Tuesday, May 22, 2012

المذكر والمؤنث في السينما


من النمر التي باتت وسيلة سهلة لانتزاع ضحكات مغتصبة من جمهور السينما العربية، حيلة تنكر امرأة في ثياب رجل، وإن كان من الواضح أن الأكثر إثارة للضحك هو العكس: أن يتنكر رجل في ثياب امرأة، ولم يعد الأمر مقتصرا على مجرد نمرة عابرة، بل قد يصبح ذلك هو الجزء الأساسي من الفيلم، كما في الفيلم الذي تعرضه الشاشات هذه الأيام "بنات العم"، وهو بدءا من العنوان يبدو سخرية من عنوان فيلم "ولاد العم" وإن لم تكن هناك صلة بين الموضوعين على الإطلاق، فالحكاية هنا تنطلق من خيال كان منتشرا في أفلام الفيديو خلال الثمانينيات، حين تحدث حادثة ما بلا سبب على الإطلاق، لكنها تقلب الدراما رأسا على عقب، وهي هنا عن ثلاثة بنات يتحولن بين غمضة عين وانتباهتها إلى أولاد، لكنهن تمارسن حياتهن النسوية وهن في هذا الجسد الرجولي. عبثا تحاول أن تسأل نفسك وتجد إجابة: ماذا يريد هذا الفيلم أن يقول؟ فكل ما فيه هو ضحكات مستمدة من الفرجة على رجل يتصرف تصرفات أنثوية!! وذلك بالضبط جوهر إحدى نقاط الضعف في السينما المصرية: البحث عن الأسهل حتى لو كان مبتذلا! ولعلك تذكر محاولات من أسموا أنفسهم "المضحكون الجدد"، حين جلبوا نمرهم المسرحية البدائية إلى السينما، مثل أحمد آدم في "ولا في النية"، أو محمد هنيدي في العديد من أفلامه، عندما يتنكر "البطل" (!) في ثياب امرأة، ويظل يتلوى ويتراقص متصورا أن ذلك سبب كافٍ لضحك من القلب، وإن كان علاء ولي الدين حاول اقتفاء أثر النجم الأمريكي إيدي ميرفي بأن يقوم بأداء أدوار عائلة بأكملها، من بينها الأم، في فيلمه "الناظر". قد يبدو الأمر بالنسبة للكثيرين مستهجنا كمجرد فكرة، لكني أرجو أن نتأمل كيف أن "التوظيف" هو الأهم دائما، لأنه عندئذ يتجاوز السطح ويمضي إلى أعماق غير مرئية ... لك أن تتذكر مثلا كيف أن هذه الفكرة قد استخدمت من قديم في أدبنا الشعبي العربي، ففي سيرة "علي الزيبق" يكون البطل واسع الحيلة قد وصل عند إحدى نقاط الصراع إلى موقف يكاد أن يلقى فيه مصرعه، وفجأة يظهر فارس مغوار ملثم، يحارب بكل ما يملك من قوة ومهارة، حتى إذا انقشع الغبار وخلع الفارس لثامه بان وجهه فإذا به فاطمة أم علي الزيبق!! فكأن السيرة الشعبية هنا تستخدم حيلة التنكر في هيئة الجنس الآخر لتعيد إلى الذاكرة معنى "الأم" الحامية التي تظهر وقت الملمات والشدائد. لكن الاستخدام الأوسع لهذه الحيلة الدرامية جاء مع ما يسمى "المسرحية متقنة الصنع"، والتي تقوم على سلسلة من مواقف سوء التفاهم التي تزداد تعقيدا وتشويقا، ولعل أشهر مثال على هذه المسرحيات "العمة تشارلي"، التي تحكي عن شابين عاشقين يقنعان صديقا لهما بانتحال شخصية عمتهما، واستقبال الفتاتين المحبوبتين لإقناعهما بالزواج من الشابين، وبالطبع سوف يظهر رجل عجوز من أقارب الفتاتين، يخشى الجميع من أن يكتشف الخدعة، لكنه يكون أكثر من يقع فيها حتى أنه يطلب الزواج من "العمة تشارلي"!! ظهرت اقتباسات عديدة عن هذه المسرحية في السينما الأمريكية والعالمية، كما ظهرت في السينما المصرية عدة مرات من أشهرها "سكر هانم" من أداء عبد المنعم ابراهيم. هناك العديد من تنويعات حيلة التنكر في السينما العالمية، سوف نحاول أن نتذكر معا بعضها، ففي "البعض يفضلونها ساخنة" يهرب البطلان توني كيرتس وجاك ليمون من عصابة تطاردهما، ويتنكران في ثياب نساء وينضمان لفرقة موسيقية مؤلفة من فتيات فقط، وهو فيلم يقوم على سلسلة من مواقف سوء التفاهم، ويعتمد على خفة ظل بطليه اللذين كانا شابين آنذاك، ناهيك عن قيام مارلين مونرو بالبطولة النسائية، لكن السينما المصرية تقرر اقتباسه "بالمسطرة"، ودون أي جهد إبداعي، ليقوم بالبطولة ماجد المصري وهاني رمزي، وتحل "ممثلة" تدعى أميرة فتحي مكان مارلين مونرو!! على النقيض تماما يأتي "سايكو" لهيتشكوك، حيث البطل المعقد نفسيا أنطوني بيركنز، إنه فقد أمه التي كانت كل سنده في العالم وتركته وحيدا، وهو ينتقم لنفسه بأن يقتل الشابات الصغيرات اللاتي تقمن في الفندق الصغير الذي يملكه على الطريق، وهو لا يرتكب جريمة القتل الغادرة إلا وهو يرتدي ثياب أمه!! أما في "توتسي" يبحث البطل الممثل الشاب داستين هوفمان عن فرصة عمل، فلا يجدها إلا في دور نسائي بمسلسل تليفزيوني، فيتنكر بدقة في هيئة ممثلة ويحصل على الدور ويحرز فيه نجاحا، حتى أن يصبح محاصرا فيه ولا يستطيع بسهوله منه فكاكا. وفي "مسز داوتفاير" هناك مأساة مغلفة برومانسية رقيقة، فالأب روبين ويليامز فاشل في تحقيق النجاح في العمل الذي يريده لنفسه، لذلك تحصل زوجته على الطلاق وتخطط للزواج مرة أخرى من رجل "ناجح" (إنه الهوس الأمريكي بمعنى النجاح)، فلا يجد الأب وسيلة لكي يكون قريبا من أبنائه الصغار إلا أن يتنكر في ثياب مربية عجوز تدعى "مسز داوتفاير"، ليسدي بهذه الطريقة أيضا النصيحة لزوجته حول اختياراتها. يبدو هذا الفيلم الأخير بالذات تساؤلا مريرا حول هوية "الرجولة" في المجتمع الأمريكي المعاصر، لذلك فإن وسيلة التنكر فيه تصبح مدعاة للرثاء وليس الضحك. لكنك نادرا ما تحصل على هذا العمق في فيلم مصري، فالأغلب الأعم ينتمي إلى دائرة الهزل (أو التعسف في الجدية الزائفة)، ففي "المعلم بلبل" تضطر الراقصة هاجر حمدى للتنكر في هيئة جزار قاسٍ وإن كانت لا تتوقف عن التدلل طوال الوقت، ويرقص اسماعيل ياسين في زي راقصة إسبانية مع عبد السلام النابلسي في "اسماعيل يس بوليس سري" لكي يهربا من عصابة تطاردهما، وهي النمرة التي كررها حرفيا محمد سعد وأحمد حلمي في "55 إسعاف"، وتتنكر نادية الجندي في ثياب رجل في "بونو بونو" كما يتنكر هاني رمزي في ثياب امرأة في "أبو العربي"، ويظل محمد سعد يعيد ويزيد في هذه النمرة في معظم أفلامه. سوف أتوقف معك قليلا عند بعض المحاولات الجادة وتلك التي تبدو جادة، فمن هذا النوع الأخير يمكنك أن تتذكر "حرب الفراولة"، وكيف أن البطلين محمود حميدة وسامي العدل تنكرا في هيئة نساء "بحثا عن السعادة" كما يقول الفيلم، وإن كان يمكنك أن تحذف هذا الجزء تماما لأنه يقوم على تضخيم الفكرة بطريقة تبعدها عن أية ملامح واقعية، وهو الأمر الذي ينطبق أيضا على "هستيريا"، فبرغم نسيجه الأقرب للشاعرية التي يحلو للبعض تسميتها "الواقعية السحرية" تشبها بأمريكا اللاتينية، فإن السيناريو يمضي إلى ذلك التضخيم في صورة الشقيق شريف منير، الذي يتنكر في ثياب وهيئة النساء ويخرج في الليل ليوقع في حبائله بعض الزبائن الذين يهاجمهم ويسرقهم. ولعل ذلك بعض أثر من "السادة الرجال"، وأفكار مختلطة مشوشة عن الفانتازيا، ممزوجة برؤية سوداوية لكل ما في العالم، فالبطلة معالي زايد تقرر التحول إلى عالم الرجولة، الذي يختزله الفيلم للأسف إلى ممارسات أقرب إلى الهزل منها إلى الجد، وإن كانت تؤكد أن "مفيش فايدة" من أن يكون الإنسان رجلا أو امرأة!! الفيلمان الوحيدان اللذان عالجا حيلة التنكر بذكاء حقيقي جاءا من منطلق فكرة ثورية: ليس هناك فرق جوهري بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بالقدرة على العطاء في المجتمع. أحد هذين الفيلمين هو "للرجال فقط" حيث البطلتان سعاد حسني ونادية لطفي تقرران التنكر في هيئة شابين، لتحصلا على عمل في موقع للكشف عن النفط قاصر على الرجال فقط. أما الفيلم الآخر فهو (ولا تستغرب!!) "الآنسة حنفي"، فهو يقوم في جوهره على البطل اسماعيل يس الذي يفرض أوامره ونواهيه – لمجرد أنه رجل – على البطلة ماجدة، وفجأة يصاب البطل بمغص ويكتشف الأطباء أنه لابد من إجراء عملية جراحية تحوله إلى امرأة، ليقضي بقية حياته سجينا وراء قضبان الأوامر والنواهي التي سبق له أن فرضها ... يضعك الفيلم في جوهر السؤال الذي يطرحه أي عمل فني جاد: "ماذ لو...؟"، والسؤال هنا: ماذا لو استيقظت من نومك فوجدت نفسك قد تحولت إلى امرأة؟ هل تُبقي على نفس أفكارك عن العالم؟ أم أن عليك أن تغيرها من الآن؟ ومرة أخرى نتأكد أن الحيلة الفنية ليست هي الهدف، وليست هي حكم القيمة على العمل، إنها مجرد وسيلة، قل لي كيف تستخدمها أقل لك كيف سيصبح عملك الفني.

1 comment:

Ahmed Gharib said...

شكرا يا ناقدنا الجميل.. من حلاوة الموضوع تمنيت أن تطيل وتستفيض