في كل عام يتفتق ذهن صناع البرامج عن "فكرة" تبدو جديدة، لكنها تتضمن نفس "البضاعة" دائما بصرف النظر عن التغليف، إنها بضاعة اعترافات النجوم بما يقال أنها أسرارهم، لكن الشكل يمكن أن يتغير: مذيع أم مذيعة يسألان نجما أو نجمة عن حكايات قديمة، والديكور ليس إلا استوديو على شكل بيت أو مطبخ، وربما يتغير المنظر إلى مكان غريب يخفي بعض المفاجآت، وقد يأتون بممثل أو ممثلة ليقوم بدور المذيع، ويذهب البعض إلى آخر المدى في "موضة" تدبير "مقالب" لضيوفهم، وإن كنا لا نعلم حقا هل هناك اتفاق مدبر بين جميع الأطراف فيما عدانا، بحيث نكون نحن ضحايا المقلب!
حاولت كثيرا أن أفهم السبب وراء وجود هذه البرامج، وما هو وجه المتعة والترفيه فيها، فلم أجد إجابة شافية إلا أن فضائياتنا تتِّبع سياسة إعلامية عشوائية، فهي تملأ فضاء فضائياتنا بهذا الفراغ الذي يعبر بحق عن انقطاع الصلة بين المسئولين عن هذه المحطات وما يمكن أن نسميه الإعلام بالمعنى الحقيقي للكلمة. لكن حجتهم فيما يفعلون هي أن المشاهدين يحبون مثل هذه البرامج، التي يشاهدون فيها "نجومهم" وهم على راحتهم، أو حتى على حقيقتهم كما يبدو في برامج المقالب المستفزة، حين تدخل النجمة في "خناقة" مع شخص يمثل أنه يسخر منها، أو في برامج الاعترافات المثيرة التي قد تحكي فيها النجمة عن بعض غرامياتها القديمة، لكن هل يستطيع أحد أن ينكر أن تلك النجمة ذاتها قد أخذت أجرا – مجزيا بطبيعة الحال – عن ظهورها في موقف من يدخل مشاجرة حامية الوطيس، أو عن حكاياتها التي تدور في غرف النوم المغلقة.
إن ما سوف نتوقف عنده هنا هو تأثير هذه البرامج في المشاهدين، الذين يقول صناع البرامج أن من أجلهم وحدهم يأتون بالنجوم المحبوبين، لذلك سوف نبدأ بتلك الكلمة الغامضة: النجومية، التي تبدو مثل الذريعة الجاهزة لدى المسئولين عن إعلامنا. لماذا يصبح شخص ما نجما، في أي مجال من مجالات الحياة؟ هل لأنه مشهور؟ السياسيون مشهورون حتى لو ارتكبوا الفظائع في حق الشعوب، مثل هتلر وشارون! والمجرمون مشهورون لأن جرائمهم تثير خوفا كامنا من تكدير أمن الحياة! فالشهرة إذن ليست أبدا معيارا للنجومية، وفي علوم وسائل الاتصال يقول آندي وارهول – الفنان الأمريكي الشهير بخروجه عن المألوف – أن خمس عشرة دقيقة لظهور أي شخص على شاشة التليفزيون تكفي لتجعله مشهورا، وهو ما أثار خيال صانعي فيلم باسم "15 دقيقة" الذي يدور حول اثنين من الصعاليك يقرران ارتكاب جريمة وتصويرها، لأن إذاعتها على الشاشة سوف تحملهما – في خمس عشرة دقيقة – إلى عالم الشهرة.
هناك إذن فرق هائل بين الشهرة والنجومية، فهذه الأخيرة تحمل معنى النجاح الذي يتمناه كل إنسان لنفسه، والنجم بهذا المعنى – كما تذكر الدراسات الاجتماعية في مجال الفن – مزيج في وجدان المتفرج من الواقع والخيال. بكلمات أخرى فإن النجم يحقق نجوميته عندما يرى المتفرج فيه شبها بنفسه كما هي في الحقيقة، كما يرى فيه أيضا صورته كما يتمناها. وبالمثل فإن النجمة تكون عند المتفرج شبيهة بفتاة يعرفها في الحياة، لكنها أيضا الفتاة كما يتمنى أن تكون في أحلامه. وصناعة النجومية في ضوء هذا المفهوم لا تأتي بشكل عشوائي كما يحدث في المجالات الفنية لدينا، وأرجو أن تلاحظ ذلك الإفراط في الصحافة الفنية العربية في إطلاق صفة النجم أو النجمة على كل من هب ودب، حتى لا تكاد أن تعرف من يحتل الصف الثاني أو الثالث في سلم هذه النجومية المزعومة.
صناعة النجومية الحقيقية تُبنى على دراسات اجتماعية وسياسية دقيقة، وصورة جيمس دين ومن بعده مارلون براندو – على سبيل المثال – فى بداية الخمسينيات تعكس واقع الشباب الأمريكى المتمرد آنذاك، الشباب الذي لم يشهد الحرب العالمية الثانية ويرفض أن يطلبوا منه التضحية بسببها، مثلما كانت صورة جين فوندا أو فانيسا ريدجريف في العقد التالي إشارة على التحول في صورة المرأة من براءة أودري هيبورن أو شهوانية مارلين مونرو، لتكون امرأة تطالب بحقها في أن تكون ذاتها وليست موضوعا لما يريده الرجل منها. هذه الصور للنجم أو النجمة تتم في صناعات السينما الراسخة نتيجة وعي كامل، وكانت تتم بشكل فطري في السينما العربية حتى وقت قريب، فتحولت صورتا فاتن حمامة وهند رستم في الخمسينيات، كنقيضين للبراءة والشهوانية، إلى صورة سعاد حسني التي تجمع بين البراءة الشقية والشقاوة البريئة، في فترة شهدت صعود الطبقة الوسطى ونمو أحلامها الخاصة والعامة، تلك الأحلام التي خبت وخابت في الفترة اللاحقة، وتمت ترجمة ذلك في أن تصبح صورة فتاة الشاشة هي نادية الجندي ونبيلة عبيد!
كانت هذه "الترجمة" تحدث لدينا بشكل تلقائي ودون وعي مسبق، لكنها كانت أيضا صادقة في تعبيرها عن الحلم والحقيقة في شخصية النجم بالنسبة للمتفرج، غير أن أمر "اصطناع" النجوم – وليست صناعتهم – تتم بطريق "التفريخ" في العقدين الأخيرين، خاصة مع حلول الفضائيات واحتلالها مكانا مهما في وسائل الترفيه، فذلك الفضاء الإعلامي الشاسع يتطلب عددا هائلا من الشخصيات التي يمكن اعتبارها "بضاعة" تشبه الوجبات السريعة التي يوصلونها حسب الطلب، إنها سريعة التجهيز (وهي لذلك سريعة التلف أيضا!)، كما أنها ليست بذات قيمة غذائية حقيقية، وهو ما يتطلب أن تحتوي على أكبر قدر ممكن من التوابل الحارقة.
تلك التوابل هي برامج الحوارات والاعترافات إياها مع هؤلاء النجوم، في مجالات التمثيل والغناء والرياضة والسياسة والصحافة، نجوم هم في الحقيقة أشبه بالشهب سريعة الاحتراق، لكنها قد تخطف الأبصار للحظة ثم تختفي إلى الأبد. يتم التحضير حاليا – استعدادا للكرنفال التليفزيوني السنوي في شهر رمضان – للعديد من هذه البرامج، التي رأينا منها في العام الماضى مثلا ديكورا يذكرك بسجن أبو غريب (!!) يدخل إليه النجم المزعوم، ليتم التحقيق معه بقسوة مضحكة، وسوف نرى هذا العام – مثلا أيضا – سائق سيارة أجرة يحاور الراكب (النجم إياه)، كما أن من المؤكد أننا سنرى نفس الحوارات العقيمة حول الخفايا والأسرار والفضائح، التي يأخذ "الضيف" ثمنا لإفشائها، كما أنه سوف يستثمرها في الفترة اللاحقة في الصحافة الفنية، بين ما قاله وما لم يقله، أو بين تضارب ما أدلى به فلان وما صرح به علان، ونحن – المشاهدين – لا ناقة لنا ولا جمل في هذه السوق التي تفرشها فضائياتنا، ولو أن ما تتركه هذه البرامج على وعي الجمهور يحتاج إلى وقفة تأمل.
فلنسأل أنفسنا بصدق: ماذا يمكن أن يستقر في وعي المتفرج ولا وعيه من هذه البرامج؟ وهنا سوف نعود إلى مفهوم الشهرة وليس النجومية، إن هؤلاء الذين يظهرون على الشاشة مشهورون لأنهم "ناجحون"، فهكذا سوف يفكر المتفرج للوهلة الأولى، وليس مهما معايير النجاح في هذا السياق. لقد أتتهم الشهرة بعيدا عن أية موهبة حقيقية، لقد أصبحوا مغنين أو ممثلين – أو يُفترض أنهم كذلك – بصرف النظر عن علاقتهم بهذا الفن أو ذاك، والمسألة كلها "ضربة حظ"، ليجلس المتفرج متسمرا أمام شاشة التليفزيون مستغرقا في حلم يقظة أن تأتيه هذه "الضربة" بطريقة غامضة ما، وبذلك تختفي معايير الموهبة والجهد (في كل مجالات حياتنا في واقع الأمر، ولتتأمل نماذج بعض رجال الأعمال أو حتى الثقافة والسياسة في الفترة الأخيرة)، ويبقى الحظ الذي قد يأتي بسبب هذه الفضائح التي لا يتورع هؤلاء النجوم المزعومون عن الفخر بها، وهكذا يمتزج الحظ والفضيحة في "وصفة" شيطانية نقدمها للمتفرج لكي تكون دليله إلى ... النجاح، نجاح بطعم الفشل الذريع، على المستوى الفردي والعام معا.
Sunday, August 22, 2010
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment