مغامرة حقيقية أن تفكر مجموعة من فناني التليفزيون (أو السينما أو المسرح) في تحويل رواية "ذات" للأديب المصري صنع الله ابراهيم، إلى عمل درامي. فهي في الأصل ليست رواية بالمعنى التقليدي، إذ يختلط فيها عالمان: عالم الشخصيات التي ابتدعها الكاتب من خياله، وعالم تسجيلي خالص مؤلف من قصاصات الأخبار الصحفية، التي تبدو كأنها متناثرة ولا تحمل علاقة بينها، وإن كان الكاتب قد اختارها بعناية فائقة. وهذا العالمان يجمعهما نسيج واحد برغم تناقضهما الظاهر، بأسلوب يبدو هو ذاته يحمل مفارقة خفية، إذ يحكي صنع الله ابراهيم عن الشخصيات بما يشبه الموضوعية المتأملة المحايدة والباردة، ومع ذلك فإنه ينثر سخرياته منها هنا وهناك، في نوع من التعليق المستتر على مسار حياتها، لكنه في التحليل الأخير يترك القارئ يستخلص النتائج بنفسه.
تبدو مغامرة تحويل رواية "ذات" إلى رواية أكثر جموحا، عندما تتذكر أن مسار حياة الشخصيات الروائية ذاتها يخلو من أي آثار أو تحولات دراماتيكية، إنها تعيش حياة "عادية" تماما، لا شيء خاصا أو مميزا فيها، بل إنها تشبه حياة الآلاف أو حتى الملايين من النساء والرجال، في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية جارفة، وهنا تكمن مفارقة أكبر، فاسم الشخصية الرئيسية، وعنوان الرواية "ذات"، يتناقض مع تحول هذه الذات إلى "موضوع"، يفتقد الحد الأدنى من الفردية الإنسانية.
جاءت كاتبة السيناريو مريم نعوم إلى هذه التجربة وفي وعيها الفني هذا التحدي، وربما بدا للبعض من النقاد والجمهور أن هناك براعة في تحويل هذا النسيج "العادي" إلى دراما، وإن كان الدافع الأساسي لإعجابهم يأتي من نوع من الحنين إلى الماضي الخاص بهم، وليس الخاص بالعمل الدرامي ذاته، الذي افتقد الرؤية الموضوعية لصنع الله ابراهيم وأسلوبه الساخر معا، وكان مصدر الجانب السلبي للمسلسل مرجعه هو "اختيار" أحداث بعينها، والقفز على أحداث أخرى، بما يوحي برؤية مسبقة جاهزة لدى صناع العمل، تتعمد أن تترك لدى المتفرج انطباعا محددا، حتى بشكل غير واعٍ، ولا تسمح له بأن يُكوّن وجهة نظره عن مسارات حياة الشخصيات، وتقاطعها مع السياق الكامل للمجتمع المصري في نصف قرن أو يزيد.
وبرغم نفي المخرجة كاملة أبو ذكري أن هناك مسحة "نسوية" في المسلسل، عزاها البعض إلى أن معظم الفنانين الذين صنعوه من النساء، فهو يحمل بالفعل تلك المسحة، بدءا من اختيار عنوان أكثر وضوحا، هو "بنت اسمها ذات"، ومرورا بالالتصاق ببطلته التي جسدت دورها نيللي كريم، في تحولات حياتها منذ الميلاد وكل التغيرات الجسمانية والعاطفية التي تشعر بها البنات، وانتهاء بالزواج والإنجاب والعمل غير المجدي والدوران في طاحونة الأعباء المنزلية التي لا تنتهي، في ظل وجود ذكور (صبيان ورجال) هم في أغلب الأحوال كائنات تفتقر إلى الحساسية.
وكان من الممكن أن ينجح المسلسسل في هذا الإطار، لكنه اختار سياقا أكثر طموحا وتحيزا في الوقت ذاته، فلم تعد ذات (البطلة) مجرد تجسيد لجانب كبير من نصف المجتمع المظلوم، لكنها أصبحت رمزا للوطن ذاته، وبالتحديد من ليلة ثورة يوليو 1952، التي اقترنت بالصدفة بميلاد البطلة، لتمضي الأحداث السياسية (في تصور صناع المسلسل) موازية لمصير هذه البطلة. وقد لا ننكر هذا الطموح الفني والسياسي، لكننا نؤكد أنه كان يجب أن يستند إلى قدر أكبر كثيرا من الاتساق الفني أولا، والموضوعية السياسية ثانيا.
فمن نقاط الضعف الرئيسية في معظم أعمالنا الدرامية (السينمائية والتليفزيونية)، الغياب الكامل لتحديد موقع "السارد" أو الراوي من الأحداث، فيمكنك أن تختار بين أن تروي على نحو يساوي بين كل الشخصيات، فتصبح عارفا بمشاعرها وأفكارها ومصائرها جميعا، أو بين أن تلتزم برؤية شخصية منها، لتجعل المتلقي يتوحد معها، عندما لا يعلم سوى ما تعلم هذه الشخصية. وكان من الممكن أن يكون هذا الاختيار الأخير (الرؤية الذاتية لذات) هو أسلوب العمل كله، خاصة أنه يمنحها منذ اللحظة الأولى "مونولوجا" من المستحيل وجوده واقعيا، فهو يصور العالم مقلوبا من وجهة نظرها بعد خروجها مباشرة من رحم أمها، مع تعليق صوتي لها وهي تشرح ما نراه على الشاشة. لكن هذا الاختيار كان يحتم أيضا استمرار وجهة النظر تلك والتعليق طوال السرد، لكنه كان يختفي حلقات طويلة، ليظهر في مشاهد نادرة متناثرة. كما أن هناك مشاهد كاملة في حلقات تالية، تشرح للمتفرج ما لا تعرفه ذات أو لم تره، مثل المشهد بين زميلتها الثورية صفية، وحبيبها عزيز، يوضح لنا أن ذات قد خدعت نفسها بأن عزيز يحبها.
تلك الحيرة الأسلوبية بين أن تحكي "من وجهة نظر" ذات أو "عنها"، لا تجد لها معادلا في الجانب السياسي من المسلسل، فهنا موقف يقيني قاطع، إذ هو يأخذ من تاريخ مصر منذ عام 1952 موقفا سلبيا تماما، يبدو في اختياراته لأحداث تتقاطع مع مصير البطلة ذات. ألا يبدو غريبا على سبيل المثال أن تكون أول شخصية نراها مع أول مشهد هي شخصية اليهودي المصري زكي شلهوب، صاحب محل البقالة، وأن يجعلنا المسلسل نبكي بعد بضع حلقات على "اضطراره" للرحيل عن مصر، مع تعليق "الله يجازي اللي كان السبب"؟ ولا يقول لك المسلسل شيئا هنا عن المؤامرات الصهيونية الإرهابية التي كانت تهدف لإثارة الرعب في نفوس اليهود المصريين حتى يرحلوا عن مصر، كما لا يعبأ المسلسل بأن يعرض لك أي شخصية يهودية تمسكت بمصريتها، وقررت عدم الرحيل.
وقبل أن تحتار طويلا في معرفة "السبب" لتلك الهجرة، تأمل اختيار الأحداث السياسية والتعليق عليها، فالمسلسل يأتي لك بلقطات عن لحظة إعلان عبد االناصر تأميم قناة السويس، مما أدى للعدوان الثلاثي. والمسلسل لا يقول لك أبدا السياق الذي كان التأميم جزءا منه (رفض البنك الدولي لإقراض مصر لبناء السد العالي)، كما أنه يقول إن القناة كانت ستعود من تلقاء نفسها بعد اثني عشر عاما مع انتهاء العقد مع الشركة الأجنبية لقناة السويس، ويكتفي بمشاهد الدمار الذي أحدثه العدوان الثلاثي، دون كلمة أو لقطة واحدة عن مقاومة المصريين، أو عن النصر السياسي الذي تحقق بانسحاب قوات العدوان دون أن تحقق هدفها، فالنتيجة الوحيدة لهذه الحرب كما يراها المسلسل هي رحيل اليهود عن مصر.
هذا الاختيار لأحداث بعينها، وإهمال أحداث أخرى أو السياق الكامل لها، ينسحب على كل مسلسل "ذات"، ليعكس رؤية جاهزة ومنحازة ضد مصر يوليو 1952، فلا حديث مثلا عن مجانية التعليم (ربما لم تكن ذات وقريناتها تملكن فرصة التعلم لولاها)، أو عن القرارات الاشتراكية، لكن هناك تأكيدا على "هزيمة" 1967 الساحقة، التي جاءت بدورها دون سياق، بينما يوجد تجاهل تام لإعادة بناء الجيش المصري، وخوض حروب الاستنزاف التي كلفت العدو الصهيوني خسائر فادحة.
دعني أؤكد يا عزيزي القارئ أنني لم أكن أريد أن ينزلق مسلسل "ذات" إلى تلك الرؤية السلبية، التي أراها أيضا تعكس عيبا أصيلا في سرده. إنك عندما تحكي مثلا عن الطفلة ذات، كان يمكنك أن تصور عالمها الطفولي، ورؤيتها واكتشافها له، فهل يتذكر الأطفال الأحداث السياسية الكبرى فقط، أم أن هناك على سبيل المثال ذكرى ألعاب الطفولة، وأول يوم في دخول المدرسة، والصداقات التي تولد فيها، وأول مرة تذهب فيها إلى السينما، وعشقها لمجلات الأطفال؟ لذلك فإن كل ما يتبقى ليس إلا تقليدا باهتا لرؤية سلبية مسبقة، فحتى أبناء الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى كانت لهم مباهجهم التي تتناسب مع أعمارهم، أما تجارب البطلة ذات فليست إلا سلسلة من المآسي الصغيرة، تبدأ مع رحيل العائلة اليهودية، وتمر مع الختان الذي يقترن سياقه هنا مع "تورط" مصر في ثورة اليمن، ناهيك عن قصص الحب المجهضة، والتي عاشتها ذات من طرفها فقط، حتى زواجها من عبد المجيد (باسم سمرة)، الذي يبدو عاديا إلى درجة الابتذال، حتى أنها يغتصبها في ليلة الزفاف، التي تقترن هنا مع خوض مصر لحرب أكتوبر مع إسرائيل!!
هل خرج المتفرج بأي رؤية جعلته أكثر فهما لواقعه؟ الحقيقة أن لا وعيه ربما قد تأثر على نحو بالغ السلبية، بذلك العرض المنحاز ضد الشخصية المصرية، بل التاريخ المصري المعاصر كله، بما يجعل "ذات" مسرحا لرؤية غير موضوعية على الإطلاق، ولا يترك للمتفرج نقطة ضوء يستطيع من خلالها أن يتلمس الجوانب الإيجابية في هذا التاريخ، أو يعطيه المتفرج أملا حقيقيا في المستقبل.
No comments:
Post a Comment