في مواجهة الكارثة، لكن تلك بالطبع قصة أخرى لا علاقة لها بمعظم فضائياتنا العربية الغائبة عن السياسة مع سبق الإصرار والترصد! الفكاهة إذن مقصودة تماما، حتى يتوفر للإعلان حس ترفيهي يجعلك تقبل أحيانا أن تشاهده مرات عديدة، وربما يمكن أيضا صنع "مسلسل" من مادته، مثل أرنب البطاريات إياه، أو قرد إحدى شركات التليفون المحمولة. وقد يعتمد الإعلان على المحاكاة الساخرة لعمل فني شهير، أو يستخدم لحن أغنية قديمة، وعلى سبيل المثال فإن أحد إعلانات السمن المصرية يأخذ بطله شكل "إنديانا جونز" كما ظهر في سلسلة الأفلام التي صنعها ستيفن سبيلبيرج (!)، لكن إذا لم يكن معظم المتفرجين العرب يعلمون ذلك فإن الأغلب الأعم منهم يعرفون جيدا أن فيلم حسين كمال الشهير "شيء من الخوف" قد تم تقليده في الإعلانات مرارا على نحو ساخر.
ومن السمات الأخرى للإعلانات، التي تعتمد عليها في تزييف الحقائق، عنصر المبالغة، ولتتأمل مثلا كم تستخدم صيغة "أفعل التفضيل": أحسن، أكبر، أوفر، أنظف ... وفي بعض الأحيان ينقلب العيب ميزة!! هل تتذكر مثلا كيف أن معجونا للأسنان اكتشفوا بعد صناعته أنه لا يصنع الرغوة المطلوبة؟ لقد اعتمدت حملته الإعلانية على التأكيد على هذا العيب ذاته!! وفي أحيان أخرى يصل التزييف إلى تبرير غلاء السلعة، فيقولون لك أن نقص الكمية في العبوة (بنفس السعر السابق) لم يؤثر على قوة مسحوق الغسيل، بل زاد من هذه القوة! إن هذا التلاعب بالمتلقي يفضي بنا إلى الجانب النفسي في الإعلان، ولعل ذلك يظهر بوضوح في أن الجمهور المستهدف يكون دائما من الشرائح العمرية التي يصبح الاستهلاك من عاداتها التي لا تستغرق منها وقتا للتردد، خاصة الأطفال والمراهقين، وربما النساء الشابات فيما يخص مستحضرات التجميل والتخسيس.
يمتد هذا التلاعب إلى خصائص جمالية في المادة الإعلانية، لعل أولها اختيار "بطل" أو "بطلة" الإعلان، فهما في السلع باهظة السعر (السيراميك أو السجاد مثلا) من نجوم السينما، بينما في الإعلانات "البرجوازية" (مثل الشقق الفاخرة أو السيارات) هم من الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة التي تطمح لاقتناء مثل هذه السلع، لكن في السلع "الشعبية" (السمن والمنظفات) يتم اختيار شخصيات عادية تماما، وأخشى أيضا أن اقول أنها قد تصل أحيانا إلى حدود السوقية، لتصور فناني الإعلانات أن هؤلاء هم من يمثلون مستهلكي هذه السلعة. وفي كل الحالات فإن الإعلان يشبه فيلما قصيرا يتفاوت في براعته الفنية، فهو للبسطاء ذو بداية ووسط ونهاية (أم تعاني من غسيل ملابس ابنها أو زوجها وتجد الحل السحري في مسحوق تنظيف ما)، وقد يكون أكثر تعقيدا عندما يعتمد على القطع القافز والحذف والاختصار الشديد، الذي يحطم المنطق السردي وربما أيضا كل مسحة واقعية (السناجب تلعب الكرة، ثم يبرز المشروب المعلن عنه من بين مخابئ السناجب).
تهدف كل هذه الخصائص الفنية إلى آثار نفسية، تتركز في إحساس المتلقي بأنه سوف يشعر بالسعادة إذا استهلك هذا المنتج أو ذاك، وسوف يكون أكثر صحة، وأكثر رضا عن حياته، وإذا كانت السلعة رائجة فإنه سوف يشعر بالأمان لأنه من بين الملايين الذين يستخدمونها، في تلاعب على غريزة القطيع، أما إذا كانت سلعة للصفوة فإنه سوف يُرضي باستهلاكها عقدة التميز عن الآخرين! الإعلان هنا لا يبيع سلعة فقط، بل يبيع نمطا سلوكيا، وهذا ما جعل الجهات المسئولة عن الإعلام في الدول المتقدمة تضع ضوابط في هذا الشأن، فهي تحدد حدا أقصى للفترة الإعلانية كل ساعة، كما تلزم القنوات التليفزيونية بفترات محددة من الليل أو النهار، والأهم هو التشجيع على إيجاد مصادر أخرى للتمويل تستطيع أن تقلل من اعتماد هذه المحطات على الإعلانات (هناك مثلا الاشتراك في إنتاج الأفلام السينمائية، وهذا ما سوف نفرد له مقالا منفصلا).
في عام 1989 ظهر فيلم إيطالي للممثل والمخرج الكوميدي ماوريسيو نيكيتي، بعنوان "سارق النجفات"، كان محاكاة ساخرة لفيلم الواقعية الإيطالية الكلاسيكي "سارق الدراجات". المفارقة هنا هي أن بطل الفيلم القديم كان يحاول سرقة دراجة بدلا من دراجته المسروقة لأنها وسيلة كسب رزقه، أما في الفيلم الجديد فإن البطل يجد نفسه مدفوعا لسرقة نجفة لا يحتاجها بسبب إلحاح زوجته التي استولت الإعلانات على عقلها وروحها. وبالفعل فإننا نجد أنفسنا مثل "فاوست" الذي باع عقله وروحه للشيطان، وهو هنا شيطان الإعلانات الذي يبيع لنا سلعا لا نحتاجها، والأهم هو أننا في النهاية الذين ندفع تكاليف الإعلان ذاته الذي يضاف بالفعل إلى ثمن السلعة. لم يكن فاوست يملك وسيلة لدفع الشيطان عنه، لكننا بفضل "الريموت كونترول" نملك أن نقلب المحطة عندما تأتي الفقرة الإعلانية، لأننا لسنا فقط مستهلك السلعة، بل نحن السلعة ذاتها!!
Monday, August 23, 2010
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment