تتمتع أفلام الرعب الأمريكية بسحر جماهيري خاص، أثار
حيرة الكثيرين من النقاد والباحثين، فما الذي يدفع متفرجا للدخول إلى قاعة عرض
مظلمة، يفترض أنه سوف يقضي فيها ساعتين من اللهو البريء، لكي يشعر في النهاية
بالخوف والفزع؟ وتراوحت الإجابات تبعا لمجال من يقوم بالبحث، والغريب أنها كلها
إجابات صحيحة، فالبعض يقول إن لدى كل إنسان رغبة "مازوكية" عميقة تستعذب
تعذيب النفس، وكأنه يقوم بعملية "تطهير" بالمعنى الذي قصده أرسطو، وهذه
الأفلام تحققها له، بينما يقول البعض إنها أفلام تسود في مجتمعات تبدو في ظاهرها
هادئة مطمئنة، لكن تحت سطحها تكمن مخاوف هائلة عميقة، وهذه الأفلام توقظها.
لكن صناع الأفلام الأمريكيين استغلوا هذا النمط من
الأفلام في أغلب الأحيان، ليصنعوا أفلاما تجارية ذات مظهر يبدو مثقفا متفلسفا،
وهذا ما حدث في فيلم "طرقات على الباب" Knock Knock، والذي مزج الرعب بالعنف والجنس أيضا، في محاولة لتقديم وجبة شهية
– وإن كانت تشبه ما يسمى "طعام النفايات" في الوجبات السريعة – يمكنك أن
تستخرج منها بعض المعاني، أو تجد عناصر هنا وهناك من البراعة السينمائية، لكن
القليل هو الذي سوف يتبقى في ذهنك بعدها، سوى درس أخلاقي لا أعتقد أنه كان من
نوايا صناع الفيلم، لكن التوليفة هي التي قادتهم إلى ذلك.
والمخرج إيلي روث يعشق هذه النوعية من الأفلام، وهو يعرف
يقينا أنه يصنع أفلاما تجارية، أو ما يسمى بشكل أكثر دقة "أفلام استغلال
الموضوعات الخاصة"، مثل العنف أو الجنس أو العنصرية (الزنوج). وفي معظم هذه
الأفلام هيكل عظمي لحبكة واحدة: مكان منعزل لأناس يعيشون حياة هادئة، وفجأة يحدث
اقتحام من أناس آخرين هم على العكس تماما، متوحشون غوغائيون أو حتى قتلة. وهذا
بالضبط هو ما يحدث في فيلم "طرقات على الباب".
تأتي المشاهد الأولى لتعبر عن تلك الحياة المستقرة لأسرة
تبدو من الشريحة العليا للطبقة الوسطى الأمريكية، فالأب إيفان (كيانو ريفز) والأم
كارين (إجناسيا ألاماند) يبدوان عاشقين كأنهما ما يزالان في مرحلة توهج الحب
الأولى، لكنك سوف تعرف على الفور أنهما أب وأم لطفل وطفلة جميلين، وأن الأم سوف
تذهب بالطفلين إلى الشاطئ لقضاء أجازة عيد الأب، بينما – وتلك هي المفارقة – سوف
يبقى الأب وحيدا فى المنزل، لأنه ما يزال يعاني من آلام في كتفه، لكن الحقيقة أن
الحبكة تختلق ذلك اختلاقا، فكل ما تريده هو أن يبقى الأب في المنزل وحيدا، ليمر
بتجربة الرعب العبثية التي ما تزال في رحم الغيب، لينقلب يوم عيده جحيما بالمعنى
الحرفي للكلمة.
لكن هذا الجحيم يبدأ مثل نار هادئة دافئة، فبينما هو
يكمل بعض أعماله، ويستمع إلى موسيقى يعشقها، ينصت فإذا بطرقات على الباب: "طق
طق"، "من بالباب؟"، هكذا يقول، كأنها لعبة يمارسها أطفال، لكنه
عندما يفتح الباب يجد فتاتين جميلتين بلل المطر ملابسهما، يقولان أنهما ضلا الطريق
إلى غايتهما، ويطلبان منه مساعدتهما، فيدعوهما إلى الدخول لاستخدام الهاتف، لكن
ترحيبه يصل أيضا إلى الدعوة لأخذ ملابسهما لتجفيفها. على سطح الدراما هناك قدر من
البراءة، يتجلى في بساطة ومرح الفتاتين، وفي معرفتك السابقة إن الزوج يعشق زوجته،
لكن تحت السطح يتسلل إلى وجدانك سؤال: أليس هذا الموقف مشحونا ضمنا بإغراء خفي؟ ألا
يدرك إيفان أنه يقف على حافة هاوية، سوف ينزلق منها لو تقدم خطوة واحدة؟ لكن
الأسئلة هنا لا تجديك نفعا، فالحبكة تريد أن تمضي في طريقها المرسوم، بصرف النظر
عن أي منطق واقعي.
سرعان ما سوف تتحرر الفتاتان من تكلف التهذيب، وتعرفان
نفسيهما: جينيسيس (لورينزا إيزو، زوجة المخرج إيلي روث، وممثلته في العديد من
أفلامه)، وهي تبدو أكبر سنا وخبرة وسيطرة على الأمور، بينما الأخرى التي تبدو
صغيرة السن بيل (أنا دي أرماس) تتصرف كأنها مراهقة تلهو دون إدراك. وتقولان – كذبا
- إنهما مضيفتان، اعتادتا السفر من مكان إلى مكان، وأنهما لا يقيمان وزنا لعمق
العلاقات، فحياتهما لا تسمح لهما إلا بلحظات عابرة من المتعة. وهنا تبدآن في إيقاع
إيفان في حبائلهما، فهي ليست إلا ليلة في غياب الزوجة والأسرة، ليقع إيفان في
الفخ.
إن كان هناك في الفيلم ما يمكن أن تقول عنه إنه بارع في
تنفيذه، فهو بلا شك أن الجزء الأكبر منه ومن الدراما يحدث في هذا المكان المغلق، وبثلاث
شخصيات فقط، كما تتجلى البراعة في تصاعد الأحداث شيئا فشيئا من الهدوء الظاهر إلى
الفوضى الكاملة. لكن ذلك لا يخفي أيضا قدرا من الافتعال سوف نتحدث عنه لاحقا، ففي
الصباح التالي تبدأ الفتاتان في العبث بمحتويات المنزل، وإشاعة الفوضى فيه،
ليستيقظ إيفان على بداية الكارثة، فيأمرهما بالرحيل فورا وإلا سوف يبلغ الشرطة،
فيردان بأنهما ما تزالان مراهقتين وأن ذلك سوف يعرضه لتهمة اغتصابهما، وهي الحجة
التي سوف نعرف في النهاية أنها كذبة، استخدماها لتهديده بما يسمح لهما بمزيد من
التدمير لحياته.
إنه التدمير الذي تحطمان فيه التماثيل التي صنعتها
الزوجة، وتقتلان مساعد الأسرة الزنجي ويدفنانه في حديقة المنزل، وتعذبان إيفان
بشكل جنسي مريض، وتصوران علاقته بهما ويبثانها على الإنترنيت، وتحفران حفرة كبيرة
تضعانه فيها ولا تتركان سوى رأسه خارجها، وترحلان كأنهما سوف تبحثان عن ضحية
جديدة، بينما تعود الأسرة لتجد هذه الفوضى، لينتهي الفيلم بجملة قد تبدو طريفة
لكنها ساذجة، تأتي على لسان الابن حين يقول" "يبدو أن أبي أقام حفلة
كبرى"!!
يذكر موقع "قاعدة معلومات السينما العالمية" imdb أن فيلم "طرقات على الباب" إعادة صنع لفيلم من عصر
أفلام مقاولات الفيديو، هو "لعبة الموت" (1977)، لكن عندما يتأمل المرء
الفيلم لا يجد سببا لصنعه، سوى أنه تنويع آخر على سينما مزج العنف والرعب والجنس.
وربما يدعونا الفيلم إلى مقارنته في بعض خطوطه بأفلام أخرى، تتراوح بين الرومانسية
الخالصة والعنف المفرط. لقد تحدث مثلا فيلم "هرشة السنة السابعة" من
بطولة مارلين مونرو عن زوج مخلص ذهبت أسرته للمصيف، وبقى هو وحيدا، لتسكن في الشقة
العلوية امرأة جميلة خفيفة الظل، ليستيقظ داخل الزوج إحساس بالرغبة في الحب من
جديد، لكن الفتاة في الحقيقة تتلاعب به في براءة ممزوجة بالإغراء، كانت جديرة بمارلين
مونرو. بينما كان فيلم بالغ العنف مثل "البرتقالة الآلية" لستانلي
كوبريك يصور هجوم الغوغاء على الطبقة الوسطى، وتدمير حياتها الهشة، التي تخفي تحت
سطح الثقافة والحضارة قدرا كبيرا من الهشاشة والخواء.
ليس هناك في "طرقات على الباب" معنى أعمق من
ظاهره، وهو لم يهتم أصلا بذلك، كما لا يهتم بتفسير الكثير من الجوانب، التي بدت
مثل الثقوب في الدراما. إنك لن تعرف أبدا من تكونان هاتان الفتاتان، من أين جاءتا
وإلى أين سوف تذهبان، وكيف لهما أن تعرفا تفاصيل حياة إيفان وعلاقته بطفليه،
ولماذا تفعلان أصلا كل ما تقومان به من تدمير، ناهيك عن أنه إذا كان إيفان قد فتح
لهما الباب لأول مرة، فكيف تأتى لهما معاودة الدخول إلى المنزل بعد أن طردهما، كما
يظل هناك سؤال بدهي، يتعلق بما يسمى "الاقتصاد في الشخصيات"، فما هي
ضرورة وجود مساعد الأسرة الزنجي، الذي يمر بالصدفة، ويموت قتيلا بالصدفة؟
كل العناصر في الفيلم مهما بلغ إتقانها ليس لوجودها مبرر
سوى أن تكون أداة لإضافة مزيد من الرعب المصطنع، تماما مثل حركة الكاميرا فوق المدينة
لتنتهي إلى داخل منزل إيفان، كأنها روح غامضة محلقة مخيفة، دون أن تكون "من
وجهة نظر" ما قد تفيد الدراما. وإن كنت تبحث عن تلخيص لمثل هذا الفيلم، فهي
نصيحة للمتفرج ألا يفتح باب منزله للغرباء أثناء الليل، وألا يخون زوجته أيا كانت
الإغراءات، والأفضل ألا يرد أصلا على أي "طرقات على الباب"!!
No comments:
Post a Comment