Saturday, January 09, 2016

فيلم "القداس الأسود".... فيلم عن الذئاب الجائعة المنفردة



يبدو عنوان هذا الفيلم للوهلة الأولى ملتبسا، لولا العودة إلى قواميس اللغة الإنجليزية المدققة، فاسم الفيلم Black Mass يشير إلى طقس شبه ديني من العصور الوسطى، أقرب إلى عبادة الشيطان، فهو "القداس الأسود" الذى لا يتوجه كما ينبغي إلى الله، وإنما إلى معبود زائف آخر. ولعلك لن تفهم المقصود بهذا العنوان إلا إذا دخلت إلى هذا العالم الفيلمي، الذي يحتشد بالظلام، ليس فقط على مستوى الدراما بل على مستوى الصورة أيضا، فإذا كانت الأحداث تدور في الحي الجنوبي من المدينة الأمريكية بوسطون، حيث تسود الجريمة بكل أشكالها، فإنك نادرا ما ترى المدينة في ضوء النهار، وكل شيء يسبح في بحر من الظلمات الداكنة.
إنه الجانب الآخر من الحياة الأمريكية، أو فلتقل إنه ما يدور تحت السطح الذي قد يظهر للعيان كأنه يعكس بريق الحياة المليئة بالمتعة، لكن هناك في الأعماق بحرا ليس فيه إلا الدماء، ولعل من النقاط المحورية لفهم الفيلم أن تتذكر أن القتلى العديدين في هذه الغابة الوحشية مدفونون تحت جسر بوسطون ذاته! لكن "القداس الأسود" ليس أيضا مجرد فيلم من الأفلام التي تدور عن عالم العصابات، بل هو من الأفلام المصنوعة بجهد فني حقيقي في كل عناصره، وربما سوف يكون ذلك سببا في ترشيحه لجوائز أوسكار عديدة، أو هذا ما نتوقعه على الأقل.
الخطوط العامة للحبكة في "القداس الأسود" لا تختلف كثيرا عن نمط أفلام العصابات: صعود مجرم صغير لكي يعتلي مكانا خطرا في عالم الجريمة، ثم نهايته التقليدية بالقبض عليه، لكن بين هذه البداية والنهاية لوحة بالغة الدقة في تفاصيلها، لمعارك الغابة البشرية التي تحدد معنى "النجاح" في المجتمع الأمريكي، فليس المهم هو المبادئ أو الأخلاق، بل المال والرفاهية والثراء، أيا كانت طريقة تحقيقها. في أحد مشاهد الفيلم نرى المجرم يعطي ابنه درسا في التعامل مع الحياة: "ليس المهم ما تفعله، بل متى وأين تفعله، ومع من وكيف تفعله. إن لم ير الناس ما فعلته، فإنه لم يحدث قط". فليفعل كل فرد ما يشاء في مثل هذا المجتمع لتحقيق مراده، حتى بأن يدوس على الآخرين أو حتى يقتلهم، بشرط أن يكون حريصا على أن يتم ذلك في الخفاء. 
يعتمد بناء الفيلم على أسلوب الشهادات التي تأتي على لسان شركاء الجرائم، وقد أصبحوا شهودا على زعيم عصابتهم، ومن شذرات هذه الحكايات نتعرف عليه، وهو بالمناسبة شخصية حقيقية وليست خيالية. إنه جيمس هوايتي بالجر (جوني ديب، في دور يجدد مكانته في عالم التمثيل، بعد عدة أدوار اتسمت بالنمطية)، المجرم الصغير، البار بأمه حتى أنه "يغش" في لعب الورق معها، حتى يجد مبررا لمنحها المال، وهو شقيق بيللي (بيندكت كمبرباتش) صاحب السمعة الطيبة، حتى أنه أصبح نائبا للولاية، والشقيقان صديقان قديمان لجون كونوللي (جويل إيدجرتون) الذي أصبح اليوم ضابطا في المباحث الفيدرالية.
لعل الثلاثة أصدقاء القدامى، الذين تفرقت بهم سبل الحياة إلى كسب العيش بوسائل مختلفة أو حتى متناقضة، لكن علاقات الغابة الاجتماعية تقربهم من بعضهم مرة أخرى، لعل ذلك يذكرك بخط مماثل في فيلم كلينت إيستوود "النهر الغامض" (الذي يدور أيضا في بوسطون)، فقد تختلف المصائر، لكن الظلام يجعلها تتلاقى مرة أخرى. ويتجسد الظلام هنا في أن الضابط جون يريد من المجرم جيمس – أو جيمي، أو هوايتي – أن يساعده في القبض على المافيا الإيطالية بالمدينة، حتى ينال الترقيات أحيانا، والرشاوي أحيانا أخرى، مقابل أن يسمح له بارتكاب الجرائم التي تكون سببا في صعود "العصابة الأيرلندية" بديلا عن الإيطالية.
سوف يغرقك الفيلم بحق في تفاصيل دقيقة عن هذا العالم المتشابك، لكنه لا يثير الملل أبدا، رغم تكرار بعض أحداثه، خاصة فيما يتعلق بالوشاة من عصابة جيمي، وعقابه لهم بقتلهم الواحد بعد الآخر بدم بارد، لكن هذه التفاصيل تستدعي إلى ذهنك على الفور، بتلك الرهافة في تنفيذها، أفلاما مماثلة في عالمها وأسلوبها لمارتين سكورسيزي أو ديفيد فينشر، بذلك الظلام الذي يخيم على كل شيء، والقتامة في حياة من يتصورون أنهم ناجحون سعداء، فليس السطح اللامع لأسلوب الحياة الأمريكي سوى وهج الشمس ينعكس على بركة من الأوحال الأخلاقية، بالمعنى الاجتماعي للكلمة، حيث هناك قانون أساسي يحكم العلاقات: البقاء للأقوى.
سوف يبدأ كل شيء في الانهيار مع وصول وكيل نيابة جديد، يثيره بقاء جيمي هوايتي متسيدا عالم الجريمة، دون أن يتم القبض عليه أبدا، ومن هنا يسرع تساقط أعوان جيمي، الذين يحكون تفاصيل جرائمه، على أمل أن ينالوا عقوبة مخففة لتحولهم إلى شهود. ويضطر جيمي للاختفاء عن الأنظار لستة عشر عاما كاملة، يقضيها كذئب جائع وحيد، حتى يتم القبض عليه في النهاية، ويحكم عليه بالسجن مدى الحياة، وينتهي الفيلم بلقطات تسجيلية، عليها آثار "خربشة" الزمن، تصور قصاصات متناثرة من حياة جيمي هوايتي الحقيقية، فكأن الفيلم يقول لك: ليس ما رأيته خيالا سينمائيا، بل هو جزء من واقع الحياة في مثل هذا المجتمع.
في الحقيقة أن هوايتي لم يكن هو الذئب الجائع الوحيد في هذا العالم، فإذا كانت حياته الشخصية تتداعى بعد موت ابنه بمرض مفاجئ، وانفصال زوجته عنه، بينما تتصاعد نجوميته كمجرم، فإن الشقيق بيللي يلقى رفضا من زوجته أن يكون شريكا في تلك الشبكة السوداء، تماما كما أن زوجة الضابط جون تواجهه بأن ترقياته وماله جاءت عن طريق التحالف مع المجرمين. إنهم جميعا، حتى الذين يبدون كما لو كانوا قد حققوا النجاح، ذئاب جائعة منفردة، تشعر في أعماقها بالتعاسة، وربما أيضا الجوع إلى حياة تستحق أن تعاش.
سوف يدهشك هذا التناقض الكامل في حياة هؤلاء الذئاب بين المظهر والجوهر، وهوايتي هو أكبر مثال على ذلك التناقض، حين يتحدث عن "ميثاق الشرف". ولعلك تذكر مثلا ثلاثية "الأب الروحي"، ففيها بعض من هذا التناقض. إن هوايتي قاتل بارد، حتى أنه يكاد أن يستمتع بخنق ضحاياه بنفسه، لكنه ينهار عندما تخبره زوجته أنها قررت أن تنزع أجهزة الإبقاء على الحياة عن ابنهما الميت إكلينيكيا. وهو يعلم معاونيه الولاء، ويثير فيهم الخوف من انتقامه إذا شعر أنهم خانوه يوما، ومع ذلك فإنه أصبح زعيما للعصابة الأيرلندية بالوشاية عن المافيا الإيطالية. وهو يغرق في عالم قذر أخلاقيا، لكنه يوبخ أحد معاونيه لاتساخ أظافره وأصابعه. وهو يتعامل بقسوة مفرطة مع خصومه أو من يشك فيهم، لكنه يتسم بالطيبة مع جيرانه. وهو الأب الحنون الذي يبحث عن دفء الحياة الأسرية، لكنه أيضا ذئب جائع وحيد في ظلام المدينة. وهو لا يعرف دينا أو أخلاقا، لكنه يختلي بنفسه في الكنيسة باحثا عن عزاء.
لكن التناقض الأكبر، الذي يشكل جوهر فيلم "القداس الأسود"، هو بين المجرم والضابط، فمن المفترض أن كلا منهما يقف على طرف مناقض من القانون، لكن الحقيقة أن الخط الفاصل بينهما قد ذاب، فالضابط هو نفسه الذي أسهم في صناعة مجرم بهذه الخطورة. ذلك هو الجانب "الأسود" بحق في حياة الليل في المدن الأمريكية، وشغل كثيرا من السينمائيين الأمريكيين: شوارع نيويورك عند سكورسيزي، وشوارع لوس أنجلس المتلألئة بالأضواء في فيلم مايكل مان "ضحية بالصدفة"، وشوارع مينيسوتا الثلجية في فيلم الأخوين كوين "فارجو"، وهو ما يتجلى في فيلم "القداس الأسود" في تلك اللقطات الساكنة المتتالية، للشوارع الخالية لمدينة بوسطون في الليل، وعلى شريط الصوت موسيقى تثير الأسى والحزن.
إنه فيلم عن الذئاب الجائعة المنفردة، حتى وهي وسط زحام الناس، لكن الذئب الأهم جوني ديب ربما يفوز بجائزة الأوسكار عن هذا الدور، وإن كان في الحقيقة يستحق أن يفوز بها.
                                                   


No comments: