إن أردت أن تتعلم كيف يمكن لك أن تصنع عملا دراميا من لا شيء، وينتهي إلى لا شيء أيضا، فيمكنك أن تأخذ مسلسل "العراف" نموذجا: هاتِِ نجما كبيرا مثل عادل إمام بأي أجر يريده، وسوف تسترد ما دفعته وأكثر من المعلنين الذين سوف يتسابقون لوضع إعلاناتهم بين فقرات المسلسل، ولتأتِ بأي فكرة مستهلكة ظهرت في عشرات الأعمال السينمائية العالمية والعربية، واصنع منها حلقات طويلة تبلغ الثلاثين عددا (وهذا سوف يزيد مكسبك على أي حال)، واجعل الأحداث تمضي بلا أي منطق، ثم اخترع حبكة فرعية تضمن لك زيادة جديدة في المط والتطويل، وليس مهما أبدا أن يكون هناك منطق درامي أو واقعي يحكم الأحداث والشخصيات، فوجود نجم بحجم عادل إمام سوف ينسي الجميع قواعد الدراما وأصولها.
قد يكون غريبا أن نبدأ هذه المقالة بالحكم النقدي، بدلا من أن ننتهي إليه كما هو المتبع، لكن هذا الحكم هو الانطباع الأول والأخير الذي سوف يلازمك طوال مشاهدتك للحلقات، التي يثور فيها دائما في وجدان المتفرج بعض الأسئلة المحورية: هل هناك في المسلسل ما يشدني حقا لمتابعته؟ وهل حرص صانعوه على أولويات أي عمل درامي جماهيري، بخلق حالة من التعاطف بين المتفرج والبطل؟ وهل يوجد في الأحداث ما يدل على تصاعد درامي؟ وتلك بالضبط هي الأسئلة التي أثارها مسلسل عادل إمام في العام الماضي، الذي قد يصعب على المرء تذكر اسمه (كان اسمه "فرقة ناجي عطا الله"). لكن هذا ليس غريبا، فالتوليفة واحدة، والمؤلف هو يوسف معاطي الذي ينفذ رغبات النجم، في إعطائه أكبر مساحة للظهور بسبب أو بدون سبب، ناهيك عن فرص تقبيل كل من يقابلهن من النساء، اللائي لا تملكن مقاومته أمام جاذبيته (في هذا العمر!). كما أن المخرج هو رامي إمام، الذي لا يملك أي لمسة إخراجية مميزة، وتتسم أعماله بالفتور وقدر هائل من التقليدية، ولا نبالغ كثيرا عندما نقول إنه لم يترك بصمة واحدة في أفلامه ومسلسلاته برغم الفرص العديدة المتاحة له، بل إنه يفتقد الإحساس الكوميدي المرهف، الذي قد يخلق من المواقف العادية لمسات تلقي الضوء على مفارقات الحياة والدراما، التي تثير مزيجا من الضحكات والدموع.
إليك يا عزيزي القارئ تلخيصا للحبكة الأصلية، التي تدور حول شخصية نصاب بارع (عادل إمام)، يذكرك مثلا بالفيلم الأمريكي "امسك بي لو استطعت"، أو الفيلم المصري "العتبة الخضراء"، وهي شخصية تتيح وحدها عددا لا نهائيا من "النمر"، بقدر براعة صانعي العمل في إتقان رسم عمليات النصب المتتالية. وبالطبع هناك ضابط شرطة على وشك التقاعد دائما (هكذا الحال في عشرات الأفلام الأمريكية)، يقوم بدوره هنا حسين فهمي، ويدعى سامح سيف الدين، وكما في "البؤساء" وحتى "الهارب" يظل هذا الضابط مشغولا طوال حياته بالقبض على النصاب الذي هرب منه في الأيام الخوالي. وأخيرا لابد من صحافية (رشا مهدي)، ليست لها أي حياة خاصة أو ملامح درامية لشخصيتها، وهي بدورها باحثة عن الحقيقة في مطاردة هذا المحتال بالغ الذكاء.
وقد يكون هناك تفسير للعدد الوافر من الأفلام المصرية الأخيرة التي تناولت شخصية المحتال، مثل "سنة أولى نصب" أو "ابن القنصل"، فربما كانت انعكاسا لقيم اجتماعية مغلوطة ومقلوبة انتابت المجتمع المصري في الآونة الأخيرة، لكنها كانت أيضا تقليدا أعمى لموجة من الأفلام الأمريكية الحديثة حول هذه الشخصية، وإن اتسمت الأفلام الأمريكية بحيلة "الانقلاب الدرامي"، التي تجعل النصاب ذاته ضحية لعملية احتيال كبرى، كما هو الحال في فيلم "رجال عيدان الثقاب" (في العامية الأمريكية يعني هذا المصطلح "المحتالون"). لكن المشكلة الأهم لدى صناع ذلك النمط من الأفلام هي كيفية إثارة تعاطف المتفرج مع البطل، وهو الأمر الذي يحتاج إلى قدر هائل من براعة رسم الشخصية، وصنع تاريخ لها يبرر تحولها إلى الجريمة، وهذا ما تنجح فيه بالفعل معظم الأفلام الأمريكية. لكنك مع مسلسل عادل إمام "العراف" لن تجد لمثل هذا التعاطف سببا واحدا، بل إنك سوف تسخر من صناع العمل الذين سوف يبررون ذلك بأنه انتحل في بداية حياته شخصية محامٍ، ويقولون أيضا إنه كان محاميا ناجحا (!!)، واستقرت حياته آنذاك لولا اكتشاف أمره، مما اضطره للهرب، وأصبح انتحاله شخصية بعد أخرى مهنة اضطر إليها. لكن: ما الذي جعله يلجأ للانتحال أول مرة؟ وهل يكفي للتعاطف معه أنه عادل إمام؟!
مع هروب المحتال إلى بلاد أخرى، وانتحاله أسماءً ومهنا جديدة، تأتي الحبكة الفرعية الثانية، فقد ترك وراءه في كل بلد ابنا أو ابنة، وبالطبع يحمل كل منهم اسم أب مختلفا عن الآخر، كما أنهم لا يعرفون أباهم أصلا، وهو الآن يعاود الظهور في حياتهم الواحد بعد الآخر، أما السبب فلأنه يريد أن يترك لهم ثروته. وقد تصدق تلك الحبكة الفرعية إذا كان المقصود منها هو إضافة لمسات إنسانية هنا وهناك، حتى لو كانت مفتعلة، لكن التلفيق يطغى عليها تماما عندما يزعم صناع العمل أنهم يريدون بها رسم خريطة للمجتمع المصري المعاصر، لذلك جاء الأبناء على النحو التالي: ضابط شرطة، وسلفي يميل إلى التطرف، ومهرب صغير، وأخيرا ابنة أصبحت ضحية لقسوة زوج أمها البخيل.
سوف تظهر هذه الشخصيات جميعا وتختفي كيفما اتفق، بدءا من ضابط الشرطة الكبير الساعي إلى القبض على المحتال، ومرورا بالصحافية التي بلا ضرورة لوجودها أصلا، وحتى هؤلاء الأبناء وأمهاتهم، ولأن الشخصيات لا تتمتع بالحد الأدنى من رسم أي ملامح درامية، فقد جاء أداء الممثلين جميعا "يتمتع" بمزيج عجيب من المبالغة والسطحية، مما يؤكد مرة أخرى أن "المخرج" رامي إمام لا يفهم جزءا مهما من حرفة الإخراج، وهو فن إدارة الممثلين، خاصة وأن الرتابة والملل سيطرا على العديد من المشاهد، التي كان يصاحبها شريط صوتي من موسيقي لا تتوقف، وتنتقل فجأة (حسب الطلب) من جو إلى آخر. لكن الغريب حقا (ولعله ليس غريبا تماما) هو أداء عادل إمام بالغ التقليدية، وهنا نشير إلى أن بعض الممثلين يزدادون إتقانا للحرفة كلما كبروا في العمر، لكن بعضهم الآخر – مثل عادل إمام – يفقدون كثيرا من لياقتهم النفسية والجسمانية، الذي تكاد لا تراه هنا إلا جالسا في معظم المشاهد، يلقي سطور حواره كأنه يقرأها لأول مرة في "بروفة القراءة الأولى".
بنفس القدر من الرتابة والملل يحشر المسلسل مشاهد طويلة لقيادة السيارة مثلا، والخروج منها، والوصول إلى الباب.... إلى آخره، فيما يسمى في الدراما "الزمن الميت" الذي يجب أن يحذف في المونتاج، كذلك كانت الحلقة الأولى مثالا على ذلك الكسل الإخراجي، فهي ليست سوى قطع مونتاجي متبادل (طوال الحلقة) بين حفل شديد البذخ لبعض رجال الأعمال، وعائلة فقيرة تسكن على سفح جبل المقطم، ويضطر عائلها للسطو المسلح على بعض السيارات حتى يوفر لهم لقمة العيش. وربما يبرر لك صناع المسلسل تلك الحلقة بأنها تفسر تحول البعض إلى الجريمة، لكن ما الذي يدفعني كمتفرج أن أواصل الفرجة على شخصيات لا أعرف عنها شيئا مطلقا؟
أخيرا هناك أهم مقومات أي عمل درامي يتناول شخصية المحتال، وهو إتقان "نمر" الاحتيال ببراعة كاملة، لكن تأمل النمرة الأولى سوف يكشف لك عن مدى التلفيق: إن البطل يتقمص شخصية رئيس إدارة الأموال العامة في وزارة الداخلية، ويستأجر مبنى يضع عليه لافتة توحى بذلك، ويجند عشرات من الكومبارس ليقوموا بأدوار ضباط وجنود ومخبري الإدارة، كل ذلك تحت ستار أنه يصور فيلما، ليستدرج العديد من رجال الأعمال الكبار ويحتال عليهم قبل أن يختفي. وهنا لابد أن تسأل نفسك: هل هناك رجل بهذا المنصب يهبط فجأة على عشرات رجال الأعمال الذين لا يعرفونه، برغم تعاملهم الدائم مع الإدارة؟ وكيف لا يمكن تعقب المحتال ولديك عشرات من شركائه الكبار والصغار، الذي يمكن لأي واحد منهم أن يشي به؟ وكيف يصدق هؤلاء الكومبارس أن هناك فيلما يتم تصويره دون كاميرا واحدة، ودون تحديد لموقع تصوير في المبنى، الذي يدور العمل في كل جنباته في كل لحظة؟
لن تجد لهذه الأسئلة إجابة، ولن يشغل صناع المسلسل أنفسهم بها، فهم يعتمدون على استمرارك في"الفرجة" لأن البطل هو عادل إمام. وقد يكون "العراف" يحكي عن نصاب بارع مفترض، لكن العمل يبقى في التحليل الأخير عملية نصب غير بارعة مطلقا على المشاهدين.
No comments:
Post a Comment