من دلائل عدم نضج الشعوب أن قطاعا كبيرا منها يردد
أحيانا مصطلحات وعبارات ليس لها معنى محدد، لكنها تكتسب مع رواجها بريقا خاصا، ولو
حاولت أن تجد لها معادلا أو ترجمة فى أى لغة أخرى فسوف تكتشف زيفها. من هذه
العبارات فى مجال السينما وحده هناك الكثير، مثل "أفلام البطولة
المطلقة"، أو "سينما المضحكين الجدد"، وعلى هذا النحو جاءت تلك
العبارة الخالدة التى غرقنا فى وهمها طوال عقود كاملة أن "القاهرة هى هوليوود
الشرق".
ولا أدرى لماذا "هوليوود" تحديدا التى
اخترناها لتكون طرف ذلك التشبيه، فهناك على سبيل المثال لا الحصر "مدينة
السينما" فى إيطاليا، أو "بابل الجديدة" فى ألمانيا، ولكن يبدو أن
ذلك جاء نتيجة الافتتان بنوع ما من السينما، لم نجد غيره فى فترة البدايات، نتيجة
حالة من "الاحتلال الثقافى" الناعم، الذى فرضته شركات احتكار توزيع
الأفلام. ومع ذلك، هل عرفنا حقا ما هى هوليوود، لكى نطمح إلى التشبه بها؟
فى السطور التالية أرجو من القارئ دائما أن يستمر فى المقارنة،
وأن يتساءل عند كل فقرة: "هل نحن حقا مثل هوليوود؟". فعلى حين بدأت
السينما الأمريكية فى نيويورك على الساحل الشرقى للولايات المتحدة، سرعان ما أدرك
صناع السينما أن أجواء كاليفورنيا أكثر ملاءمة للتصوير طوال العام، فى جو مشمس ذى
شتاء قصير، يشبه على الأرجح أجواء الإسكندرية التى بدأت السينما فيها عندنا،
لتنتقل عندنا إلى القاهرة فى اتجاه معاكس للملاءمة والتنوع، وليس هناك من هدف إلا
الاقتراب من عالم "البيزنيس" والتجارة.
وفى ضاحية على الساحل الغربى، أنشئت هوليوود حيث شيدت
الاستوديوهات التى تعمل بطريقة التجميع الآلى، مثل صناعة السيارات بالضبط، حيث
يوجد المئات من الكتاب والممثلين والمخرجين وكل الفنيين الآخرين، مهمتهم صنع
المئات (نعم، المئات) من الأفلام القصيرة كل أسبوع (نعم، كل أسبوع). ومن هنا نشأت
الشركات، التى كبر بعضها مع الأيام، ولم تتوقف صناعة السينما عند المحاولات
الفردية أيا كان حجمها، مثلما كان – وما يزال – الحال عندنا.
ظلت السينما عندنا أقرب إلى المقاولات منها إلى الصناعة
الراسخة، وهذا ما يتضح تماما عندما نعرف أن شركات هوليوود الكبرى سرعان ما أنشأت
"اتحادا" بينها، لكى تحتكر الصناعة سواء فى الإنتاج أو التوزيع أو
العرض. لذلك اكتسبت هوليوود صبغة مؤسسية، حتى أنها عندما واجهت انتقادا شديدا من
مختلف جماعات الضغط، بسبب ما قيل عن المضمون السلبى لأفلام هوليوود، أسرع اتحاد
المنتجين والمزعين بتأسيس ميثاق يفرض نوعا من الرقابة الذاتية، لحماية الأفلام من
الدعاوى القضائية من جانب، وتحسين صورة الصناعة من جانب آخر. وهكذا فإن
"الرقابة" فى أمريكا، وما تزال، تمارس من خلال الصناعة ذاتها، بينما
تصبح الرقابة عندنا فى يد "الدولة" أو "الحكومة" بمعنى أدق.
كانت هذه الرقابة الذاتية هى حائط الصد الأول والدائم فى
هوليوود، وأمريكا كلها، ضد أى قرار بمنع عرض الأفلام أو مصادرتها، نتيجة الطبيعة
"المؤسسية" للصناعة. وفى المقابل أنشئت مؤسسات أخرى تحمى حقوق الفنانين
والفنيين ضد ما يمكن أن تفرضه الشركات المنتجة من شروط مجحفة، لتكون هناك نقابات
لكتاب السيناريو والممثلين والمخرجين وكل الفروع الفنية الأخرى. ولم تكن هذه
النقابات أشبه بالجمعيات الخيرية كما هو الحال عندنا، إذ ينحصر تفكيرها فى
"المعاش" أو "العلاج"، وإنما لكل نقابة "عقد" محدد
لابد أن يلتزم به الجميع، ينص حتى على ساعات العمل أو الراحة أو الغداء أو
الانتقال، فهل فكرت إحدى نقاباتنا الفنية فى ذلك؟ أو إذا كان موجودا، هل تراقب الالتزام
به؟
باختصار، يدور العمل فى هوليوود – حتى بين الجبهات
المتصارعة - بشكل "جماعى" فى كل شىء، حتى أن "النجوم" بجلالة
قدرهم تضامنوا مع "الكومبارس" فى إضرابهم لتحسين شروط عملهم، بينما تبقى
محاولاتنا فردية أقرب إلى صراع أهل المهنة الواحدة أنفسهم على اغتنام فرصة للعمل
"وخلاص". كما أن هوليوود تعرف بالضبط ماذا تريد من الدولة، وماذا تريد
الدولة منها، على عكس ما نرى عندنا من مطالبات من الدولة أحيانا بالدعم والمساندة،
بينما يرفع آخرون شعار "رفع يد الدولة عن صناعة السينما". وفى الوقت
ذاته، فإن هوليوود تسرع على الفور لخدمة القضايا الوطنية الأمريكية عندما تشعر
بالمسئولية فى مد يد المساعدة، كما حدث فى تحولها المذهل فى بدايات الحرب العالمية
الثانية من مساندة موقف أمريكا بعدم التدخل فى الحرب، بصنع أفلام تدعو إلى السلام،
إلى إنتاج عشرات الأفلام الحربية عندما قررت الحكومة الأمريكية الانضمام إلى
الحلفاء.
لم يطلب أحد من هوليوود ذلك، فقامت به من موقع الإحساس
بأنها "مؤسسة" وطنية، حتى لو لم تكن تابعة للدولة، بينما تجد عندنا
أفلاما فى الفترة الأخيرة تسخر – بالمعنى الحرفى للكلمة – من النضال الوطنى للشعب
المصرى بشكل عام، وتوجه قدرا أكبر من السخرية إلى حرب أكتوبر وشهدائها!! وأرجو أن
تقول لى متى فعلت هوليوود ذلك، حتى مع هزيمة أمريكا فى حرب فييتنام؟
نحن نضحك على أنفسنا عندما نردد أسطورة "هوليوود
الشرق" تلك، بينما تبقى أمامنا أولا مهام أساسية، ليس من بينها مثلا – كما
يردد البعض - تشجيع تصدير الأفلام المصرية، أو حمايتها من "القرصنة" (فالأفلام
الأمريكية هى الأكثر تعرضا للقرصنة فى كل أنحاء العالم)، وإنما يجب علينا أولا،
صناعا للأفلام ودولة، أن نعمل بشكل مؤسسى، ونتخلى عن نزعة فردية، انتهت بنا إلى
حال السينما المصرية الآن، التى أصبحت لا تعانى فقط من أزمة، وإنما من مرض عضال
مزمن، يبدو أنه ليس لديها له من شفاء.
No comments:
Post a Comment