Monday, February 13, 2012

خريطة التمثيل والممثلين في السينما المصرية (3 من 4) أين اختفى فتى الشاشة الحقيقي في زمن التحولات؟

في البدايات الأولى لصناعة السينما، لم تكن شركات إنتاج الأفلام تكتب أسماء الممثلين على إعلانات الفيلم، حتى أسماء هؤلاء الذين يقومون بالأدوار الرئيسية. كان الهدف من وراء هذا التصرف الذي يبدو لنا اليوم غريبا هدفا ماليا بحتا، فقد كانت الشركات لا تريد أن يشعر الممثلون بأهميتهم في تقديم السلعة السينمائية، فيطالبوا برفع أجورهم! لكن لم يمض على ظهور أول فيلم سوى عقد واحد، حتى ارتبط الجمهور بهذه الصور الكبيرة على الشاشة البيضاء في ظلام قاعة العرض، لوجوه أصبح يألفها فيلما بعد الآخر، فأصبح بعض الممثلين والممثلات نجوما ونجمات، وأسس بعضهم شركات خاصة به لإنتاج أفلامه. لقد اتضحت الحقيقة وراء هذا الشكل الفني الجديد، الفيلم، إنه ليس السلعة في حد ذاته، بل إن النجم هو السلعة!! تبدو النجومية في السينما أحيانا كأنها نوع من السر الغامض، فلماذا يصبح بعض الممثلين متوسطي الموهبة (في أغلب الأحوال) نجوما، بينما يفشل ممثلون آخرون في تحقيق هذه النجومية؟ لكن الإجابة ببساطة هي أن المتفرج لا يدخل إلى عالم الفيلم ليقيس مواهب من صنعوها، والسينما بطبيعتها الساحرة تشكل عالما مستقلا يغرق فيه المتفرج طوال الفيلم، وهو يبحث في هذا العالم عن شيئين في وقت واحد: تشابه مع العالم الحقيقي الذي جاء منه، واختلاف محدد عن هذا العالم، وهذا الاختلاف يتجسد في أن الأماني التي لا تتحقق في الواقع تجد الفرصة لتحقيقها في الفيلم حتى لو كان ذلك وهما. باختصار: الفيلم مزيج من الواقع والحلم معا، والنجم هو تجسيد هذا المزيج الغريب. ولن ينجح النجم في ذلك إلا بمواصفات خاصة متغيرة، فليست هناك قاعدة مطلقة في هذا السياق، إذ يجب أن يكون النجم تعبيرا عن زمان ومكان محددين، أو قل تعبيرا عن مجتمع بعينه، ومواصفات النجم في عصر تختلف عن عصر آخر حتى لو كان يفصل بين العصرين سنوات قليلة. في العشرينيات والثلاثينيات مثلا كان إيرول فلين وفالنتينو ودوجلاس فيربانكس هم فتيان الشاشة في السينما الأمريكية، فقد كانت وسامتهم هي المفتاح لقلوب الجماهير التي تمنت في ظلام قاعة العرض أن تعيش بطريقتهم. لكن بعد الحرب العالمية الثانية، ووسط مناخ يتسم بالشك في الساسة والسياسيين، كان همفري بوجارت بسماته النفسية المتشائمة هو الأقرب لوجدان هذه الجماهير، بينما كان مارلون براندو وجيمس دين هم نجوم جيل الخمسينيات المتمرد، الذي رفع راية العصيان على الأفكار التقليدية الجاهزة للثقافة الأمريكية المعاصرة. حين اكتشفت صناعة السينما هذه العلاقة الوثيقة بين النجم والسياق الاجتماعي، لم تترك الأمور للصدفة، وبدأ اختيار النجوم للترويج لأفكار اجتماعية بعينها، وهذا ما نسميه أحيانا "صناعة النجم". والسؤال هنا: هل نجحت السينما المصرية في ذلك حقا، أم أن الأمر كله يمضي على نحو عشوائي؟ خرجت السينما المصرية من دهاليز المسرح، سواء الميلودرامي أو الغنائي الكوميدي، وانتقل نجوم هذا المسرح إلى الشاشة، من يوسف وهبي إلى نجيب الريحاني، لكن هؤلاء لم ينطبق عليهم مصطلح "فتى الشاشة" بحق، في الوقت الذي جاء فيه الأخوان بدر وابراهيم لاما من بلاد أمريكا اللاتينية ليصنعوا فتى شاشة يشبه فالنتينو، في أفلام تصور فتى بدويا يكتشف في النهاية أنه ابن أحد الأرستقراطيين الذي ضاع من أسرته في طفولته!! لكن عندما أصبحت السينما - بالقرب من نهاية الثلاثينيات - هي وسيلة الترفيه الأولى للطبقة الوسطى، كان من الضروري ظهور فتى شاشة يشبه على نحو ما أبناء هذه الطبقة، مثل حسين صدقي وأنور وجدي ومحسن سرحان. ولم يكن غريبا أن يعبر فيلم "العزيمة" مثلا عن أحلام هذه الطبقة في الصعود الاجتماعي، ممثلا في "محمد أفندي" الذي يجسده حسين صدقي، وأن يؤكد الفيلم أن هذا الصعود لن يأتي بالجهد وحده، ولكن برعاية الطبقة الأرستقراطية أيضا. في ذلك العصر ذاته كانت الإذاعة تمارس تأثيرا كبيرا على الجمهور، الذي يسمع هذا المطرب أو ذاك دون أن يعرف شكله إلا من خلال الصحف، فجاءت السينما لتعرض المطرب حيا بصوته وجسده، لتدخل مجموعة من هؤلاء المطربين واحدا بعد الآخر لعالم الأفلام، مثل محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الغني السيد، وأن يسفر دخولهم أيضا عن التطورات الاجتماعية، فمحمد فوزي على سبيل المثال أقرب لأبناء الطبقة الوسطى، بينما كان عبد العزيز محمود وكارم محمود أكثر قربا من أبناء الطبقة العاملة. في الخمسينيات كانت الطبقة الوسطى في طريقها إلى للصعود الاجتماعي والسياسي، لذلك كان فتى الشاشة – حتى في صورة المطرب أو المغني – منتميا لهذه الطبقة، وكان عبد الحليم حافظ وأقرانه تجسيدا لهذا الفتى، برومانسيته وصدقه الأخلاقي، بينما ظهرت سلسلة من فتيان الشاشة في تنويعات عديدة: عماد حمدي الذي يتفانى في التعامل مع قضاياه العاطفية والواقعية، وشكري سرحان بقدر من التمرد الذي ينتهي عادة بالرضا، وأحمد رمزي وحسن يوسف بما يمكن أن نسميه "شقاوة" الشباب وطيشه، بينما كان رشدي أباظة تجسيدا للرجولة وتحمل المسئولية. شهدت السبعينيات انقلابا كاملا في مفهوم فتى الشاشة، فبعد سيادة أفكار التفاعل مع الواقع بشكل إيجابي في المرحلة السابقة، والتفاؤل بهذا التفاعل، جاء وقت بيع أحلام الرفاهية والثراء مع ما يسمى سياسة الانفتاح، ليكون نموذج فتى الشاشة متجسدا في اثنين من الممثلين الذين صنعوا آنذاك عشرات الأفلام: محمود ياسين وحسين فهمي، وبرغم الاختلاف الشكلي بينهما إلا أنهما يشتركان في ملامح نفسية واحدة، فهما لا يمارسان في الفيلم عملا محددا، لكنهما مشغولان تماما بقضايا عاطفية خالصة، تدور في أجواء لا علاقة لها بالواقع الحقيقي من قريب أو بعيد، وكان ذلك بيعا صريحا من السينما لحلم وهمي لجمهورها. وعندما اصطدمت الأجيال الجديدة في العقد التالي بالواقع المرير، كان لابد أن يظهر بطل جديد، له ملامح نفسية ممزقة، وملامح جسمانية تبتعد تماما عن الصورة التقليدية، ليصبح أحمد زكي أو يحيى الفخراني نموذجا جديدا لفتى الشاشة، أو حتى عادل إمام في أفلام الثمانينات قبل أن ينتقل لمرحلة نجومية زائفة، فقد كان آنذاك يمثل "الفهلوي" الضعيف الذي يتحايل لكي يطفو وينجو من الطوفان الاجتماعي، باستخدام القواعد المشوهة لهذا المجتمع ذاته. لكن "الزلزال" السياسي على المستوى العالمي والقومي، بين الثمانينات والتسعينيات، والمستمر حتى اليوم، أدى لمتغيرات لا تعبر بحرية وتلقائية عن متغيرات اجتماعية أو اقتصادية، فأصبح نموذج فتى الشاشة يتم اختياره بشكل زائف أو سطحي في أفضل الأحوال. لقد أصبح المسرح التجاري بالغ الإسفاف هو مصدر استيراد فتيان الشاشة إلى السينما، وهكذا ظهرت مجموعة من يسمون "المضحكون الجدد"، مثل محمد هنيدي ومحمد سعد وعلاء ولي الدين، ومن المستحيل أن ينطبق على هؤلاء وأمثالهم مفهوم "النجم" بمعناه الأصيل، حيث لا يتوحد الجمهور مع أحد منهم أو يتصور نفسه مكانه، لقد أصبح فتى الشاشة نوعا من "الفرجة"، يمكن أن يقلدها المتفرج أحيانا لكنها لا تمثل له حلا ولو وهميا لمشكلاته النفسية والواقعية. من جانب آخر جاء نموذج فتى "الأكشن"، أحمد السقا وأحمد عز وكريم عبد العزيزوهاني سلامة وأشباههم مثل مصطفى شعبان ومحمد رجب، إنه الفتى الذي يتصور نفسه خفيف الظل لكنه في الحقيقة يتعامل مع الأمور الجادة بخفة، لترويج مفاهيم التماشي مع العصر والزمن والظروف بما يُطلَق عليه "تكبير الدماغ"!! وإذا كان يبدو أن هذا البطل سوف يستمر لفترة إذا لم يكن هناك في الأفق ما يدل على تغيير اجتماعي حقيقي، فإن هناك مجموعة من الممثلين الذين يصلحون للتعبير عن فتى شاشة جديد، مثل عمرو واكد وآسر ياسين ومحمد رمضان، لكن هل سوف يتم السماح لهم بذلك؟ سؤال لن تجيب عليه صناعة السينما وحدها، لكنه مرهون أيضا بظهور سياق اجتماعي وسياسي جديد، يكون أكثر التصاقا بالواقع وأصدق تعبيرا عنه، لكن هذا ما يزال جنينا في رحم المستقبل، ينتظر اللحظة المناسبة لكي يظهر إلى الوجود.

1 comment:

Ahmed Gharib said...

تسلم إيدك.. تحليل رائق وجميل.. هناك المزيد، سواء في خريطة الممثلين أنتظره؛ وهناك تلك المرحلة الغائمة الأخيرة، التي ربما تحتاج لأن نراها بشكل مختلف الآن بعد الانتفاضات الشعبية، لكن بشكل خاص أشكرك على اهتمامك بتفسير سبب ظهور أفلام الرعب، الحقيقة أني رصدت نفس الأمر على مستوى الروايات التي تهتم بمصاصي الدماء (الزومبي) وقصص رعب أخرى، ويبدو أن كتابها ( وهم ممن أصبحوا ثوارا مع بناير 2011) قد بدأوا كتابة هذا النوع قبل يناير. ربما يكون ذلك الشكل أفضل تعبير فني عن حالة المسخ التي حاصرت الناس في السنوات الأخيرة