كيمياء الرومانسية
تعيش الصحافة السينمائية أحيانا على الشائعات حول علاقة عاطفية بين النجم فلان والنجمة فلانة، وقد يكون هناك في تلك الأخبار بعض الصحة، لكن في الأغلب يكون مصدرها والسبب فيها هو اشتراك النجمين في فيلم حقق نجاحا كبيرا، بما يجعل المتفرجين يصدقون أن قصة الحب التي رأوها على الشاشة فيها ظل من الحقيقة. الغريب أن "كواليس" صناعة الفيلم ربما تكون قد شهدت في بعض الحالات خلافات بين النجمين، لأنهما لا يكادان أن يتفقا على شيء واحد، ناهيك عن الغيرة الفنية بينهما، لكن "صورتهما" على الشاشة توحي بتوافق عجيب، وذلك هو ما يطلقون عليه "الكيمياء" بين الممثلين!
عاشت صناعات السينما وما تزال تعيش على هذه الكيمياء، وبمجرد اكتشاف حالة منها بين ممثل وممثلة تتدفق عليهما العروض، ليكوّنا معا ثنائيا فنيا، وتاريخ السينما يحفل بتلك الثنائيات الرومانسية في مختلف الأنماط الفيلمية، وليس الأفلام العاطفية فقط. ففي النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين ظهر نمط يدعى "الفيلم نوار"، أى السينما القاتمة، كانت أجواؤه تعبر عن حالة عامة من التشاؤم بعد الحرب العالمية الثانية، ومن أحد أبطال هذا النمط كان همفري بوجارت، الذي يجسد دائما شخصية رجل في منتصف العمر، مترفع عن إقامة علاقات حميمة لأنه فقد الثقة في البشر، لكن الظروف تدفعه للتورط في الكشف عن جريمة تؤكد له صدق حدسه، غير أنه في تلك الرحلة يمر بتجربة عاطفية عاصفة، وهنا تبرز بطلتان لنوعين من الثنائيات مع بوجارت، الأولى هي إنجريد بيرجمان بملامحها البريئة ومشاعرها النبيلة، والثانية هي لورين باكول بجمالها الفاتن وغموضها الآسر، وفي الحالتين حقق الثنائي نجاحا نقديا وتجاريا كبيرا.
في تلك المرحلة ذاتها ظهر الفيلم الملحمي "ذهب مع الريح"، ليظهر ثنائي فيفيان لي وكلارك جيبل، وليعيشا قصة حب وسط بحر الحرب الأهلية متلاطمة الأمواج. وعلى النقيض يأتي ثنائي دوريس داي وروك هدسون، ليجسدا الكوميديا الرومانسية في معناها الكلاسيكي: البطل يقابل البطلة ويدركان أن هناك مشاعر حب تولد في قلبيهما، لكن سوء تفاهم تقليديا يباعد بينهما، غير أن الحب يكون من القوة بحيث ينتصر في النهاية. وفي تنويع الأفلام التاريخية، يأتي فيلم "كليوباترا" مثالا على كيمياء الرومانسية بين إليزابيث تيلور وريتشارد بيرتون.
من الثنائيات الأحدث لا يمكن للمتفرج أن ينسى مثلا قصة الحب بين كيت وينسليت وليوناردو ديكابريو في فيلم "تايتانيك"، إنه البطل الفقير ذو المشاعر الرقيقة، وهي البطلة المساقة إلى الزواج من رجل ثري على الرغم منها، لتجمع بينهما الرحلة على السفينة، وتفرقهما الكارثة التي تنجو هي وحدها منها لتظل وفية لذكراه، وتحكي للأحفاد قصة حبهما. وهناك من النجمات من توحي ملامحه بالرومانسية على الفور، ولعل الأشهر في هذا السياق ميج رايان، التي صنعت ثنائيات عديدة مع نجوم من الرجال، ذات تنويعات مختلفة، فهي مع توم هانكس في "المؤرق في سياتيل" تعيش قصة حب على البعد، حتى يجمع بينهما اللقاء على سطح بناية "إمباير ستيت" في نهاية الفيلم، وهي مع بيللي كريستال في "عندما تقابل هاري مع سالي" صديقان لا يفكران في إقامة علاقة غرامية، غير أنهما يكتشفان في النهاية أنهما مقدران لبعضهما، وهي مع نيكولاس كيدج في "مدينة الملائكة"، تجسد الطبيبة الرقيقة التي أحبها الملاك وتمنى لو كان بشرا ليعيش معها الحياة حتى لو كانت فانية، لكن تلك العلاقة الرومانسية تخبو مع راسيل كرو في فيلم "برهان الحياة"، لأنه لا توجد كيمياء بين بطل يجسد جفاف المقاتل وبطلة تتعطش لحب يرويها.
هناك ثنائيات عديدة أخرى، نذكر منها جوليا روبرتس وريتشارد جير في "امرأة جميلة"، وجولي ديلبي وإيثان هوك في "قبل الشروق" ثم "قبل الغروب"، ونيكول كيدمان وإيوان ماكريجور في "مولان روج". لكنك تستطيع أيضا أن تعثر على تنويعات غريبة على هذه الثنائيات، مثل دايان كيتون ووودي ألين في عدة أفلام كوميدية تعكس التوتر الوجودي للبطل في أفلام ألين، أو ثنائي فاي دوناواي ووارين بيتي في "بوني وكلايد"، ذلك الفيلم الذي عبّر عن تمرد الشباب في الستينيات من خلال قصة حب بين شاب وشابة خارجين على القانون، ويعيشان رحلة هروب تنتهي بموتهما، وأخيرا الثنائي الرهيب بين جودي فوستر وأنطوني هوبكنز في "صمت الحملان"، فهي البطلة المحققة الشابة وهو المجرم عالم النفس وآكل لحوم البشر!!
قد تجد في السينما المصرية معادلا لتلك الثنائيات الغريبة، فمعظم الأفلام التي تشارك فيها أحمد مظهر وسعاد حسني تظهر علاقة حادة أحيانا، أو حتى غير سوية أحيانا أخرى، مثل "ليلة الزفاف" و"غصن الزيتون" و"القاهرة 30". لكن الأغلب الأعم من ثنائيات السينما المصرية تأتي في سياق رومانسي، خاصة في الأفلام الغنائية القديمة، مثلما ظهر فريد الأطرش مع صباح في "بلبل أفندي" و"لحن حبي"، أو مع سامية جمال في "عفريتة هانم" و"آخر كدبة"، حيث البطلة الأولى أكثر براءة بينما الثانية أكثر "شقاوة". وعاشت ليلى مراد ثانئيات لا تنسى تارة مع أنور وجدي في "قلبي دليلي" أو "حبيب الروح"، وأخرى مع حسين صدقي في "شاطئ الغرام" و"الحبيب المجهول"، وتارة ثالثة مع محمد فوزي في "ورد الغرام"، الذي تظل أغنيته "شحات الغرام" تنويعا مصريا بالغ الطرافة والرقة على مشهد الشرفة من "روميو وجولييت"!
وفي الفترة الكلاسيكية من تاريخ السينما المصرية ظهرت ثنائيات عديدة، كانت فاتن حمامة عنصرا أساسيا في بعضها، فهي مع عماد حمدي في "لا أنام" و"بين الأطلال"، مع تأكيد صريح أو مستتر على صعوبة أو حتى استحالة العلاقة بينهما لفارق السن أو للقرابة المحرمة، بينما هي مع عمر الشريف تكوّن ثنائيا مثاليا منذ "صراع في الوادي" و"أيامنا الحلوة" و"صراع في الميناء" و"نهر الحب". ويأتي ثنائي شادية وكمال الشناوي أكثر مرحا وخفة ظل في "ليلة الحنة" و"في الهوا سوا"، لكنها تصنع مع صلاح ذو الفقار في مرحلة تالية ثنائيا أكثر رومانسية في "أغلى من حياتي"، يتحول إلى زواج يحفل بلحظات كوميدية بالغة السخرية في "مراتي مدير عام" و"عفريت مراتي". وتكون هدى سلطان مع فريد شوقي ثنائيا شعبيا في أفلام "الأسطى حسن" وحتى "جعلوني مجرما"، بينما ثنائي شويكار وفؤاد المهندس يحتل شاشات السينما في النصف الثاني من الستينات مع أفلام من نوعية "شنبو في المصيدة" و"أخطر رجل في العالم"! لكن الرومانسية تكتسب مذاقا خاصا مع أطرف ثنائي يمكن تصوره: زينات صدقي وعبد السلام النابلسي في "شارع الحب".
لا يمكن أن ننسى أيضا ثنائيات تكونت في عقود تالية، من بينها سعاد حسني مع أحمد زكي في "شفيقة ومتولي" و"موعد على العشاء" و"الدرجة الثالثة" و"الراعي والنساء"، أما يسرا فتشارك عادل إمام في العديد من الأفلام، منذ "الأفوكاتو" وحتى "بوبوس"، لكنها تصنع ثنائيا آخر مع أحمد زكي في "البداية" و"الراعي والنساء" و"نزوة". لكن السينما المصرية الراهنة فقدت إلى حد كبير ذلك المذاق الخاص في تكوين الثنائيات، فأحمد السقا مثلا قد صنع ثنائيا مع منى زكي في "تيمور وشفيقة" و"عن العشق والهوى" و"مافيا" و"أفريكانو"، أو مع هند صبري في "الجزيرة" و"ابراهيم الأبيض"، ومع ذلك يظل فيلمه الأكثر رومانسية مع نور في "شورت وفانلة وكاب". وتصنع نور ثنائيا مع أحمد حلمي في "مطب صناعي" و"ظرف طارئ"، لكنه يصنع ثنائيا آخر مع ياسمين عبد العزيز في "صايع بحر" و"زكي شان"، بينما هي تشارك مصطفى قمر في "حريم كريم" و"عصابة الدكتور عمر"، وتأتي سلسلة أفلام "عمر وسلمى" الثلاثة للثنائي تامر حسني ومي عز الدين، لكنها لا تترك أي أثر بعد انتهاء عرضها التجاري.
هل تعاني السينما المصرية أيضا من أزمة في "النجوم"؟ ربما الأدق أن نقول أن هؤلاء جميعا ليسوا نجوما بالمعنى الدقيق للكلمة، حتى لو صدم ذلك بعض المعجبين، فأنت تفتقد النجم إذا اختفى لفترة، أو أن النجم أو النجمة يتركان بصمتهما الخاصة على أدوراهما، لكنك لا تشعر بافتقاد من يختفي منهم (حلا شيحة أو حنان ترك مثلا، ومرور موسمين أو أكثر دون أفلام لهاني سلامة)، والأهم هو أن أيا منهم يمكن أن يقوم بدور الآخر دون فرق يذكر، فيمكنك مثلا أن تضع منى زكي أو ياسمين عبد العزيز أو أي ممثلة أخرى في موقع الطرف الآخر من الثنائي، ويبدو أن السينما المصرية الآن تفتقد حرارة الكيمياء، تلك الكيمياء التي تتوهج بها الأعمال الفنية، وبدونها يسود الفتور.
No comments:
Post a Comment