Thursday, May 10, 2012

السينما التسجيلية، تلك السينما المظلومة!!


بين الحين والآخر، يعود على استحياء الحديث في صحافتنا السينمائية عن السينما التسجيلية، التي تبدو شبه غائبة عن الوجود لدينا، وتتراوح إجابات البحث عن أسباب هذا الغياب من جانب إلى آخر، دون أن تتطرق أبدا لجذور المشكلة. هل السينما التسجيلية مشروع خاسر كما يقول بعض النقاد؟ على العكس تماما، فوجود قنوات تليفزيونية وفضائية متخصصة في عرض هذه الأفلام على مدار اليوم يؤكد أن للسينما التسجيلية سوقا رائجة في كل بلدان العالم. هل السبب هو اختفاء ما كنا نعرفه باسم "الجريدة السينمائية" من دور العرض؟ لا، فالحقيقة أن نشرات الأخبار التليفزيونية أصبحت تتفوق اليوم على أية جريدة سينمائية. إذن فلنلق باللوم على ذوق الجمهور المصري والعربي، الذي يقال أنه يفضل الأفلام الروائية، غير أن التجربة تثبت أن هذا الجمهور ذاته ينتظر على أحر من الجمر بعض البرامج التسجيلية التليفزيونية، مثل أفلام الرحلات أو حتى حياة الحيوانات، وهي الأفلام التي تتمتع بالتشويق في تصويرها أو التعليق عليها. أين المشكلة إذن؟! فلنبدأ من جوهر السينما، التي ورثت عن أسلافها السابقين من الفنون قدرة على تسجيل ما يدور أمام الكاميرا، وكان هذا الجانب "الفوتوغرافي" هو سبب افتتان الجمهور بالأفلام عند مولد السينما، هذا الجمهور الذي كان يتجمع في المقاهي حيث تعرض الأفلام آنذاك ليرى أفلاما قصيرة تحمل عناوين "خروج العمال من المصنع" أو "وصول القطار إلى المحطة". وسرعان ما أدركت السينما أن جزءا مهما من قوتها يكمن في أن تحمل المتفرج إلى بلاد بعيدة غريبة، وهكذا أرسل الأخوان لوميير بعثات لتصور أفلاما قصيرة من بلدان الشرق الساحرة. ومع حلول عشرينيات القرن العشرين، ظهر اتجاه قوي لصنع أفلام تسجيلية عن مناطق بعيدة في الزمان أو المكان. كانت تلك هي أفلام روبرت فلاهيرتي على نحو خاص، الذي كان مفتونا بفكرة صمود الإنسان أمام قسوة الطبيعة، ليذهب مثلا إلى القطب الشمالي حيث يصور رجال الإسكيمو في فيلمه "نانوك من الشمال"، أو يرحل إلى الشواطئ الاسكتلندية النائية ليصور "رجل من آران". الغريب في هذه الأفلام أنها لم تكن تسجيلية بالمعنى الدقيق للكلمة، فقد كان فلاهيرتي يغير من بعض الحقائق لكي يؤكد على فكرته، ففي هذا الفيلم الأخير على سبيل المثال جعل أهالي "آران" يتعلمون حرفة صيد أسماك القرش التي كانوا قد توقفوا عنها، لكي يستطيع تصوير مشهد النضال الإنساني مع الطبيعة. وإذا كانت هذه النزعة متهمة بنوع من تزييف الحقائق بما يبعدها عن كونها "تسجيلية" تماما، فهذا بالضبط هو ما جعل منها فنا، فأنت لا تضع الكاميرا فقط أمام الواقع لتحصل على فيلم تسجيلي، بل إنك تتدخل في صياغة هذا الواقع على نحو ما لكي تؤكد فيه على فكرة تتجاوز سطحه الظاهر. وتلك الحرية الإبداعية التي اكتسبتها السينما التسجيلية هي ما صنعت اتجاهات جديدة عديدة، خاصة مع ما يسمى "سيمفونيات المدن"، التي كانت تسجل الوقائع اليومية لمدينة ما، لكن إعادة تنظيم المادة المصورة في المونتاج تحول هذه الوقائع إلى إيقاع ساحر، يبدأ في الصباح الباكر وينتهي مع سكون الليل، على نحو ما صنع والتر روتمان مثلا في "سيمفونية برلين". ثم جاء الاكتشاف الأهم في تاريخ السينما التسجيلية، وهي قدرتها التي بلا حدود على بث الدعاية السياسية بطرق بالغة الرهافة، على نحو ما بدا في فيلم المخرجة الألمانية الشهيرة ليني ريفينشتال التي صنعت فيلما عن دورة برلين للألعاب الأوليمبية في عام 1936، كان يحمل اسم "أوليمبيا"، لكن الفيلم كان في القلب منه دعاية خبيثة ومتوارية لألمانيا النازية، وللفكرة العنصرية القائلة بتفوق الجنس الأوربي الأبيض!! من جانب آخر استخدمت أمريكا السينما التسجيلية خلال الحرب العالمية الثانية، لتصنع سلسلة طويلة من الأفلام التي تبرر بها دخولها الحرب إلى جانب الحلفاء. لكن التأثير الأكبر للسينما التسجيلية باعتبارها فنا جاء في أعقاب الحرب، عندما عانت إيطاليا من فقر إمكاناتها السينمائية على نحو خطير، لكن ذلك كان بمثابة دافع قوي لبدء تيار "الواقعية الجديدة"، الذي يعتمد على التصوير في الشوارع وبممثلين غير محترفين ومن خلال الإضاءة الطبيعية، وهو ما أدى لظهور مجموعة مهمة من الأفلام التي ما تزال حتى اليوم علامات في تاريخ السينما، مثل "سارقو الدراجات". وبدءا من تلك الفترة كادت الخطوط الفاصلة بين ما هو روائي وما هو تسجيلي أن تتلاشى. وحين ظهرت الأفلام التسجيلية في السينما المصرية كانت شبه قاصرة على أفلام الدعاية التجارية أو الاقتصادية، مثل صنع أفلام عن "بنك مصر"، لكن ثورة 1952 أدركت منذ وقت مبكر أهمية هذا النوع من السينما في خلق رأي عام يواكب المشروع القومي، وهو ما ظهر على سبيل المثال في عشرات ومئات الأفلام التي سجلت للمراحل المختلفة من بناء السد العالي، وكان من أشهرها السلسلة التي صنعها صلاح التهامي. كانت تلك أفلاما تقليدية بالمعنى العام للكلمة، فهي تكتفي من الحقائق بسطحها الظاهر، كما أن التعليق المصاحب يحمل دائما وجهة النظر "الرسمية"، وهو الأمر الذي دفع بعض السينمائيين الشبان آنذاك للثورة على هذا الأسلوب في صناعة الأفلام، وهي الثورة التي يمكن أن نلخصها في اتجاهين رئيسيين، الأول هو الاتجاه الواقعي بالغ الرهافة في الإمساك بعوالم الطبقات الفقيرة، كما تجلى في فيلم عطيات الأبنودي "حصان الطين" عن العاملين في صناعة الطوب، والاتجاه الثاني شاعري، يتجسد في أفلام هاشم النحاس التي تحول الواقع إلى قصيدة سينمائية، مثل فيلمه "النيل أرزاق". ظهر عشرات السينمائيين التسجيليين في هذين الاتجاهين خلال السبعينيات بشكل خاص، وكان هذا ناتجا في جوهره عن اهتمام السينمائي الرائد شادي عبد السلام بإنشاء وحدة للأفلام التسجيلية، نشأ فيها جيل كامل من شباب المخرجين. تأمل على سبيل المثال بدايات خيري بشارة آنذاك، في صنع الأفلام التسجيلية التي تركت فيه أثرا قويا حتى عندما تحول إلى صنع الأفلام الروائية، كما يبدو مثلا في فيلمه "العوامة 70" الذي يحكي عن اكتشاف جريمة في مصنع بفضل شريط تسجيلي، أو ذلك المشهد المشحون بالشجن في "آيس كريم في جليم" بينما تطوف الكاميرا في شوارع القاهرة. وهذا ما بدا أيضا في بدايات المخرج داود عبد السيد، الذي كان يستخدم السينما التسجيلية للتجريب، كما في فيلمه "وصية رجل حكيم"، حيث يتناقض تماما – عكس المألوف – شريطا الصوت والصورة!! كادت السينما التسجيلية في مصر أن تتحول في الفترة الأخيرة إلى شرائط ليس فيها من المغامرة الفنية إلا القليل، وأصبح لها "قالب" تليفزيوني ممل ينتقل بشكل عشوائي من الحوارات إلى الأغنيات (!!)، برغم أن هناك محاولات جادة شابة – وإن كانت قليلة متناثرة - لسبر أغوار الواقع المصري، كما في أفلام حنان راضي مثل "أهل الرضا" عن فقراء الشعب المصري وكفاحهم اليومي للبقاء على قيد الحياة، أو فيلم فوزي صالح "جلد حي"، الذي يستدعي إلى الذاكرة محاولات عطيات الأبنودي، عندما يذهب ليسجل وقائع حياة الأطفال في صناعة دباغة الجلود شديدة القسوة. المفارقة الساخرة والمريرة معا تكمن في أن هناك جيلا جديدا يرغب في صناعة سينما تسجيلية مصرية قوية، وأن إمكانات صنع فيلم تسجيلي أصبحت أسهل بما لا يقارن مع أي وقت مضى، مع تقدم تقنيات التصوير والمونتاج. أين المشكلة إذن؟ المشكلة في بناء صناعة السينما المصرية ذاتها، التي ما تزال قاصرة في مفهومها عن "الفيلم"، الذي ينحصر فقط عندها في الأفلام الروائية الطويلة، وهو ما يتأكد مع غياب كامل لأشكال سينمائية مثل سينما التحريك (الكارتون) على سبيل المثال. والمشكلة أيضا في سياق لا يريد كشف الحقائق، وليست فيه الحدود الدنيا لحرية تداول المعلومات، وما تزال هناك قوانين متعسفة تمنع السينمائي المصري من التصوير في أماكن عامة إلا بتصريح خاص، لذلك فإن مشكلات السينما التسجيلية في مصر لا تتعلق باعتبارات تجارية أو بذوق الجمهور، فالمشكلة أعمق وأبعد أثرا، وإن كان التطور التقني سوف يجبر هذا السياق على أن يمنح السينما التسجيلية فرصة الحياة، والتطور.

No comments: