Sunday, April 05, 2015

أكذوبة السينما المستقلة



جرت العادة في مصر على أن يخترع أحدهم مصطلحا ما، لا يعني في العادة شيئا دقيقا، لكن سرعان ما يجري المصطلح على الألسنة وفوق صفحات الجرائد، بل يتسلل أيضا إلى ما يمكن اعتباره كتبا متخصصة. يحدث هذا الأمر في السينما المصرية كثيرا، مثل مصطلحات "سينما الواقعية الجديدة"، و"أفلام البطولة المطلقة"،  و"السينما الخالصة"، و"المضحكون الجدد"، و"أفلام ومسلسلات السيرة الذاتية" (وخذ بالك من "الذاتية")، وأخيرا "السينما المستقلة"، التي بدت في الآونة الأخيرة اكتشافا جديدا فى السينما المصرية، مع أن هذه السينما ظلت في الأغلب الأعم من عمرها وأفلامها... مستقلة!!!
هل يتطوع أحدنا لتقديم تعريف واضح لهذه السينما؟ هل هي الأفلام قليلة التكاليف، الخالية عادة من النجوم ذوي الأجور العالية؟ لقد كانت هذه هي الأفلام التي صنعت في الثمانينات، خلال فترة ما سمي "أفلام المقاولات"، حين كان الصحفي السابق الذي اكتشف فجأة قدرته على الإخراج ناصر حسين يصنع العديد من الأفلام، بأقل ميزانية ممكنة، حتى أنه يعتبر من أكثر مخرجي السينما المصرية غزارة طوال تاريخها. وقد كانت أفلام المقاولات تلك تلبي أيضا شروطا أخرى من تعريف السينما المستقلة كما نعرفها اليوم، فمخرجها في العادة كان مؤلفها، كما أنها كانت تعرف يقينا أنها لن تجد بدورها فرصة كبيرة للظهور في دور العرض، فكانت تذهب مباشرة إلى سوق شرائط الفيديو المزدهر آنذاك، مثلما يحدث الآن من استهداف ما يسمى أفلام السينما المستقلة للعرض على شاشات القنوات الفضائية، دون الاضطرار إلى البحث عن العرض في سوق بالغ الضيق، تحكمه ممارسات الاحتكار.
إذن هل هي السينما التي يقوم مخرجها بإنتاجها، في مغامرة يكسر بها هذا الاحتكار؟ فماذا يمكن لك إذن أن تسمي أفلاما أنتجها محمد خان لنفسه، وكاد أن يصل إلى حافة الإفلاس، في مغامرات فنية ناضجة مثل "فارس المدينة" أو "يوم حار جدا"؟ وهو ما ينطبق أيضا على ما فعله نور الشريف مثلا مع عشرات المخرجين في أفلامهم الأولى، مثل "ضربة شمس" لخان، أو "دائرة الانتقام" لسمير سيف، ولا يختلف الأمر كثيرا مع أحمد زكي عندما أصر على إنتاج "أيام السادات"، ليحقق حلما فنيا راوده طويلا.
أم أن السينما المستقلة هي التي تتبنى شكلا وأسلوبا جديدين، يبدوان على درجة كبيرة من الاختلاف مع ما تعرفه السينما السائدة؟ إذن لماذ لم نطلق مصطلح السينما المستقلة على أفلام مثل "المستحيل" لحسين كمال، أو "زوجتي والكلب" و"الخوف" لسعيد مرزوق، و"الحاجز" لمحمد راضي، و"التلاقي" لصبحي شفيق، بل أيضا "زائر الفجر" لممدوح شكري، أو "قليل من الحب كثير من العنف" لرأفت الميهي؟
أتراها إذن السينما التي تم تصويرها بالتقنيات الرقمية الأرخص والأسهل في التعامل معها؟ لقد فعل ذلك محمد خان في "كليفتي" وخيري بشارة في "ليلة في القمر"، وهذا هو ما تفعله الآن بالفعل "كل" أفلام السينما المصرية دون استثناء، سواء في مرحلة التصوير أو ما بعدها، بدءا بالمونتاج وحتى تصحيح الألوان والمزج الصوتي. فماذا يبقى إذن للسينما المستقلة أن تتفرد به، وتعرّف نفسها من خلاله؟ للأسف سوف تكون الإجابة صادمة للبعض، ولكن ما باليد حيلة، فلتكن الصراحة هي هدفنا، لكننا سوف نؤجل الإجابة قليلا، لننظر نظرة سريعة، بل خاطفة، في تاريخ السينما المصرية، التي كانت وستظل "مستقلة"!!
منذ بدايتها الأولى كانت هذه السينما تصنع أفلاما من أجل نوع من المغامرة، على نحو ما فعلت عزيزة أمير التي كانت بطلة ما يعتبر أول أفلام السينما المصرية "ليلى"، وقامت ماري كويني فيما بعد – مع زوجها أحمد جلال – بتكوين ثنائي فني من خلال شركتهما الخاصة "استوديو جلال"، كما عرفت السينما المصرية مغامرا بالمعنى الحرفي للكلمة مع الممثل المنتج المخرج (دون خبرة سابقة) أحمد سالم. ولم يكن غريبا أن ينتج صلاح أبو سيف لنفسه فيلما ترك فيه بصمته الفنية الخاصة به (وهي النزعة الطبيعية، وليست الواقعية) في فيلم "لك يوم يا ظالم" المقتبس عن رواية إميل زولا "تيريز راكان".
وحذا حذو أبو سيف، قبله وبعده، عشرات المخرجين الذين أنتجوا أفلامهم بأنفسهم، مستقلين عن أي شركة سينمائية كبرى، وأيضا دون تكوين شركة إنتاجية كبرى، فهكذا فعل مثلا هنري بركات، ومحمود ذو الفقار، وعز الدين ذو الفقار، وحسن الإمام، لتبدو أفلام كل منهم ذات علامة فنية مميزة بهم ولهم، حين أصبحوا "مستقلين" متحررين من أي شروط تمليهم عليهم شركة إنتاجية. وهذا ما سوف يفعله يوسف شاهين في مرحلة لاحقة، كذلك رأفت الميهي، وإيناس الدغيدي، وأسامة فوزي. بل لم يكن غريبا أن يدخل إلى الساحة أيضا كتاب سيناريو، مثل جليل البنداري الذي أنتج فيلمه "الآنسة حنفي"، أو وحيد حامد منذ "اللعب مع الكبار"، مرورا بأفلام مثل "طيور الظلام" و"معالي الوزير" وأفلام عديدة أخرى.  
ولم يتوقف الأمر عند المخرجين منتجين لأفلامهم، لكن كثيرا ما كان الممثلون والممثلات يفعلون ذلك، والذين يمكن أن نذكر من بينهم حسين صدقي بأفلامه ذات الطابع الأخلاقي المحافظ، وأنور وجدي بقدرته على تقديم "توليفة" جماهيرية فريدة، ناهيك عن عشرات نعجز هنا عن حصرهم، مثل يوسف وهبي، وفريد الأطرش، ومحمد عبد الوهاب، وعبد العزيز محمود، ومحمد فوزي. ومن التجارب "المستقلة" التي تحتل مكانا مهما في تاريخ السينما المصرية تلك الأفلام التي قدمها فريد شوقي عبر رحلته الفنية الطويلة، التي احتل في بدايتها مكانة بطل "الأكشن" في "جعلوني مجرما" و"النمرود" و"رصيف نمرة 5"، (وهي جميعا والأفلام التي سيأتي ذكرها من إنتاجه)، ليقدم بعدها – في مواكبة لـ"العهد الجديد" بعد ثورة يوليو 1952 - أفلاما ذات بعد سياسي رمزي كما في "الفتوة"، أو بعد سياسي مباشر كما في "بور سعيد". وعندما تقدم به العمر، قدم أفلاما ذات طابع ميلودرامي، مثل "البؤساء" و"الموظفون في الأرض" و"شاويش نص الليل".
لن تخطئ التعرف على محاولات إنتاجية مستقلة أخرى، لنجوم أرادوا صنع صورة نجوميتهم بأنفسهم، أو تغيير هذه الصورة أحيانا، بعيدا عن تحكم شركات كبرى في أعمالهم. فعلى هذا الدرب سار – على سبيل المثال لا الحصر – كمال الشناوي، وفاتن حمامة، وعماد حمدي، ويحيى شاهين، وماجدة. لكن ربما كان الأقرب لفريد شوقي في إرادته القوية في صنع صورة نجوميته هو نور الشريف، الذي كان بطلا لـ"الأكشن" في "دائرة الانتقام"، وللميلودراما في "قطة على نار"، والرومانسية في "حبيبي دائما"، والكوميديا الاجتماعية في "آخر الرجال المحترمين". كذلك فعل محمود ياسين منذ نهاية السبعينيات، بعد أن بدأت نجوميته الخاطفة في الخفوت، لينتج لنفسه أفلاما مثل "وضاع العمر يا ولدي" و"الجلسة سرية" و"نواعم". ومن أفضل أفلام السينما المصرية طوال تاريخها تلك الأفلام "المستقلة" التي أنتجها أبطالها من الممثلين والممثلات، مثل "عودة مواطن" ليحيى الفخراني (سوف ننسب الفيلم هنا لبطله ومنتجه)، و"المرشد" لمحمود الجندي (وهو فيلم مظلوم بحق)، و"سوبر ماركت" لنجلاء فتحي، و"سمع هس" لممدوح عبد العليم.
إن هذا لا يعني أنه كانت هناك "كيانات" إنتاجية كبرى (أو صغرى) في السينما المصرية، مثل استوديو مصر، أو شركة آسيا، ورمسيس نجيب، وحلمي رفلة، أو شركات القطاع العام. لكن مرة أخرى أليس من الغريب أن يكون فيلم "درب المهابيل" للمخرج توفيق صالح، من إنتاج شركة عابرة لم تنتج سوى هذا الفيلم، تدعى "شركة أفلام النجاح"؟ وفي الحقيقة أن هذه الكيانات الإنتاجية لم تكن تمثل سطوة احتكارية على السوق إلا فى السنوات الخمس عشرة الأخيرة، حين سيطر اقتصاد الاحتكار على كل شيء، لكن لا يبقى في الذهن من هذه الكيانات، وفي سوق الإنتاج أيضا، سوى عدد محدود للغاية، مثل شركتي السبكي وإخوان العدل. والغريب أن الشركتين بدأتا بطموح فني لا ينكر، فالسبكي صنع أفلاما مثل "المشبوه" و"حب في الزنزانة" و"النمر والأنثى"، و"الرجل الثالث"، لينقلب على أعقابه بعد "اسماعيلية رايح جاي" لينتهي إلى "عوكل" و"حاحا وتفاحة". وفي مسار مشابه بدأ إخوان العدل بأفلام مثل "حرب الفراولة" و"إشارة مرور"، لينتقلوا بدورهم إلى "صعيدي في الجامعة الأمريكية" و"جاءنا البيان التالي" و"اللي بالي بالك".
إنك كثيرا ما تسمع فنانينا يصرخون بأعلى صوتهم، مطالبين "الدولة" بأن ترفع أيديها عنهم حتى ينالوا "الاستقلال"، لكنك تسمع منهم أيضا صرخات تطالب الدولة ذاتها بأن تنتج "لهم" أفلاما!! تلك المفارقة هي أحد أوجه أزمتنا الثقافية، وهي الأزمة التي قد أستطيع أن ألخصها لك في وقائع حضرتها. كان ذلك أيام أن ظهرت في السوق السينمائية المصرية شركتان قامتا بشراء معظم أفلام هذه السينما، وبدا أن هناك رغبة في احتكار هذه الأفلام، مع وعد (غامض ومؤجل كالعادة، ولم يتحقق قط) ببناء مئات دور العرض، وإنتاج عشرات الأفلام. وبينما كنت من بين الذين رأوا هذين الكيانين عشوائيين، كان رد بعض صناع الأفلام "الثوريين": كيانات عشوائية كبيرة أفضل من كيانات عشوائية صغيرة (هكذا بالنص، في برنامج في التليفزيون المصري).
وسارع هؤلاء السينمائيون إلى أصحاب هاتين الشركتين، وكل منهم يسعى للحصول على عقد لصنع فيلم له. للأسف لم يفكر معظمهم في حال السينما، أو كونها مستقلة أم لا، فالأهم بالنسبة لهم الوصول إلى حل فردي ما. وهذا الحل الفردي هو أكثر ما يميز ما يسمى "السينما المستقلة" في الآونة الأخيرة، فالمهم هو صناعة فيلم، بتمويل من منظمة أوربية ما، ولبيعه لقناة فضائية ما، دون أن يفكر صناع هذه الأفلام في تكوين اتحاد يضمهم معا، يتشاركون فيه في صنع الأفلام بعيدا عن أسلوب اقتناص فرصة "وخلاص"، ويفكرون فيه بجدية في إنشاء منافذ ونوافذ لعرض أفلامهم، حتى تكتسب جمهورا جديدا.
لم نتطرق إلى المستوى الفني لأفلام ما يسمى "السينما المستقلة"، والتي هي بتعبير أدق "سينما الحل الفردي"، لأن ذلك يتجاوز هدفنا هنا في هذه المساحة، لكننا أردنا أن نشير إلى أن الحل الفردي هو السمة الغالبة في إنتاج السينما المصرية، التي يحلو للبعض أحيانا أن يطلق عليها "هوليوود الشرق"، لكن تلك أكذوبة أخرى!!

No comments: