Monday, February 13, 2012

خريطة التمثيل والممثلين في السينما المصرية (4 من 4) فتاة الشاشة التي ضاعت في زحام الفوضى

كان النجم – الرجل – هو السلعة الأولى التي تبيعها الأفلام، وليست النجمة الجميلة التي تعلو صورتها لوحات الإعلانات. قد يبدو ذلك للوهلة الأولى متناقضا، فكيف يمكن ألا تكون نجمات السينما، بكل ما يملكن من بريق وشهرة، هن السلعة الأساسية في عالم صناعة السينما؟ الإجابة ببساطة هي أن الجمهور المستهدف الأول في كل صناعات السينما في العالم هو الرجل، ومعظم صناع الأفلام من الرجال، والأغلب الأعم من القصص السينمائية تتم روايتها من وجهة نظر البطل الرجل حتى لو كانت الشخصية الرئيسية امرأة، لذلك كله كان مطلوبا من المتفرج أن يتوحد مع النجم، ويرى العالم من خلاله، وهو عندما يشعر المتفرج تجاه النجمة البطلة بالحب أو الكراهية فلأن البطل يملك المشاعر ذاتها. وبرغم أن تاريخ السينما حافل بعدد هائل من النجمات، اللائي يطلق عليهن "فتيات الشاشة"، فيمكنك أن ترى أن صورة المرأة في السينما تبدو في الأغلب "موضوعا" وليست "ذاتا"، فنادرا ما تجد الفيلم يتحدث بصوت البطلة، ويعبر عنها من داخلها، إننا ننظر إليها دائما على الشاشة "من الخارج"، ولا نتوحد أو نتعاطف معها. لكن هذه الصورة تنقسم أيضا إلى نوعين متناقضين، فالمرأة على الشاشة إما أن تكون ملاكا أو شيطانا، هكذا كانت منذ مولد السينما ويبدو أنها سوف تظل هكذا لفترة طويلة، إنها تتجسد مثلا في النجمة إنجريد بيرجمان، بوجهها البريء واستسلامها لقدرها، أو في مارلين مونرو التي يتم تصويرها كأنها مثيرة الشهوات حتى للرجال في منتصف العمر، وفي الحالتين تكون فتاة الشاشة هي موضوع الأحلام البريئة أو غير البريئة للمتفرجين من الرجال! من النادر تماما أن تظهر صورة ثالثة للمرأة، على النحو الذي بدت فيه مثلا كاترين هيبورن أو لورين باكول في السينما الأمريكية خلال الثلاثينيات والأربعينيات، مستقلة في قراراتها ومعتزة بذاتها، ومع ذلك فإنها تدور في فلك البطل الرجل، فقد ارتبطت صورة هيبورن بمشاركتها البطولة مع سبنسر تريسي، تماما كما ارتبطت باكول مع همفري بوجارت. الغريب أن السينما المصرية بدأت بهذا النموذج الذي تبدو فيه فتاة الشاشة هي الأهم، لأن المرأة كانت أسبق لدخول حلبة الإنتاج السينمائي في مصر، وخلال سنوات قليلة ظهرت أسماء مثل عزيزة أمير وبهيجة حافظ وآسيا وماري كويني وأخريات، لكن صورة المرأة آنذاك ظلت أسيرة لعالم ميلودرامي خانق، تكون فيه دائما هي الضحية إما للظلم أو حتى رغبتها في التمرد. لم تدرك السينما المصرية بالرغم من ذلك أهمية فتاة الشاشة إلا بعد فترة، لكنها اختارتها من بين "السلع" التي يرغب المتفرج في أن يراها على الشاشة، فظهر سيل من المطربات مثل ليلى مراد وأسمهان ونور الهدى وصباح وسعاد محمد، وراقصات مثل سامية جمال وهاجر حمدي. ومن المفارقات أن "الراقصة" تحية كاريوكا كانت أول فتاة شاشة من النوع الثاني، المثير للغرائز، ولأنها ممثلة موهوبة فقد نجحت بالفعل في أن تترك بصمة مهمة في هذا السياق. وسرعان ما ظهر النوع الثاني، الملائكي، متجسدا في فاتن حمامة، إنها دائما المظلومة الضعيفة التي لا تفعل شيئا سوى انتظار أن يتخذ البطل قرارا بشأنها. طوال سنوات تالية كان هذا الانقسام هو السائد في السينما المصرية بين صورتي فتاة الشاشة، وكانت هند رستم هي النموذج المتفجر للأنثى خلال الخمسينيات، بينما كانت هناك مجموعة كبيرة تمثلن الصورة الملائكية، أغلبهن من صاحبات الجمال الرائق، مثل ليلى فوزي ومريم فخر الدين وزبيدة ثروت. وربما لم تنجح ممثلة (الغريب أنها في الأصل مطربة) في أن تجسد النموذجين سوى هدى سلطان، إنها الزوجة الحنون في "الأسطى حسن"، لكنها أيضا المرأة الشاردة في "امرأة في الطريق". فجأة ومع تغيرات اجتماعية وسياسية جديدة في بداية الستينيات، حان الوقت لظهور فتاة شاشة من نوع جديد، بدت إرهاصاتها الأولى مع لبنى عبد العزيز في بعض أفلام صلاح أبو سيف، مثل "الوسادة الخالية"، لكن نموذج سعاد حسني كان مختلفا بحق، في صورة الفتاة التي تجمع بين الجرأة والحياء معا، وكانت رمزا لمرحلة تتسم بالتفاؤل في صنع مستقبل أفضل جديد. ولأن سعاد امتلكت موهبة التمثيل ولم تكن مجرد "فتاة للشاشة"، فقد تميزت بين مجموعة كبيرة ممن حاولن محاكاتها، مثل زيزي البدراوي وآمال فريد ومديحة سالم، ولعل الوحيدة التي استطاعت أن تخرج من هذا الإطار كانت نادية لطفي، التي بدأت في دور الفتاة الجميلة البرئية لتنتقل سريعا إلى أدوار أكثر تركيبا وصعوبة. ومع التغيرات الجارفة في السبعينيات، على المستوى السياسي والاقتصادي والاحتماعي، وسيادة المفاهيم الانفتاحية التي تعلي من شأن "فتى الشاشة" الذي يأتي بالمال من أي طريق، توارت فتاة الشاشة وإن لم تختفِ، وتلك كانت مرحلة ميرفت أمين ونجلاء فتحي وآثار الحكيم وليلى علوي، وهن فتيات شاشة غارقات في قصص الحب المفرطة في ميلودراميتها، والبعيدة إلى أقصى درجة عن صدق الحياة الواقعية، كعلامة على محاولة السينما المصرية الهروب بالمتفرج من هذا الواقع، ليعيش حلما زائفا مصنوعا من الأوهام. في انقلاب على هذه الصورة تأتي صورة "امرأة الشاشة" (وليست "فتاة الشاشة") في التسعينيات، لتحتل النجمات هذه المرحلة، وتدور القصص السينمائية عن بطلاتهن، اللائي يعشن مغامرات وغزوات لا تتوقف عند حدود قصص الحب الملتهبة، بل تتجاوزها إلى عالم العنف و"الأكشن"، كما يبدو في سلاسل أفلام نادية الجندي ونبيلة عبيد، التي تطورت سريعا في سباق مع الابتذال لتصبح فيفي عبده (!!) هي بطلة هذه النوعية من الأفلام. لم يكن أحد يتصور أن تصبح تلك هي فتاة الشاشة، موضوع الأحلام البريئة أو غير البرئية للمتفرج، لكن هذا كان متسقا مع مرحلة غائمة وبلا ملامح أو هدف، مرحلة "الفرجة" على الحياة وعدم اتخاذ موقف إيجابي تجاهها! لتستمر هذه الفرجة طوال العقدين الماضيين، يشهد على ذلك تواري فتاة الشاشة عن الأنظار برغم ظهور العشرات من الممثلات (وغير الممثلات أيضا!) في الدور النسائي، مثل منى زكي وحنان ترك وهلا شيحة وغادة عادل وياسمين عبد العزيز وبسمة ودنيا سمير غانم في جانب الصور الملائكية، أو علا غانم وروبي وسمية الخشاب وغادة عبد الرازق في الصورة المناقضة، وربما هناك من لا يمكنك أن تضعها هنا أو هناك مثل زينة أو بشرى. في التحليل الأخير، ليست هناك لفتاة الشاشة المعاصرة ملامح محددة، تماما كما هو الحال بالنسبة لفتى الشاشة، لأن السياق الاجتماعى والسياسي ما يزال بدوره في مرحلة غائمة، ولم يحدد موقفه بوضوح تجاه العديد من القضايا الملحة فكأنه يهرب من هذه المسئولية. ولأن السينما في جانب كبير منها انعكاس للواقع، فقد أصبح التمثيل والممثلون والممثلات بدورهم يعانون من تحديد صورة واضحة لكل الشخصيات على الشاشة، لا فرق في ذلك بين الشخصيات الثانوية أو الرئيسية، وصارت الأفلام في معظم الحالات منقطعة الصلة عن الواقع، إنها أحيانا أحلام كاذبة، وأحيانا أخرى كوابيس (لعل هذا هو السبب في ظهور أفلام رعب مصرية في الفترة الأخيرة!)، وهي في الحالتين تغرق المتفرج في طوفان من الصور، لعلك تحاول فيها أن تبحث عن ملامح للشخصيات فلا تجد، وسوف ننتظر كثيرا أو قليلا حتى يتحدد شكل السياق السياسي والاجتماعي الذي سوف تتخذه المجتمعات العربية في المستقبل.

No comments: