عندما يجد المخرج في الممثل صورته السينمائية
السينما فن جماعي، تلك هي الحقيقة التي أصبحت عنوانا لعصر جديد من الفنون، فبعد تيار الرومانسية الذي نادى بأن الفن يجب أن يعبر عن روح فردية خالصة، أتت السينما لتشير إلى أن هناك فنونا لا يمكن إنتاجها إلا بطريقة التجميع الآلي، كأنك تصنع سيارة على سبيل المثال، فمن النادر تماما أن يقوم فرد واحد بصنع فيلمه، دون أن يلجأ لمجهودات شخص آخر أو أشخاص آخرين، فقد يضطر صانع الفيلم إلى الاستعانة بمصور أو بمونتير، لكن من المؤكد أنه سوف يكون عليه في الأغلب الاستعانة بممثلين.
وربما كانت هناك حالات استثنائية لأن يقوم شخص واحد بصنع فيلمه، وهو الأمر الذي يقتصر على الأفلام الطليعية والتجريبية، بينما أصبحت القاعدة أن تصبح عملية صنع الفيلم عملية صناعية من الألف إلى الياء، خاصة في النموذج الهوليوودي، حتى أن المخرج في بعض الحالات قد لا يعرف من سوف يقوم بمونتاج فيلمه أو لا تأتي له فرصة للقائه. ومع ذلك فإن هذه العملية الصناعية أدت في الكثير من الحالات إلى تكوين "فريق" يلتقي أفراده فيلما بعد الآخر، خاصة في حالة النجاح، وهناك في تاريخ السينما حالات عديدة من التعاون المستمر بين مخرج ومدير تصوير، أو مونتير، أو مؤلف موسيقي. لكن الحالات الأشهر على الإطلاق هي تعاون المخرج مع ممثل أو ممثلة.
لماذا يحب المخرج أن يختار ممثلا أم ممثلة بعينهما لبطولة سلسلة من أفلامه؟ هناك إجابات عديدة على السؤال، فقد يجد المخرج قدرا من الراحة في هذا التعاون، أو أنه يبحث مرة بعد أخرى عن صورة في ذهنه لبطله أو بطلته، أو أن يكون الممثل أو الممثلة هما التجسيد الكامل لرؤية المخرج الفنية. وربما كان أشهر ثنائي فني بين ممثل ومخرج هو ما صنعه المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو مع الممثل جان بيير لو، فمنذ أن كان هذا الأخير صبيا صغيرا وجد فيه المخرج صورة طفولته، ليصنع فيلمه الأول "400 ضربة" عن نشأته في ملجأ للأطفال وهروبه منه، لتعقب الفيلم سلسلة طويلة من أفلام السيرة الذاتية كان فيها الممثل ذاته هو صورة المخرج في مراحل ومواقف مختلفة من حياته.
لعل هذا هو السبب ذاته لقيام الممثل روبرت دي نيرو ببطولة العديد من أفلام مارتين سكورسيزي، بدءا من "سائق التاكسي" حتى "الرفاق الطيبون"، فجذورهما الإيطالية، وتربيتهما المشتركة في شوارع نيويورك الفقيرة في حيها الإيطالي، كانت سببا في أن يصبح الممثل هو الصورة السينمائية المجسدة للمخرج، خاصة أن دي نيرو يجيد تماما ضبط أوتاره كممثل، حتى أنه يصدر أكثر النغمات حدة دون اضطرار للمبالغة أو الضجيج، وكان في هذا امتدادا لمدرسة "استوديو الممثل" التي تخرج منها مارلون براندو، الذي قام أيضا ببطولة عدد من أفلام المخرج إيليا كازان مثل "عربة اسمها الرغبة"، و"على رصيف الميناء".
وقد يكون الرقم القياسي للتعاون بين ممثل ومخرج هو بين جون وين وجون فورد، وهو واحد وعشرون فيلما، فالمخرج فورد هو أفضل من صنع أفلام "الويسترن" في تاريخ السينما الأمريكية، ووجد في جون وين نموذجا لهذا البطل "الشجيع"، ليس فقط في بنائه الجسدي الضخم، ولكن الأهم هي تلك الملامح النفسية لرجل وحيد يواجه العالم المتوحش وحده، وحتى بعد انتصاره فإنه يمضي وحده، كأنه في مهمة أو رسالة ليس لها من نهاية، مترفعا عن كل المتع الإنسانية الصغيرة من أجل متعة لا يشعر بها غيره: إعادة النظام والقانون إلى العالم.
هناك عشرات الأمثلة في السينما العالمية لمثل هذا التعاون، مثلا بين الممثل كاري جرانت والمخرج ألفريد هيتشكوك، وجاك ليمون وبيللي وايلدر، وهمفري بوجارت وجون هيوستون. لكن أقساها كان بين الممثل الألماني كلاوس كينسكي والمخرج فيرنر هيرتزوج، فهذا الأخير يعشق الشخصيات التي تقف على حافة العالم، كما في أفلام مثل "غضب الرب" أو "فيتزكارالدو"، ووجد في كينسكي ضالته، لأنه بدوره شخصية فنية يستحوذ عليها الذهاب إلى آخر المدى، لكن صنعهما للأفلام كان عذابا أليما بالنسبة لهما معا، حتى أن هيرتزوج صنع فيلما تسجيليا عن كينسكي باسم "عفريتي المفضل"!!
وفي تاريخ السينما المصرية أيضا أمثلة عديدة على التعاون بين مخرج وممثل أو ممثلة، وكثيرا ما يحمل هذا التعاون دلالات فنية مهمة. قامت الممثلة فاتن حمامة في بداية حياتها الفنية بالعديد من بطولة أفلام لكل من حسن الإمام وعز الدين ذو الفقار، وقد تجد بعض التشابه في صورتها عند كليهما، لكن الأهم هو الاختلاف. ففي أفلام "قلوب الناس" و"الملاك الظالم" كانت فاتن تجسيدا لرؤية حسن الإمام الميلودرامية للعالم، إنها نقطة الضوء الصغيرة الوحيدة التي تكاد أن تغرق في بحر من الظلام الدامس، بينما كانت فاتن عند عز الدين في أفلام مثل "موعد مع الحياة" و"موعد مع السعادة" و"بين الأطلال" صورته عن الرومانسية الخالصة التي قد لا تجد لنفسها مكانا في عالم لا يعرف للمشاعرالرقيقة والمرهفة وزنا.
وبينما كانت فاتن عند حسن الإمام تجسيدا للبراءة، فقد تعاون على النقيض مع هند رستم ليقدم الجانب الشهواني من رؤيته للعالم، في "بنات الليل" و"الجسد"، ثم تدور الأيام لتكون بطلته الأثيرة هي سعاد حسني في "خللي بالك من زوزو" و"أميرة حبي أنا"، ليعبر بها في كهولته عن فتاة أكثر واقعية تبحث لنفسها عن مكان تحت شمس الحياة، قد تواجه العالم بقدر كبير من الحيوية والتفاؤل، لكنها تعاني من خيبة الآمال والتوقعات. وبالمثل فإن شادية قد عاشت شخصيات مختلفة مع مخرجين مختلفين، ففي تعاونها مع فطين عبد الوهاب في "الزوجة 13" و"مراتي مدير عام" و"عفريت مراتي" وجد فيها صورة كوميدية رقيقة للمرأة المصرية، بينما وجد كمال الشيخ في "اللص والكلاب" و"ميرامار" ممثلة بالمعنى الكامل للكلمة.
وقد يعبر مثل هذا التعاون عن ارتياح النجم أو النجمة للعمل مع مخرج معين، لهذا كانت كل أفلام أم كلثوم من إخراج أحمد بدرخان، وكانت كل أفلام محمد عبد الوهاب من إخراج محمد كريم، كما قام بدرخان بإخراج العديد من أفلام فريد الأطرش، ولعلك تلاحظ أنهم جميعا نجوم مطربون قد لا يجيدون التمثيل، وهم يحتاجون لمخرج يفهم ويدرك ويقدر حدود إمكاناتهم ويحسن استغلالها بأقل قدر من الجهد. على النقيض يمكنك أن ترى في أفلام السيرة الذاتية عند يوسف شاهين قسوة شديدة من المخرج على الممثل، حتى يأتي على صورته، كما فعل مع محسن محيي الدين بدءا من "اسكندرية ليه". لكن هناك حالات إيجابية من التعاون، فأفضل أفلام عادل إمام هي التي أخرجها له شريف عرفة، مثل "اللعب مع الكبار" والإرهاب والكباب"، وأعمق أفلام نور الشريف من صنع عاطف الطيب، مثل "سواق الأوتوبيس" وليلة ساخنة"، والأداء اللامع للممثل أحمد زكي يصل إلى ذروته في أفلام محمد خان مثل "موعد على العشاء" و"زوجة رجل مهم" و"أحلام هند وكاميليا".
سوف تبحث عبثا عن نماذج لهذا التعاون في السينما المصرية المعاصرة، ليس لغياب المواهب التمثيلية، وإنما لأن أغلب المخرجين الآن أصبحوا بلا رؤية متفردة للفن والعالم، فهم جزء من "سوق" سينمائية عشوائية ومرتجلة. وحتى نموذج علي عبد الخالق مع نبيلة عبيد، أو نادر جلال مع نادية الجندي، أصبح اليوم مفتقدا، ولم يعد هناك مكان لصنع الأفلام التجارية على نحو متمهل ومدروس، وهو ما يؤذن بأزمة حقيقية في "صناعة" و"تجارة" السينما المصرية، التي يغيب عنها الآن مفهوم إتقان السلعة حتى يشتريها "الزبون".... وهذا هو السبب والنتيجة معا في اختفاء ظاهرة ثنائية الممثل والمخرج في السينما المصرية.
1 comment:
أشكرك ناقدنا الكبير-أستاذ أحمد- على هذه السلسلة الجميلة عن ثنائيات السينما، وأحييك عليها، وأتمنى أن تضيف إليها المزيد فالنقد السينمائي أكثر أدوات التحليل حساسية للظواهر الثقافية التي يشهدها المجتمع، خاصة الظواهر الشعبية، وقد لاحظت أنك اهتممت بجانب صناعة الفيلم بشكل كبير، ومثير للإعجاب في رصد سمات وملامح طائفة كبيرة من الثنائيات الفنية، في مصر وفي السينمات الأمريكية والأوروبية، لكن عدم تركيزك على تأثير الجمهور على قرار صناعة الثنائيات في مصر يثير أسئلة في داخلي، ألم يصنع الجمهور أبطاله؟ وكيف يصنعهم؟ وإلى أي مدى تعد الثنائيات صناعة جماهيرية؛ خاصة ثنائيات الممثلين، حيث يمكن لثنائيات "المخرج والممثل/ة" أن تتأثر بالرؤية الفنية وبصناعة العمل أكثر من تأثرها بأفضليات الجمهور. وسؤال آخر عن "السنيد" وأذكر هنا سلسلة مقالاتك الجميلة عن اصحاب الأدوار الثانية في السينما المصرية، هل تخضع ثنائيات عبدالسلام النابلسي مع المطربين عبدالحليم وفريد الطرش لنموذج معين من توقعات الجمهور عن صورة وفاء ودعم الصديق، وصورة النجومية وانتصار الحب التي يمثلها البطل؟ هل يمكن أن نفهم حالة انعدام النكهة في السينما التجارية الحالية، الحالة التي تسمح باستبدال ممثلة مكان الأخرى دون فرق، الحالة التي تجعلنا نقول إن السينما التجارية تراجعت حتى عن مستوى ثنائيات نادر جلال ونادية الجندي.. في عدم وضوح الجمهور الحالي أمام القائمين على السينما التجارية، وضعف هؤلاء الشديد، وانقطاع الاتصال بين الطرفين، مما يضطر صناع الفيلم لعمل منتج شبيه بمنتجات المقاس الواحد "الوان سايز"؟ وهو ما يقضي على كيمياء أي ممثل وليس فقط الثنائيات
Post a Comment