Friday, January 08, 2016

أفلام الحرب بين العنف والشعر



من الشائع في أذهاننا أن النمط السينمائي المعروف باسم "الفيلم الحربي" لابد أن يحتوي على مشاهد لمعارك ومواقع حربية، وهو ما يحتاج بالطبع إلى ميزانيات كبيرة وتقنيات عالية. لذلك يبرر سينمائيونا عدم وجود أفلام تسجل لبعض حروبنا بأن هذا فوق إمكاناتهم، ولعل في هذا بعض الحقيقة، لكنه ليس الحقيقة كلها، فاختزال أفلام الحرب إلى مشاهد حربية يعكس مفهوما قاصرا إلى حد ما، إذ يتجاهل الهدف أو الأهداف من صنع ما يسمى أفلام الحرب.
لماذا حقا تقوم صناعة سينمائية بصنع أفلام حربية أو عن الحرب؟ هناك طيف واسع من الأسباب، التي قد تصل إلى حد التناقض أحيانا، وسوف نرى هنا كيف أن من الممكن أن تصنع فيلما يشيد بالحرب، ويخلع على المحاربين صفات البطولة، بينما هناك أفلام أخرى تدينها، باعتبارها تحول البشر إلى وحوش. كما أن هناك أفلاما تحتشد بأصوات طلقات الرصاص والمدافع، وأشلاء الضحايا وأكوام الركام، في الوقت الذي توجد فيه أفلام تدور عن الحرب دون أن تصور معركة حربية واحدة، فهي تركز بدلا من ذلك على الجوانب النفسية والاجتماعية التي تتسبب فيها الحروب.
وربما أتى المفهوم السائد عن الأفلام الحربية من أغلب أفلام هوليوود، خاصة تلك التي تدور حول البطولة الأمريكية (المزعومة إلى حد كبير) في الحرب العالمية الثانية. ومنذ خمسينيات القرن العشرين، وبسبب "الحرب الباردة" بين الكتلتين الغربية والشرقية، عملت هوليوود على صنع أفلام تمجد مآثر الجنود الأمريكيين بينما تقلل من شأن جنود الجبهات الأخرى. ولعل أبناء الجيل الأكبر من متفرجينا يتذكرون أفلاما مثل "مدافع نافارون" أو "دستة أشرار"، التي تبدو في ظاهرها تتحدث عن بطولة "جماعية"، لشخصيات درامية مرسومة جيدا لكي تعكس الصراعات بينها أيضا، وهي في الوقت ذاته تسعى لتحقيق مهمة عسكرية تحوطها المخاطر، لكن التناقضات بين الشخصيات تذوب في النهاية بفضل الضابط الأمريكي "القائد"، الذي يستجيب له الجميع، حتى تنتهي المهمة بالانتصار.
ولا يخفى علينا بالطبع أن مثل هذه الأفلام مصنوعة لأهداف سياسية ومعنوية، حتى لو شوهت الحقيقة قليلا أو كثيرا، فدخول أمريكا الحرب العالمية الثانية جاء متأخرا، بعد أن أدركت أنها ليست بعيدة بما يكفي لكي تترك العالم يتطاحن بينما تكتفي هي بالفرجة من بعيد، خاصة بعد الهجوم الياباني على ميناء "بيرل هاربر" الأمريكي. كما أن هوليودد لم تتحدث مثلا عن ملايين الجنود السوفييت الذين ماتوا لكي يوقفوا زحف القوات الألمانية، أو عن المقاومة الفرنسية للاحتلال الألماني. ففي هذا النوع من الأفلام كانت هوليوود تعمل لهدف "دعائي" خالص.
ولهذه الأفلام الدعائية توليفة واحدة، حيث يوجد قدر هائل من التنميط: أبطال الفيلم الأمريكيون يمثلون الخير، بينما يجسد العدو جانب الشر. إن هذا ما تجده في أفلام عاودت الظهور في فترات لاحقة، مثل "رامبو" أو "سقوط الصقر الأسود"، وفيها جميعا حيلة درامية بارعة، هي جعل المتفرج يرى العالم من وجهة نظر "البطل" وحده، بينما لا يكاد يظهر وجه "العدو" على الإطلاق، الذي يجسد خطرا غامضا يخلو من أي ملامح إنسانية. ولعل أهم الأفلام في هذا السياق هو "إنقاذ الجندي رايان"، الذي برع مخرجه الشهير ستيفن سبيلبيرج في تصوير مشاهد المعارك، لكنه أضاف لها نزعة تسجيلية تجعلك تشعر أنك في قلب المعركة ذاتها، وتذوب في توحدك مع شخصيات الجنود الأمريكيين، فعندما تنفجر قنبلة يغيب شريط الصوت للحظات في الصمت، ليحاكي ما يحدثه الانفجار في الأذن، أو تغرق الكاميرا تحت سطح الماء أحيانا بينما يناضل الجنود للنزول على شاطئ نورماندي.
يمكنك أن تجد عشرات الأمثلة على هذا النوع من الأفلام الحربية الدعائية، لكننا سوف نتوقف هنا قليلا أمام تنويعات مختلفة، لنرى كيف أن هذا النمط الفيلمي يتسع ليشمل العديد من الأشكال والمضامين. إن هذا الطيف يمتد مثلا من النزعة التسجيلية الخالصة في فيلم "أطول يوم في التاريخ"، الذي يخلو من الرسم الدرامي التقليدي للشخصيات أو الصراع، لترى على الشاشة شخصيات الضباط والجنود وإلى جانبهم أسماؤهم، أو ترى تتابع عقارب الساعة عبر الزمن في أحداث يوم من أيام الحرب العالمية الثانية، هو مرة أخرى يوم النزول على شاطئ نورماندي. لكن طيف الأفلام يصل مع "بيرل هاربر" إلى نزعة مغرقة في الرومانسية الميلودرامية، حيث يصبح جوهر الفيلم هو تيمة العلاقة المركبة بين "امرأة ورجلين"، وقصة الحب والتضحية كما في الأفلام العربية التقليدية تماما!!
ولعل أهم الأفلام التي تناولت الحرب لكي تقف موقفا مناهضا لها هو الفيلم الفرنسي المعاصر "خطبة طويلة جدا"، وفيه شابة تبحث عن خطيبها الذي ذهب إلى الحرب، لتتحول "الرحلة" التي تقوم بها إلى قصيدة مأساوية عن ويلات الحرب وعبثيتها. وفي الحقيقة أن هناك في تراث السينما العالمية مجموعة ليست بالقليلة من الأفلام التي تدين الحروب، مثل الفيلم الفرنسي "الوهم الكبير" لأهم مخرجي السينما الفرنسية خلال النصف الأول من القرن العشرين جان رينوار، أو الفيلم العبقري للفنان العظيم شارلي شابلن "الديكتاتور العظيم"، الذي يحول عملا كوميديا راقيا نرى فيه صعلوك شابلن التقليدي، شبيها بالقائد النازي أدولف هتلر (من المفارقات الطريفة بالفعل أن هتلر كان يقلد شابلن في مظهره!!)، لكي يقف الصعلوك في نهاية الفيلم بديلا عن هتلر يخطب في قواته، لتأتي واحدة من أفضل اللحظات السينمائية في فيلم عن الحرب، لكي تتحدث عن السلام بين البشر جميعا.
من التنويعات المهمة الأخرى أفلام يتناقض شكلها مع مضمونها، وهي الحيلة السينمائية التي برع فيها المخرج ستانلي كوبريك، صاحب أكثر الرؤى قتامة عن "المدنية الغربية"، فهو في فيلم "خزانة مدفع مليئة بالطلقات" يصور كيف أن التدريب العسكري يحول الجنود الشباب إلى وحوش، إنهم يفقدون براءتهم ويصبحون آلات للقتل بالمعنى الحرفي للكلمة. بينما يقدم في "دكتور سترينجلاف، أو كيف توقفت عن القلق وأحببت القنبلة" رؤية بالغة السخرية والمرارة تبدأ من هذا العنوان الغريب، حيث يجتمع قادة العالم المتخاصمون في "غرفة الحرب" لكي يحددوا مصير البشرية، لكننا نراهم شخصيات مشوهة تماما، بينما يهرب ضابط مصاب بالعجز الجنسي بطائرته التي تحمل قنبلة نووية، مهددا بدمار شامل، فكأن الحرب في حقيقتها تعكس عجزا عميقا عن التواصل مع الآخرين.
وتصل هذه السوداوية إلى حدها الأقصى في الأفلام التي تتحدث عن قدامى المحاربين، الذين عادوا من الحرب بتشوهات نفسية أحيانا، أو عادوا أحيانا أخرى بحلم عن وطن أفضل سوف يخيب أملهم فيه. وإذا كان فيلم "العودة إلى الوطن" يحكي عن هذه التجربة في أعقاب حرب فييتنام بشكل لا يخلو من رومانسية أسيانة، فإن فيلم المخرج الشهير مارتين سكورسيزي "سائق التاكسي" يحتشد بقدر هائل من المرارة، إن البطل قد عاد من فييتنام ليعمل في ساعات الليل سائقا لسيارة أجرة، فكأنها فرصته لكي يرى العالم السفلي لمدينته التي حلم بالعودة إليها، فإذا بها تجسد عالما قاتما كئيبا، مما يدفعه لأن يقرر أن يأخذ طريق "الانتقام" الفردي ممن يتصورهم أشرارا، وإذا كنت تراه في بعض اللحظات وقد تحول إلى إرهابي، فأنت تدرك أنه قد نصب من نفسه قاضيا وجلادا، لأنه في الحقيقة ضحية لحرب لم تكن عادلة أبدا.
وهكذا يتحول تناول تيمة "الحرب" في السينما أحيانا، وعلى يد فناني السينما المرهفين، إلى تأمل أكبر وأشمل لقضايا إنسانية أعمق، وهو ما يبدو واضحا في فيلم المخرج تيرانس ماليك "الخط الأحمر الرفيع"، الذي يعود فيه إلى عالم الحرب العالمية الثانية، لكن ليس أبدا لكي يتحدث عن البطولة، وإنما عن الصراع الدائم بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والإنسان، في مشاهد تتعدد فيها الأصوات التي تسرد الوقائع، كما تتعدد الرؤى، ليصبح الفيلم الحربي هنا قصيدة فلسفية بالمعنى الكامل للكلمة.
لكن يبقى السؤال: أين موقع السينما المصرية من هذه التنويعات؟ وهل ظلت أسيرة لمفهوم ضيق عما نسميه "الفيلم الحربي"؟!
في كل مناسبة من مناسبات أعيادنا القومية، لا يجد التليفزيون إلا عددا محدودا من الأفلام التي تواكب هذه المناسبة أو تلك، حتى أن المتفرج يجد نفسه محاصرا بفيلم شاهده عشرات المرات من قبل. خذ مثلا الاحتفال بحرب أكتوبر، التي يعتبرها المصريون والعرب الحرب التي أكدت قدراتنا على مواجهة العدو الإسرائيلي، ودحض دعواه الزائفة عن أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، فسوف تجد نفسك تشاهد في التليفزيون أفلاما من نوعية "بدور" أو "الوفاء العظيم"، وأقل ما يقال عنها أنها أفلام متواضعة، ناهيك عن أن "حرب أكتوبر" فيها لا تعني شيئا حقيقيا، فجوهر الدراما يدور حول قصة غرامية كررتها السينما المصرية مئات المرات، وليست الحرب فيها إلا "أزمة" يمكن أن تبدلها بأخرى، دون أن يترك ذلك أثرا في "الحدوتة"!!
ودائما ما تسمع من صناع الأفلام المصرية تبريرا متكررا، حول ندرة الأفلام التي تدور عن الحرب أو تواضع مستوى هذه الأفلام، وهو تبرير "الإمكانات" المادية التي تجعلهم يعجزون عن تنفيذ مشاهد المعارك، لهذا تراهم يستعينون بلقطات تسجيلية أرشيفية تتكرر من فيلم إلى آخر على نحو لا يخلو من رتابة أو حتى سذاجة، بل المثير أكثر للشفقة أو المرارة أن تلك اللقطات ليست تسجيلية بحق، فلأن صناع سياساتنا لا يؤمنون حقا بدور السينما، لم تكن هناك قوافل سينمائية تصاحب الجنود في المعارك الحقيقية، ولتقارن ذلك بأرشيف سينمائي هائل عن الحرب العالمية الثانية من على كل الجبهات، ورقم يثير الرهبة لعدد المصوريين السينمائيين الذين لقوا حتفهم في المعارك، لأنهم كانوا يصاحبون الجنود كتفا بكتف!!
لكن بعيدا عن مقولة صعوبة تنفيذ المعارك الحربية بموارد سينمائية محدودة، سوف تجد السينما المصرية قد تناولت تيمة الحرب دون اللجوء لهذه المشاهد باهظة التكاليف. وفي بعض الأحيان تتحول هذه التيمة إلى مجرد خلفية مقحمة، مثل فيلم المخرج خيري بشارة "الأقدار الدامية"، والذي هو في جوهره اقتباس عن مسرحية الكاتب الأمريكي يوجين أونيل "الحداد يليق بإلكترا"، فلأن الدراما تدور حول انتقام فتاة من أمها التي خانت أباها وهو في الحرب (تلك هي الأسطورة الإغريقية القديمة عن أجاممنون)، فلن يجد صناع الفيلم حربا سوى حرب فلسطين في عام 1948 (!!)، وهم إذا كانوا قد تمتعوا بذكاء استخدام عناوين صحف تلك الأيام، بديلا عن تصوير معارك فعلية، فإنهم جردوا تلك الحرب من مضمونها تماما، لتصبح – مرة أخرى – مجرد ذريعة درامية للحبكة. وهو التناول السطحي ذاته الذي وقعت فيه أفلام مصرية قديمة مثل "وداع في الفجر" (المقتبس عن "جسر ووترلو")، أو "نادية" الذي عادت فيه عزيزة أمير إلى السينما، واستخدم بدوره حرب فلسطين على نحو بالغ الميلودرامية في قصة مغرقة في العاطفية.
قارن ذلك بما فعله يوسف شاهين في "اليوم السادس"، فبرغم انتقائية الفيلم في أسلوبه، وتشتته في العديد من الأفكار والأشكال السينمائية، فإنه لمس حرب فلسطين على نحو هامشي وإن كان مرهفا، فهناك شخصية رفحي التي قام بها يوسف شاهين نفسه، إنه صاحب دار عرض تقدم أفلاما أمريكية، لكنه عندما يرى اندلاع الحرب يقرر أن يغلق السينما ويذهب للانضمام إلى صفوف المقاتلين، وكأنها أمنية من يوسف شاهين بصنع أفلام تدافع عن المعارك القومية بحق، لولا أنه في الواقع غرق كثيرا في عالمه الذاتي الضيق!! إنه العالم الذاتي الذي استولى على "اسكندرية ليه"، فبرغم ما يبدو أن "بانوراما" للمجتمع المصري خلال السنوات الملتهبة في الأربعينيات، بين الحرب العالمية الثانية وحرب فلسطين، فقد ظلت مجرد خلفية للصراع الداخلي للشخصية الرئيسية التي تمثل يوسف شاهين في فترة شبابه المبكر.
ومن الحق القول أن هناك أفلاما مهمة وإن تكن منسية في تاريخ السينما المصرية، دارت حول الحرب، لكن من المفارقات أنها كادت أن تقتصر على حرب العدوان الثلاثي فقط، مثل فيلم "بورسعيد" الذي أنتجه وقام ببطولته فريد شوقي، وهو الفيلم الذي لم يكن مقدرا صنعه لولا مساندة الزعيم الراحل عبد الناصر. كما أن فيلم "عمالقة البحار" يحكي عن فترة من أهم فترات المد القومي، حين اشترك ضابط البحرية السوري جول جمّال في معارك العدوان الثلاثى واستشهد، كعلامة على أن حروب الأمة العربية هي في الحقيقة معركة واحدة، إن صحت الرؤية وصدق الهدف. ويبقى فيلم "أغنية على الممر" عن حرب 1967، وهو الفيلم الذي يدحض دعوى قصور الإمكانات، فقد تم إنتاج الفيلم من خلال "جماعة السينما الجديدة" التي لم تكن تملك سوى اشتراكات أعضائها، لكن الفيلم يخلق نسيجا متشابكا وحيا من خلال مجموعة من الجنود المصريين المحاصرين، لينتقل الفيلم في الزمان والمكان ليحكي عن عالم كل منهم، وكيف لهم أن يواجهوا الأزمة عندما يدركون وحدة المصير.
هناك أفلام أخرى بدت للوهلة الأولى كأنها بعيدة في الزمن التاريخي، لكنها في الحقيقة كانت تحكي عن الزمن المعاصر، مثل "الصقر" الذي كان إنتاجا مشتركا بين مصر وإيطاليا، وأخرج نسخته المصرية صلاح أبو سيف، وهو فيلم قد يراه البعض ينضوي تحت نمط "السينما البدوية"، لكنه في أعماقه يحكي عن قبائل عربية مشتتة، وضرورة وحدتها في مواجهة عدو يتسلل إلى البلاد تحت زعم التحديث، في إشارة إلى العدو الصهيوني. كما أن فيلما مثل "الناصر صلاح الدين" لا يمكن أن يخطئ المتفرج دلالته، فبرغم أنه يحكي عن الحروب الصليبية، وبطولات صلاح الدين الأيوبي، فهو في جوهره يتحدث عن "هنا والآن"، لأن السياق بين التاريخ والواقع المعاصر سياق متشابه إلى حد كبير.
لكن من الدلالات المثيرة للاهتمام أن أغلب الأفلام التي تماست مع حرب أكتوبر لم تكن تخلو من المرارة، ربما لأن الإحساس العام بهذه الحرب كان أنها سُرقت بسبب الانفتاح العشوائي تارة، وانقلاب ميزان القيم الاجتماعية، أو بسبب الشعور بأنها ضاعت بعدما حدث في "كامب ديفيد" وما تلاها. في "سواق الأوتوبيس" على سبيل المثال مشهد مهم، لأصدقاء قدامى كانوا زملاء الجندية أثناء الحرب، وهو يلتقون عند سفح الأهرام في الليل، ينعون ما وصل إليه حال كل منهم، خاصة وأنت تعلم أن البطل عاجز عن حماية "ورشة" أبيه، التي تمثل له ولنا رحلة كفاح طويلة. أما في "كتيبة الإعدام" يصبح الرمز أكثر مباشرة، فالسرقة هنا حقيقية، من جانب شخص شرير سرق مرتبات الجنود واختفى، بينما اُتهم البطل ليسجن عدة سنين، وهاهو يخرج من السجن ليبحث عن المجرم الحقيقي.
لكن فيلم "المواطن مصري" يشير إلى الجاني منذ اللحظة الأولى، ودون الوقوع في أسر الحبكة البوليسية أو المواقف الميلودرامية: إن العمدة الإقطاعي يسرق الشهيد ذاته، ابن الفلاح العجوز المكافح، لينسبه إلى نفسه، في محاولة لإخفاء معالم الجريمة الكبرى، جريمة سرقة وطن بأكمله. غير أن فيلما مثل "ناصر 56" لا يعمد إلى الدراما التقليدية ذاتها، ليسير في خطوط أقرب للمسحة التسجيلية، ليسجل كل المشاعر والأفكار المرهفة في فترة حرجة من التاريخ المصري، في تلك الشهور القليلة التي سبقت تأميم القناة والعدوان الثلاثي. ولم يكن غريبا أن هذا الفيلم الذي عرض في صيف 1996 حقق إيرادات ضخمة على عكس المتوقع، ولعله كان بداية اكتشاف السينما المصرية لأهمية الموسم الصيفي. لم يكن نجاح فيلم "ناصر 56" راجعا إلى أنه فيلم تجاري، أو حتى أنه دار بشكل تقليدي عن أحد حروبنا المهمة، لكن لأنه لمس ما يجب أن يكون عليه الفيلم الحربي، أن يكون عن البشر وليس عن المدافع، وعن مشاعر وطنية وقومية صادقة طال اشتياق الجمهور إليها، ونرجو ألا يطول هذا الاشتياق.  


No comments: