Thursday, February 16, 2012
حصاد السينما المصرية فى عام الثورة شبه سينما، ونصف ثورة
عندما قامت ثورة 25 يناير، كانت دور العرض السينمائية فى مصر تعرض ثلاثة أفلام: "شوق"، و"فاصل ونعود"، و"365 يوم سعادة"، وبسبب الأحداث اضطرت هذه الدور لإغلاق أبوابها، وظلت على هذه الحال شهورا خمسة، باتت فيها السينما المصرية كأنها فى حالة بيات شتوى طويل، تراقب الموقف من وراء ستار، حتى تتبين لمن الغلبة فى الصراع السياسى، لتقرر بعدها التيار الذى سوف تسير فى ركابه.
هل كانت هذه الأفلام السابق ذكرها تعبر - ولو بالتلميح – عن أن هناك بوادر رغبة فى التغيير؟ وهل تلك الحالة من الكمون طوال شهور القلق السياسى تشير إلى رؤية جادة من صناع هذه السينما تجاه دورهم فى صناعة وجدان الناس، أو على الأقل مشاركتهم أحلامهم؟ فلنبدأ بالإجابة عن السؤال الثانى، لنصل إلى حقيقة مؤسفة فى واقع السينما المصرية، وهى فقدانها التام للمرونة فى مواجهة الظروف المتغيرة، ولعلها بدورها قد أصابتها شيخوخة باتت علامة على الكثير من نشاطات حياتنا فى العقود الأخيرة، وكان هذا انعكاسا لشيخوخة أعم وأشمل، حين أصيب المجتمع كله بحالة تيبس، وأصبح "الوضع السائد" فى نظر البعض هو الوضع الممكن الوحيد، ولم يدركوا أن حركة التاريخ لا تتوقف، وأن هناك أجيالا شابة جديدة تظهر، لتطالب بحقها فى الحياة، بطريقتها ورؤيتها اللتين تختلفان بالضرورة عن جيل أصابه تصلب شرايين الإرادة والفعل.
فى الحقيقة أن مصدر مرض السينما المصرية يعود إلى طبيعة تكوينها، والتغيرات التى طرأت عليها منذ السبعينيات، حين ظهرت سياسة اقتصادية أطلقوا عليها اسم "الانفتاح"، لكنها كانت تشجع شعارا متعارفا عليه وإن لم يتم التصريح به: "إكسب وإجرِ"، فكان كل من يملك المال، أو يستطيع بشكل ما أن يجمعه، قادرا على أن يطلق على نفسه صفة "المنتج"، وهو يأتى من نشاط مالى أو اقتصادى ليست له علاقة بالسينما ليحقق هدفين فى وقت واحد: كسب ربح سريع، ووجاهة اجتماعية حين يتعامل مع النجوم والصحافة الفنية.
وهكذا اختفى صناع السينما الحقيقيون واحدا وراء الآخر، وحل محلهم من يمكن أن نطلق عليهم "العابرين"، المستعدين بأسرع ما يستطيعون أن يلموا "بضاعتهم" ويغادروا سوق السينما إذا بدت بوادر الأزمة، وليس غريبا أن يظهر مصطلح "الأزمة" فى مجال السينما منذ سنوات عديدة دون أن يبادر أحد من صناعها الجدد بمواجهتها مواجهة جادة، بل مجرد تحديد أسبابها، ببساطة لأنهم كانوا هم أنفسهم سبب هذه الأزمة!!
لعل من المفيد أن نضرب مثلا أو اثنين لصناعة سينما راسخة وطريقة تعاملها مع الأزمات، وربما ليس هناك ما هو أكثر وضوحا من السينما الأمريكية، التى عاشت وما تزال تعيش أزمات طاحنة، نتيجة ظروف اقتصادية أو سياسية، لكنها كانت تعرف كيف تتفاعل مع هذه الظروف بمرونة كبيرة، تضمن لها الاستمرار. فعندما ضرب "الكساد الكبير" الاقتصاد الأمريكى خلال الثلاثينيات تداعت كل الصناعات، وكانت المفارقة أن هذه الفترة كانت من أكثر فترات السينما الأمريكية ازدهارا!! لقد أدركت أن المتفرج فى حاجة للترفيه عنه حتى يهرب من واقعه المرير، فغازلته بأفلام غنائية راقصة، وعرفت أنه حالته المالية لا تساعده على توفير ثمن تذكرة غالية، فركزت على دور العرض المتواضعة التى تعرض فيلمين فى نفس البرنامج!! هذه السينما الأمريكية التى عاشت أيضا فى الخمسنيات تهديدا من التليفزيون الذى كان يشجع الجمهور على البقاء فى المنزل، فكان ردها هو تقديم "فرجة" فى دور العرض لا يستطيع التليفزيون تقديمها، فظهرت الأفلام الملونة بالشاشة العريضة والصوت المجسم، بل قامت بعض الشركات السينمائية بإنتاج مسلسلات سينمائية لمحطات التليفزيون أيضا.
إذا كانت "الموضة" فى السياسات الاقتصادية – كما يروج البعض – هى الرأسمالية واقتصاد السوق، فصناعة السينما المصرية فى واقعها الراهن تظل بعيدة حتى عن المفاهيم الحقيقية لهذه السياسة، وهى أقرب لعشوائية أسواق الباعة الجائلين المتنقلين، وليس إلى رسوخ الشركات التى تخطط لعشرات الأعوام القادمة. وهو ما ينعكس فى الأفلام التى عرضت منذ يناير الماضى، وهى الأفلام التى تكاد لا تعبر عن أقل بادرة من االرغبة فى تغيير واقع مؤلم. حين ظهر الممثل أحمد عز مثلا فى "365 يوم سعادة"، أو كريم عبد العزيز فى "فاصل ونعود"، بدا أنهما فى فيلم مكرر قديم، فكأنهما يعيدان دورا يعتمد فقط على صورتيهما التى يعرفهما الجمهور بهما، وليس هناك من جهد إبداعى من أى نوع، سوى "تدوير" ما سبق لهما بيعه. على النقيض أتى فيلم "شوق" ليبيع صورا "غرائبية" عن الفقراء، متجسدة فى الممثلة المغنية روبى فى دور الفتاة الفقيرة التى تسعى للخروج من فقرها بأية طريقة، والأهم هو صورة أمها فى الفيلم (سوسن بدر) التى بدت على الشاشة كأنها وحش كاسر جريح، تسعى للانتقام من الجميع بأن تعرف أسرارهم وتبتزهم بها.
هاتان الصورتان المتناقضتان: البطل "الروش" من جانب، والفقير الذى يصل إلى درجة المرض النفسى من جانب آخر، لم تكن لهما أبدا علاقة حقيقة بالواقع طوال الأعوام الأخيرة من عمر السينما المصرية، لكنهما كانتا من "البضاعة" التى تصوروها رائجة، ويمكنك أن تضيف بالطبع صورة "المضحك" المنفصل عن الواقع بإرادته، وربما تمتزج ملامح هذه الصور جميعا فى بعض الأحيان على نحو ما، فيظهر عمرو عبد الجليل مثلا فى "صرخة نملة"، أو هانى رمزى فى "سامى أكسيد الكربون"، أو محمد سعد فى "تك تك بوم"، أو حتى أحمد حلمى فى "إكس لارج"، ليشتركوا معا فى سمة غريبة واحدة: إنهم يخلطون الجد بالهزل، تراهم – كشخصيات داخل الفيلم – يعانون أزمة درامية ما، فيواجهونها بمزيد من "الإفيهات" والاستخفاف، وهى سمة أصبحت سائدة فى السينما المصرية فى الآونة الأخيرة، وقد تكون محتملة فى أحد الأعمال الفنية، لكنها بهذا الانتشار الغريب لا تؤدى إلا لحالة من الانفصال بين الفيلم والمتفرج، الذى لن يشعر أبدا بالتوحد أو حتى مجرد التعاطف مع مثل هذا :البطل" الذى تبدو ردود أفعاله على مستوى الدراما ضربا من العبث الدائم!!
