Thursday, August 08, 2013

مسلسل "بدون ذكر أسماء"... محاولة الطفو في بحار الغرق


لأعمال المؤلف وحيد حامد الدرامية، السينمائية والتليفزيونية، نكهة خاصة لا يمكن أن تخطئها العين، في براعته الشديدة في رسم الشخصيات، وإدارة حوار متدفق بينها. وأيا ما كان موقفك السياسي من بعضها، حين يبدو انحيازه الصارخ لطرف دون آخر، فإنك لا تملك في أغلب الأحوال إلا أن تعترف بامتلاكه الحرفية الدرامية، فهو الذي ساهم مثلا في صنع صورة نجومية عادل إمام الجماهيرية مع مسلسل ""ابراهيم الطاير"، الذي كان علامة على مرحلة بأكملها، أصبح فيها "الفهلوي" رمزا للتفاعل مع مجتمع تسوده التناقضات، ثم حمل هذه النجومية إلى آفاق جديدة منذ فيلم "اللعب مع الكبار"، حين أصبح عادل إمام شخصية مؤثرة في مجريات السياسة آنذاك!! لكن برغم أن وحيد حامد هو مؤلف مسلسل "بدون ذكر أسماء"، فإن ما يبهرك بحق هو إخراج تامر محسن له، فهناك حالة فريدة من الواقعية الصادقة في كل التفاصيل، يندر أن تجدها في مسلسلاتنا (الرمضانية بشكل خاص)، والتي تغرق في الأغلب الأعم في عوالم "منزوعة الدسم" إن جاز التعبير، سواء دارت في أجواء العاطفة الرومانسية أو في قصور الطبقة الثرية، أو كان يغلب عليها طابع "الأكشن" المتأثر مباشرة بالسينما الأمريكية. لكنك مع مسلسل "بدون ذكر أسماء" سوف تشاهد عالما مصريا خالصا، حتى لو بدا مبالغا فيه في بعض الأحيان، أو كأنه يستعير بعضا من تقاليد الرواية الواقعية الإنجليزية، خاصة روايات تشارلز ديكنز. وتكاد خيوط الدراما في المسلسل أن يشكل كل منها قصة منفردة، تصلح أن تكون موضوعا لمسلسل منفصل، وربما كان هذا هو السبب في أن الملل لا يتسرب إليك وأنت تتابع الشخصيات العديدة، وحكاياتها بالغة الثراء، وإن كانت غارقة في مستنقع الفقر المدقع لعالم الطبقة (أو بالأحرى الطبقات) الفقيرة، التي تتراوح بين دنيا الشحاذين، والباعة المتجولين، وأبناء الفقراء الطامحين إلى أن يجدوا لأنفسهم موطئ قدم تحت شمس الحياة. وأرجو أن تلاحظ أن المسلسل يبدأ بعنوان "القاهرة 1984"، وهو ما تؤكده أيضا براعة المخرج في اختيار طابع لوني ينتمى إلى تلك الفترة، لكن هذه العنوان يثير في نفسك السؤال والإجابة معا، فواقعنا الراهن امتداد لهذا التاريخ الذي مضى عليه حوالي ثلاثة عقود، وكهول الحاضر الذين يصنعون القرارت الآن هم الشباب المحبط الحائر الذي كانوه في الماضي. سوف نتتبع بعض الخيوط الرئيسية هنا، لنقترب من تلك التفاصيل المرهفة، فهناك في البداية عائلة عم ربيع (عبد العزيز مخيون)، بائع البسبوسة على عربة على الرصيف، والذي يعيش برغم فقره بأخلاق نقية، أورثها لابنتين وابن ذكر وحيد هو عاطف (أحمد الفيشاوي)، الذي يحلم بأن يقترب من عالم نجوم كرة القدم، وتقوده الصدفة إلى التقاط صورة لبعضهم، تحقق له مكانة مفاجئة في عالم التصوير الصحفي، مما يجعله موضع مؤامرات من "الكبار"، لولا أن سيدة غامضة ذات نفوذ (شيرين رضا) تظلل عليه برعايتها. لكننا نظل أيضا مع العائلة، والأب الذي يشعر بالمرارة من جموح ابنه الذكر الوحيد، كما يعاني من تسلط السلطة عليه من جانب، مجسدة في ضابط الشرطة الذي يريد من الجميع الإذعان له، ومن جانب آخر من تزايد سطوة شيخ الجامع شفيع (أحمد حلاوة)، الذي يبث الأفكار السلفية حيث ذهب، ويبدو الجميع راضين بأحكامه. (تلك في الحقيقة ثنائية السلطة الفاسدة والتطرف الديني التي تغلب على معظم أعمال وحيد حامد). وسوف تقود سطوة الشيخ السلفي إلى زواج الابنة الكبرى نوارة (حورية فرغلي) من فني إصلاح التكييف معتمد (وليد فواز)، الذي سرعان ما يحول – تحت وطأة أفكاره الدينية المتطرفة – نضارتها إلى الذبول، وهو الأمر الذي جعل الابنة الصغرى تختار طريقا أكثر نضجا للارتباط بشريك حياتها القادم. من خط عائلة عم ربيع، يولد خط آخر مختلف تماما، فالشاب الصعلوك رجب الفرخ (محمد فراج، الذي يمثل هذا الدور اكتشافا حقيقيا له) على علاقة صداقة وثيقة بعاطف، وبرغم مظهره البائس فهو يملك أخلاقيات الرجولة النبيلة، لكن عمله الحقيقي هو أن يكون "فتوة" يحمي مجموعة من الشحاذين، التابعين للمعلمة أصيلة (فريدة سيف النصر، في ثوب مختلف تماما عن كل صورها السابقة)، ويسميها أتباعها "العجة" لضخامة جثتها، وتكاد أن تكون رمزا أكثر من كونها شخصية حقيقية، فهي تجمع بين القسوة والطيبة، حتى أنها تقرر أن تتزوج من رجب زواجا صوريا حتى يرث ممتلكاتها بعد وفاتها، وهي الممتلكات التي يأتي على قمتها أراضٍ في مناطق حيوية من المدينة. ومن بين الشحاذين – الذين نطلق عليهم أحيانا "أبناء الشوارع"، ذلك المصطلح الذي يخلو من الفهم والرحمة – نتوقف عند الفتاة مبسوطة (روبي)، في ملابسها المهلهلة ووجهها الذي لم يعرف الماء والصابون منذ شهور، وتبيع الفل في إشارات المرور، وتصادف المغنية نعناعة (صفوة) في سيارتها، وسوف تساعدها هذه على الهروب من المعلمة، ويبدو أن أمامها حياة جديدة تماما كراقصة، لكنك لا تدري إن كانت أكثر شرفا من حياتها كشحاذة. وأخيرا يأتي الخط الدرامي لمهندس شاب، هو ابن لحلاق الحمير في القرية، ويلجأ لأحد المسئولين الكبار لكي يتوسط له في إيجاد عمل، لكن الأمر ينتهي به متورطا مع المسئول في قضايا أكبر وأخطر من أحلامه، لكنها أكثر ربحا، وتلتقي كل هذه القضايا في حروب إقليمية كما هو الحال في أفغانستان ولبنان. هناك خطوط وخيوط درامية صغرى عديدة، تتناثر هنا وهناك لتقيم روابط بين هذه الخيوط التي تبدو متباعدة، لكن يجمعها جميعا (وتلك براعة الكتابة بلا جدال، ويفتقدها الكثيرون من مؤلفي الدراما التليفزيونية) وجود "تيمة رئيسية، هي الغرق في بحر الفقر، ومحاولة الطفو اليائسة البائسة، والسباحة بحثا عن بر للأمان. وبلا شك فإن وحيد حامد يملك ناصية الحوار تماما، حتى لو تناثرت فيه بين الحين والآخر بعض الأقوال الحكيمة التي يمكن أن تنسبها للمؤلف وليس الشخصية التي تتفوه بها. لكن ما يثير الإعجاب بحق هو تنفيذ المخرج تامر محسن لها، فالحوار في تمثيلياتنا يدور في الأغلب بين شخصيات تجلس على "الكنب" (الأرائك)، أو وهي سائرة في النادي مثلا، لكن في مساسل "بدون ذكر أسماء" تبدو كل الشخصيات في حركة عمل أو طقوس يومية وهي تتبادل الحوار، ولتتأمل مثلا مشهدا يذهب فيه الأب ربيع إلى الضابط، يرجوه العفو عن ابنه الطائش، بينما يقوم حلاق بحلاقة ذقن الضابط، بما يجعله أكثر استهانة بمشاعر الأب. أو لك أن تتأمل أيضا مشهدا يثور فيه الأب على ابنه، فتشعل الأم (وهي التي بلا حوار في المشهد) عودا من البخور لتبعد عنهما وساوس الشيطان. غير أن أكثر العناصر براعة في التنفيذ الإخراجي هو ذلك الحس البصري الفائق، ويكاد أن يكون سينمائيا، فبينما تغلب الديكورات على معظم أعمالنا الدرامية، يتم تصوير أغلب المشاهد في مواقع حقيقية تماما، وهناك مشاهد في شوارع وسط المدينة المزدحمة، في أسلوب تسجيلي خالص، ولابد أن هذه المشاهد اعتمدت على تلقائية الممثلين من جانب، وحيوية المصور من جانب آخر. كما أنك سوف تجد تأثرا واضحا بالتقنيات السينمائية، في أحجام "الكادرات"، وزوايا التصوير، وتغيير البؤرة داخل اللقطة الواحدة، والتكوين البصري الذي يوصل معنى دراميا، واستخدام الكاميرا المتحركة عند الحاجة إليها وليس بشكل مستمر مثل "الموضة" الأخيرة في مسلسلاتنا. وربما حلا للبعض البحث عن "أسماء" حقيقية وراء الشخصيات الدرامية، كما في رواية "الشطار" لخيري شلبي أو "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني على سبيل المثال، لكن هذا هو ما لم يرده وحيد حامد مؤلفا أو تامر محسن مخرجا، فقد صنعا لوحة دقيقة رقيقة، وإن كانت مليئة بالمرارة، للماضي الذي صنع الحاضر الذي نعيش فيه، ونخشى أن يمتد تأثيره إلى المستقبل.

No comments: