Sunday, November 11, 2012

ثنائيات سينمائية 2

رفاق وأصدقاء على الطريق
من أنجح الأنماط الفيلمية في كل أنحاء العالم تلك الأفلام التي تتحدث عن الصداقة بين أبناء الجنس الواحد، بين رجلين يشتركان معا في رحلة نجاح أو فشل، لكن الصداقة لا تفرق بينهما أبدا، أو بين امرأتين تحاولان الصمود في الحياة وسط أنوائها القاسية. تنجح هذه الأفلام لأنها تخاطب في المتفرج مشاعر عميقة من البحث عن رفاق الطريق، ليس يربطهم إلا الود الخالص بلا مصالح ضيقة أو ضعائن مزعجة، وقد يعتري علاقة الصداقة أحيانا توتر عابر، لكنه ما يلبث أن ينقشع كسحابة صيف. لكن بالإضافة إلى هذه المشاعر هناك ما يطلق عليه في السينما "الكيمياء" بين الممثلين، أي قابلية تصديق المتفرج لأن الممثلين أو الممثلتين اللذين يراهما على الشاشة تربطهما الصداقة بالفعل، ولا يعني ذلك ضرورة التشابه أو التطابق بينهما، على العكس فإن قوانين الكيمياء ذاتها تتطلب الاختلاف بين العناصر الداخلة في التفاعل، لكن الشرط الوحيد هو قدرتهما على صنع مركب جديد منهما معا. إن أردت مثالا شهيرا على ذلك فهو سلسلة أفلام "السلاح الفتاك"، من بطولة ميل جيبسون وداني جلوفر في دوري ضابطي الشرطة المتلازمين، فالأول هو الشاب الأبيض الذي لا تخلو طباعه من النزق، وربما يكون دافعه إلى ذلك الرغبة العميقة في الانتقام ممن حرموه حياة عاطفية مستقرة، لذلك يبدو أقرب لنزعة انتحارية في مواجهته للأشرار. أما الثاني فهو كهل زنجي على مشارف التقاعد، يريد فقط أن يكمل أيامه الباقية في الشرطة في سلام، لأنه رجل أسرة يحمل على كاهله عبء رعايتها. ومن هذا الثنائي تمضي سلسلة الأفلام في مغامرات عنيفة وطريفة في وقت واحد، ليظل هذان البطلان من علامات الثنائيات السينمائية عبر الأجيال. شهدت السينما العالمية هذه الثنائيات كثيرا طوال تاريخها، وفي تنويعات شديدة الاختلاف، لتعبر عن أنواع عديدة من الأفلام ومن وجهات النظر أيضا. هناك على سبيل المثال روبرت ريدفورد وبول نيومان، بطلا فيلمي "باتش كاسيدي وصندانس كيد" ثم "اللدغة"، وهما هنا نموذج للشباب المتمرد في فترات التقلبات الاجتماعية والسياسية، حتى أنهما قد يخرجان على القانون، لكن القانون الحقيقي الذي يجمعهما هو الصداقة والوفاء، في زمن لم تعد هناك لهذه القيم معنى أو حتى وجود. في تنويع آخر على هذا الثنائي ذاته قدم المخرج غريب الأطوار كوينتين تارانتينو فيلم "قصة شعبية رخيصة"، وفيه يقوم صامويل جاكسون وجون ترافولتا بدوري قاتلين مأجورين، يتم تكليفهما بمهمة التخلص من ضحايا لا تربطهم بهما صلة، وبدلا من أن يبدو هذان القاتلان في صورة تقليدية، يظهران باعتبارهما فيلسوفين يتبادلان الأفكار العميقة والاقتباسات الوقورة قبل أن يفرغا رصاصاتهما في أجساد الضحايا!! كانت تلك العبثية في تصوير هذا الثنائي سببا في أن المتفرج احتفظ بهما في ذاكرته، كما أدى هذا الدور بترافولتا إلى عودة قوية للسينما بعد فترة غير قصيرة من الأفول، وهو هنا يعكس ذكاء عمليا برضاه عن مشاركة ممثل عتيد في هذا الثنائي، لكي "يسنده" في الدخول إلى دائرة الضوء من جديد. وفي الحقيقة أن السينما الأمريكية بشكل خاص تتعامل بحرفية عالية مع الممثلين، وتكون منهم "فرقا" تحقق نجاحا في شباك التذاكر، وليس هناك وجود لتعبيرات فارغة من المعنى مثل "البطولة المطلقة" التي تنتشر في صحافتنا السينمائية، فالبطولة للعمل الفني وليس أبدا لأحد الممثلين. لذلك تجد في السينما الأمريكية ثنائيات عديدة، ففي عالم الكوميديا هناك لوريل وهاردي، وأبوت وكاستيللو، والأفلام العديدة التي قام ببطولتها جيري لويس مع دين مارتين، ولا يمكن أن ننسى بالطبع توم وجيري في عالم أفلام التحريك!! لكن هناك أيضا نجوما مشهورين لم يترددوا لحظة واحدة في الدخول إلى هذه الثنائيات السينمائية، مثل توني كيرتس وجاك ليمون في "البعض يفضلونها ساخنة"، حين اضطرا للتنكر في ثياب نسائية للحصول على فرصة عمل في فرقة موسيقية، أو جاك ليمون مع التر ماتاو في سلسلة أفلام "رجال مكشرين"، حين تقدم بهما العمر ولم يعد أمامهما – وهما الصديقان القديمان – إلا تدبير المقالب لبعضهما، كذلك مورجان فريمان وتيم روبنز في "الهرب من سجن شوشانك" الذي تقاسما فيه أياما قاسية. لعلك لاحظت أن كل الأمثلة السابقة لثنائيات من الممثلين الرجال، وفي الحقيقة أن الثنائيات النسائية قليلة في السينما العالمية والمصرية على السواء، ليس لندرة الصداقة بين النساء، وإنما لأن النجمات ترفضن في الأغلب هذا المبدأ من المشاركة. لكنك مع ذلك لن تعدم أن تجد بعض النماذج القليلة، مثل بيتي ديفيز وجوان كراوفورد في "ماذا حدث للصغيرة جين؟"، الذي لعبت فيه الأولى دور الشخصية الطاغية وكانت الثانية هي الضحية، لكن المثال الأشهر هو "ثيلما ولويز" من بطولة جينا ديفيز وسوزان ساراندون، وهو فيلم كان علامة في سينما تحاول التعبير عن رفض المرأة الأمريكية للقمع الذكوري. وعلى نفس المستوى من الندرة سوف تجد أفلاما قليلة من بطولة فاتن حمامة وشادية في بداية حياتهما الفنية، مثل "موعد مع الحياة"، أو فاتن مع ماجدة في "لحن الخلود"، أو الدورين المهمين لنجلاء فتحي وعايدة رياض في "أحلام هند وكاميليا"، أو المحاولة الكوميدية العابرة لاشتراك سهير البابلي وإسعاد يونس في "بكيزة وزغلول"، وأخيرا الأفلام من بطولة عبلة كامل، بمشاركة منى زكى تارة في "خالتي فرنسا"، أو منة شلبي تارة أخرى في "كلم ماما". تكاد الثنائيات السينمائية بين الرجال في السينما المصرية أن تنحصر في الأدوار الثانية، ولعل أهمها هي تلك الأفلام التي أخرجها نيازي مصطفى عن عالم الفتوات على الطريقة المصرية، حين كان المتفرجون ينتظرون بفارع الصبر المعركة الحاسمة الفاصلة بين البطل الطيب فريد شوقي وغريمه الشرير محمود المليجي، كما في "فتوات الحسينية" و"سواق نص الليل"، أو بين فريد شوقي وزكي رستم في "رصيف نمرة خمسة" ثم "الفتوة" (هذا الفيلم الأخير من إخراج صلاح أبو سيف). ومن تلك المرحلة الذهبية من تاريخ السينما المصرية هناك أيضا ثنائي اسماعيل يس ورياض القصبجي، حين كان هذا الأخير يقوم بدور "الشاويش" قاسي الطباع مع الجندي، لكنه سرعان ما يبدي قلبا أبيض كاللبن الحليب، أو ثنائي اسماعيل يس وعبد السلام النابلسي، حين كان الصديق يقدم للبطل حلولا تبدو براقة لكنها كثيرا ما تؤدي إلى ورطة مضحكة، وقد قام اسماعيل برد الجميل لصديقه النابلسي حين شاركه بطولة فيلم "حلاق السيدات". في ذلك الزمن لم يكن غريبا أن يتشارك أحمد رمزي مع اسماعيل ياسين في "ابن حميدو"، و"اسماعيل ياسين في الأسطول"، و"اسماعيل ياسين في دمشق"، كما كان من المعتاد أن يقوم الممثل القدير حسين رياض بأدوار ثانئية مع عبد الحليم حافظ منذ "لحن الوفاء" وحتى "شارع الحب"، وفي هذا الفيلم الأخير كان النابلسي أيضا شريكا للمطرب الشهير، مثلما كان معه في "يوم من عمري" أو "فتى أحلامي". وفي فترة الثمانينيات شهدت السينما المصرية ثنائيا طريفا آخر، بين عادل إمام وسعيد صالح، كان يعبر عن صداقة حقيقية من جانب صالح الذي ارتضى ذلك المركز الثاني، وظل كذلك حتى "زهايمر" في الفترة اللاحقة. وفي تجربة يبدو أنها لن تتكرر قام عمر الشريف بمشاركة عادل إمام في "حسن ومرقص"، وهو الفيلم الذي لم يترك أثرا كبيرا بسبب فتور السيناريو والإخراج. ربما لن تجد في السينما المصرية الحديثة صورة لهذا الثنائي بين رجلين صديقين إلا نموذجا في أفلام أحمد زكي ومحمود حميدة، مثل "الإمبراطور" أو "الرجل الثالث"، أو في تجربة عابرة بين محمد هنيدي وأشرف عبد الباقي في "صاحب صاحبه". إن تلك الندرة لا تعكس أبدا أزمة في العلاقات الحميمة الواقعية بين الأصدقاء، بل تعبر عن أزمة في الفكر السينمائي في صناعة السينما المصرية، فالنجوم (أو الذين يفترض أنهم كذلك) لا يرضون بأن يتنازلوا قيد أنملة عن الانفراد بالبطولة من أول مشهد حتى المشهد الأخير، ولولا أن الإنتاج السينمائي المصري لم يعد يتيح الكثير من الأفلام ما كان لأحمد عز مثلا أن يشارك أحمد السقا في بطولة فيلم "المصلحة"، لذلك أتى هذا الفيلم استثناء يؤكد القاعدة، ولو أن تلك القاعدة في كل صناعات السينما العالمية تؤكد أنه لا بطولة لأي من الممثلين، فالبطولة الحقيقية هي دائما للفيلم ذاته.

No comments: