يكاد "الدوبلاج" أن يكون هو التقنية الشائعة في أوربا وبقية دول العالم، فالجمهور السينمائي والتليفزيوني في معظم أنحاء العالم لا يفضل في العادة أن يقرأ الترجمة على الشريط كما يحدث في العالم العربي، بينما يشعر المتفرج العربي بالغربة الشديدة أمام طريقة "الدوبلاج"، وهو يظل مشغولا طوال الوقت عن متابعة الأحداث الدرامية بالتأكد من عدم مطابقة الكلمات المنطوقة لحركات الشفاة، وهو ما يعكس في الحقيقة حساسية خاصة لدينا تجاه اللغة، فهي ليست مجرد أصوات تتجمع في مفردات، لكنها كيان حي بكل ما تحمل كلمة الحياة من معنى، أو بكلمات أخرى فإن اللغة تصبح في أحيان كثيرة عند العربي غاية في حد ذاتها، لا وسيلة وأداة للتعبير.
وبقدر ما في ذلك من خصوصية تعكس الاعتزاز باللغة، فإن غياب تقنية "الدوبلاج" أدى إلى نوع من انغلاق الفنون الدرامية العربية على نفسها، ليس فقط في عدم تذوق الأعمال الأجنبية التي تم تنفيذها بهذه التقنية مما قلل من انتشارها، وأعاق التأثر الفني بالنواحي الإيجابية فيها، ولكنه أدى أيضا إلى عدم قدرة الفنون الدرامية العربية على الوصول إلى جمهور واسع في أنحاء العالم. وربما لم تشذ عن هذه القاعدة إلا فترة قصيرة في الثمانينات شهدت عرض ما عرف وقتها بـ"المسلسلات المكسيكية"، وإن كانت في الحقيقة تنتمي إلى دول عديدة من أمريكا اللاتينية، غير أن ظاهرة "المسلسلات التركية" التي يشهدها الجمهور العربي الآن على نطاق واسع – برغم اعتمادها على تقنية "الدوبلاج" – تجعلنا نبحث عن الأسباب وراء نجاح هذه الأعمال لدى جمهورنا.
وفي الحقيقة أن هذه الأسباب تشير إلى عوامل مهمة في صنع الدراما التليفزيونية الشعبية، وهي العوامل التي أصبحنا نفتقدها بسبب اهتمامنا بالكم دون الكيف، فمع انتشار الفضائيات العربية أصبح من المطلوب ملء ذلك "الفضاء" من وقت المتفرج بالعديد من المواد، بصرف النظر عن جودتها، ولهذا السبب – وأسباب أخرى - دخل إلى هذا المجال كل "من هب ودب"، وليس مهما أن يمتلك الموهبة أو الحرفة، وأصبحنا نرى مؤلفين وممثلين لا علاقة حقيقية لهم بهذا الفن سوى أنه وسيلة لكسب المال والشهرة، كما غاب النقد بمعناه الدقيق، وباتت الصفحات الفنية أقرب إلى العلاقات العامة، فلا تبحث بعد ذلك عن أبجديات الفن، أو الرغبة الحقيقية من الفنان في التأثير في المتفرج.
على العكس تماما تبدو المسلسلات التركية تجسيدا لهذين الشرطين المهمين: إجادة الاحتراف، والوعي بأن الهدف هو التأثير في المتفرج. وكانت الإجابة السحرية التي تحقق هذين الشرطين هي: "إعادة خلق الواقع وقد أصبح نقيا مصفى"، الواقع ليس كما هو كائن، وإنما كما يحلم المتفرج أن يكون، واضح المعالم في خيره وشره، وآلامه وآماله، ولأن الواقع قد يجعل التناقضات مشوشة معقدة في الكثير من الأحيان، فإن فضل الفن الشعبي في هذا المجال (خاصة في الميلودراما) هو أن يجعل هذه التناقضات صارخة، كالأبيض والأسود بلا رماديات أو ظلال.
ولكي يتحقق ذلك في الميلودراما (وربما في الفن بشكل عام) فلابد أن يكون للعمل الفني بعدان، كأنهما وجها العملة الواحدة: الوجه الأول هو التشابه مع الواقع، والثاني هو الذهاب بهذا الواقع إلى مستوى الحلم، وهذا ما يتحقق تماما في المسلسلات التركية المدبلجة التي شاهدناها مؤخرا على شاشات فضائياتنا، والتي سوف نلقي أولا عليها نظرة عامة قبل أن نضرب أمثلة محددة عليها.
هناك في البداية الواقع الخارجي، الذي يتجسد في الشخصيات أو الأماكن التي تدور فيها الأحداث. أرجو أن تتأمل ملامح معظم الممثلين والممثلات في هذه المسلسلات، فلن تجد فيها تلك الرغبة في مسلسلاتنا في البحث عن أي جمال صارخ، إنهم أناس يشبهوننا إلى حد كبير، عاديون في ملامحهم الخارجية، لا يستخدمون أبدا أي "ماكياج" ثقيل، كما يميل الأداء إلى أكبر قدر من البساطة والبعد عن الافتعال. أما عن الأماكن فإنها تعكس ذكاءً إنتاجيا من صناع هذه المسلسلات، فهي تجمع "توليفة" بارعة من الشقق العادية التي يسكن فيها أبناء الطبقة المتوسطة، والقصور الفاخرة، وأحيانا منازل متواضعة للفقراء، وفيها جميعا لا تشعر بتعمد "الغرابة" كما قد تشعر مع معظم ديكورات مسلسلاتنا. من جانب آخر تتفوق المسلسلات التركية في "التصوير الخارجي"، إنها بفضل الكاميرات الخفيفة وأدوات الإضاءة المحمولة تذهب بك إلى المناظر الطبيعية الساحرة، وتأخذك إلى المواقع الحديثة والتقليدية في تركيا، فكأنها تريك الجديد والقديم في "سياحة" تبدو في الخلفية كأنها غير مقصودة، وإن كانت واعية تماما.
أما عن الواقع الدرامي، فالأغلب الأعم من هذه المسلسلات تدور في عالم من القضايا الإجتماعية (والسياسية أحيانا)، لكن عرض القضية لا يتم أبدا على نحو تقريري أو مباشر، وليست هناك خطب أو مواعظ، لكن القضية تتجسد من خلال شخصيات درامية وشبكة من العلاقات، وهي تضم الأغنياء والفقراء، والأخيار والأشرار، ودائما هناك أجيال تمتد من الأجداد إلى الأحفاد، ليستطيع المتفرج من خلال هذه التنويعة من الشخصيات أن يجد من يتوحد ويتعاطف معه. وكما في كل الميلودرامات الجماهيرية يتم في النهاية التأكيد على أن الخير سوف ينتصر على الشر، وأن المستقبل للقيم الأخلاقية والتقدمية، وهذه الروح المتفائلة بعد الأحداث الميلودرامية العاصفة هي الأقرب دائما لقلب المتفرج، لأنها تقول له أنه إذا كان في الواقع ظلم فادح، فإن الفن يحمل إمكانية تحقيق نوع من "العدالة الشاعرية" التي تساعد الإنسان على الاستمرار في النضال مع الحياة.
أخيرا يأتي المستوى التقني، وسوف أشير في البداية إلى الجهد الأصيل والناجح في "دوبلاج" هذه المسلسلات، وأرجو أن تلاحظ مثلا اختيار أصوات الممثلين والممثلات من العالم العربي، فهي توحي بأنها أصيلة تماما، كما أن اختيار أن تكون لهجة الحوار بالعامية أضفى مصداقية على ما تراه على الشاشة. وفي الحقيقة أن ذلك "الدوبلاج" لم يكن ينجح لولا أن صناع المسلسل انتبهوا إلى استخدام أسلوب مونتاجي شديد الذكاء، يحقق عدة نتائج من خلال تقنية واحدة: ألا تستمر اللقطة أكثر من خمس ثوان. إنها تقنية تضفي حيوية فائقة على إيقاع الأحداث كأنك تشاهد فيلما سينمائيا، ولتقارن ذلك باللقطات الحوارية في بعض مسلسلاتنا التي تمتد عدة دقائق دون أي قطع، أو بأسلوب القطع الممل بين من يلقون سطور حوارهم! من جانب آخر فإن هذا القطع السريع لا يعطي المتفرج الفرصة لإدراك عدم التزامن بين نطق الكلمات وحركة الشفاة، وذلك ذكاء فني يجب الالتفات إليه واستيعابه.
أستطيع أن أضرب لك العديد من الأمثلة من المسلسلات التركية التي سبق لك مشاهدتها، لكني على يقين من أنك تستطيع الآن أن تدرك مواطن القوة فيها. هناك على سبيل المثال لا الحصر مسلسل "نور"، هل لاحظت مثلا أن البطلة التي يحمل المسلسل اسمها ليست فائقة الجمال؟ أو ذلك الجو الرومانسي الذي يشيع في عالم من تشابك العلاقات داخل عائلة كبيرة تجمع في صراعاتها بين العديد من المستويات: الخير والشر، والحب والكراهية، والقديم والجديد؟ وهذه المستويات تجدها أيضا في "الحلم الضائع"، ففي مركز العمل تكمن علاقات الحب بين الطبقات والأجيال، وأحلام الشباب في الحياة المعاصرة برغم القيود التي تكبله، وهو حلم "أوروبي" على نحو ما وإن لم يتخل عن الروح الشرقية الخاصة. وأخيرا في "صرخة حجر" تلك البراعة في مزج الميلودراما بالقضية السياسية الفلسطينية (هل يوجد مسلسل مصري واحد حاول أن يتحدث بصدق عن هذه القضية التي هي قضية كل العرب؟!)، وبقدر ما تشيع في المسلسل روح الشجن العاطفي، فإن هذا الشجن يمتد إلى البعد الوطني والقومي، إذ يتشابك الظلم على الأفراد والشعوب معا.
ليست هذه محاول للتقييم أو التحليل النقدي للمسلسلات التركية المدبلجة، لكنها الرغبة في الإجابة عن التساؤل حول أسباب نجاحها لدى جمهورنا، وقدر أكبر من الرغبة في أن تستفيد أعمالنا الدرامية من هذا النجاح، بدلا من ذلك التقوقع المريض على الذات، والتصور الوهمي بأننا نصنع فنا، بينما الحقيقة أننا "نعيد تدوير" أفكارنا وأساليبنا، لنبقى "محلك سر"، وربما نعود أيضا إلى الوراء، لأننا لا نتعلم من تجارب الآخرين، ونظل دائما نبدأ تجاربنا من نقطة الصفر!
متشور فى يونيو 2010
4 comments:
أحييك على هذا المقال، وخاصة فكرة إعادة إنتاج الواقع بعد تصفيته، والعدالة الشاعرية، وتأثير سرعة قطع اللقطات على الإيقاع وعلى تقبل عدم تطابق الصوت المدبلج مع حركة الشفاه.
موضوع الدوبلاج يرتبط أيضا بأزمتنا اللغوية، بنفس القدر التي يرتبط فيها بأزمتنا الفنية. معظم تجارب الدوبلاج السابقة، وخاصة للأعمال الكبيرة، اعتمدت على اللغة الفصحى، أو ما يسمى باللغة البيضاء، وهي فصحة مبسطة لدرجة تقترب من العامية، وربما يكون ذلك لأسباب توزيعية حتى يمكن تقبل العمل في عدة دول عربية، ودون أن يخضع التقبل لتصنيف الانتماء لبلد، فرغم ذيوع الأعمال المصرية، إلا أن هناك في كل بلد عربي من لا يتقبلها، او لا يتقبل المزيد من الناطق بلهجتها، أما الهجات السورية واللبنانية فهي غير جماهيرية في مصر مما تحرم الموزع من الانتشار.
مشكلتنا اللغوية مع الفصحى أننا لا ننطقها في حياتنا، غنها لغة صامتة، أحيانا ما أضبط نفسي عاجزاً عن النطق بها عدة جمل متتالية إن لم تكن مكتوبة أمامي، علماً بأني أجيد واحب هذه الفصحى، فما بالط بمستويات تعليمية أقل، او غير معتادة على استخدام الفصحى مكتوبة خلال ممارسة العمل. تأثير ميراث الدوبلاج بالفصحى أضاف إرثاً سلبياً لأسلوب الدوبلاج، لقد وضعنا أمام أزمتنا الثقافية مع الفصحى أنها غيرر ناطقة، وأننا غير قادرين على التعبير بها عن مشاعرنا الدقيقة والحمية.. أزمتنا أن مشاعرنا نفسها غير مضبوطة على تون وإيقاع وموسيقى ومبنى هذه اللغة.
أشكرك ثانية على تحليلك فيه كثير من الإضاءات عن جوانب من العمل الفني وتلقيه
أرى الأمر بعين مختلفة تماماً..
الدبلجة لدينا لها علاقة وثيقة بالأمية.. لا أكثر ولا أقل.. نحن نتذوق السينما الأمريكية وربما الفرانكفونية ونشاهدها بلغة بلادها ولو كانت بـsubtitile أو شريط ترجمة .. أما السادة المدبلجون في العالم العربي فهم يتعاملون مع مجتمعات أغلبها لا تقرأ وتنتقي لهم أعمالاً لا تحمل الجمهور المخملي مشقة التفكير معظمها من الفئة B بل و C.. لا تختلف في مستواها الفني عن مسلسلات مصرية متواضعة كثيرة..
وساعد ذلك الانتشار المبني على اختلاف شكل الصورة والممثلين ، مضافاً إليه الصورة المرتبطة باللكنة الشامية وتوغل الشوام في فضاء الدراما والإعلام البترودولاريين وما يرتبطان به من وجاهة اجتماعية ، ساعد الصناع الأتراك على "بخ" دراماهم وخصوصاً التاريخية منها في محاولة لغسيل سمعة تركيا في العالم العربي وهي سمعة لا يخفى سوادها على أحد ، وربما أكثر من عانى منهم - وهذه هي المفارقة - هم الشوام أنفسهم الذين عانوا من السفر برلك وسياسات "جمال باشا السفاح" أكثر ربما من معاناتنا كمصريين والتي تلخصت - فقط- في انحطاط هذا البلد وتخلفه طوال فترة الحكم العثماني بسنوات ضوئية عن العالم الغربي..
في مصر يمارس الدوبلاج بجهل غير طبيعي ، توجد قناة على النايل سات اسمها "كلاكيت" يقوم فيها بعض الناس المشتغلين بالدوبلاج باشتغالنا نحن بدبلجة فائقة الركاكة والافتعال ..
ولا يختلف الأمر بالنسبة للدوبلاج الشامي ، بل يصل الأمر إلى مستوى الكارثة الفنية حين تتم دبلجة عمل فني كوميدي.. ولأننا لا نتحدث عن منتج (أعني هنا منتج الدبلجة) فنان يعي فيمة الكوميديا وتقنياتها فمن الطبيعي أن ترى صوراً من ثقل الظل والسماجة والافتعال المقزز..
هكذا كتبت من وجهة نظري الشخصية المحدودة عن الدراما التركية :
http://foorga.blogspot.com/2012/06/blog-post.html
Post a Comment