فى موسم العام الماضى أيضا عاد المخرج خالد يوسف بنفس "توليفته" المتكررة عن الفقراء، فى فيلم "كف القمر"، وبرغم محاولته فى كل مرة أن يقدم ما يتصوره صورة "بانورامية" للمجتمع المصرى فى الآونة الأخيرة، فإن جوهر المفارقة عنده أن تنحصر ملامح هذه الصورة فى الميلودراما الفاقعة الفاجعة، التى تقتضى أيضا أن يجمع عشرات التوابل السينمائية فى الفيلم، وأزمة هذا النوع من المعالجة هى أنها تفتقد الرهافة والصدق معا، لتنتهى معظم أفلامه الأخيرة بصخب ليست له علاقة بالواقع. وربما ليس أدل على ذلك من الزعم بأن هذه الأفلام تحمل "نبوءة" ما، فتأتى الأحداث لتنقض هذا الزعم، فقد أنذرت أفلامه بفوضى شاملة تأتى من عالم الفقراء "الجياع"، فجاء الاحتجاج الثورى فى الواقع ممن يبحثون أولا عن الكرامة الإنسانية، بينما انضم الفقراء فى أغلبهم لتيار محافظ، يسعى لإصلاحات أغلبها مؤجلة أو ربما لن تصب فى النهاية لمصلحتهم!!
وإذا كانت السينما المصرية تقدم أحيانا أفلاما "خفيفة"، مثل "سينما على بابا"، أو "بيبو وبشير"، فإن هذا ليس شيئا سلبيا فى حد ذاته، وكل صناعات السينما تقدم هذه النوعية لمجرد التسلية خفيفة الظل التى لا تتعدى أن تكون وجبة سينمائية سريعة، لكن المشكلة أن تتحول هذه الخفة إلى التهريج بالمعنى السلبى للكلمة، فيظهر مثلا اثنان من ممثلى إعلانات إحدى القنوات الفضائية فى "شريط" يحمل عنوان "أنا باأضيع ياوديع"، أو أن ينتقل "شارع الهرم" إلى دور العرض السينمائية، فيما يشبه السينما وليس بسينما!
كان هذا الفيلم الأخير مثار ملاحظات جديرة بالانتباه من بعض المعلقين، فحين حقق نجاحا تجاريا كبيرا فى موسم عيد الفطر كان علامة على ذوق جمهور، قد يرفع شعار التقاليد والأخلاق، لكنه يسعى للفرجة على أفلام هى على العكس من ذلك تماما، وتلك الفجوة، أو الازدواجية، تعكس فى الحقيقة خللا فى حياة المصريين المعاصرين، تلك الحياة التى لا تتيح لهم احتياجاتهم الإنسانية البسيطة، العمل والمسكن والزواج، فيكتفى الناس بإصدار أحكام أخلاقية تضفى على هذا الحرمان شرعية، بينما يبحثون عن الإشباع فى صور افتراضية وسينمائية.
إن شئت الحقيقة فجوهر الخلل فى السينما والواقع معا هو خلل سياسى بالمعنى الشامل للكلمة، فالسينما عندنا شبه سينما، وليست لها علاقة وثيقة بالواقع، وعندما تتعامل مع قضايا سياسية، مثلما فعل الفيلم الوحيد الذى كان مؤهلا لذلك: "الفاجومى"، فهى تتعامل بغلظة وسطحية ومن خلال مقولات جاهزة تفتقد الصدق. من جانب آخر، فإن الواقع يبدو بدوره وهو يحلم بثورة، لكن السؤال هو هل يملك المستقبل أدوات تحقيقها بحق، أم أنها سوف تبقى جنينا فى رحم المستقبل الذى ننتظر أن يصل، ونرجو ألا يطول الانتظار.
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment