Saturday, April 28, 2012

نجيب محفوظ قلب الثائر وعقل الصوفى (نشرت فى سبتمبر 2006)


من روايته الملحمية الفريدة "الحرافيش"، تقرأ للأديب نجيب محفوظ هاتين الفقرتين، فى الأولى: "تنساب عربة الزمن مكللة بالزهو والحياء، صلصة عجلاتها المدوية لا يسمعها أحد، الأذن لا تسمع إلا ما ترغب فى سماعه. يتوهم الفحل أنه اقترن بالدنيا قران دوام، ولكن العربة لا تتوقف، والدنيا زوج خئون". فى هذه الفقرة تتدافع الصور البلاغية وتتدفق الواحدة وراء الأخرى، لتلخص حكمة من ينظر إلى الحياة من بعيد، بالكلمات والمعانى التى يصعب – ولا نقول يستحيل – نقلها إلى صورة سينمائية، لكن فلنتأمل فقرة أخرى من نفس الرواية الملحمية: "راحت الكارو تتقدم والظلام يخف، تذوب الظلمة فى ماء وردى شفاف فتكشف عوالم فى السماوات والأرض، تنساب منها ألوان عجيبة متداخلة حتى اصطبغ الأفق بحمرة نقية متباهية، تلاشت أطرافها فى زرقة القبة السماوية الصافية، وأطل من وراء ذلك أول شعاع مغسول بالندى، وتراءى الجبل شاهقاً رزيناً، صامتاً، لا مبالياً...". إنك لا تملك وأنت تقرأ هذه الكلمات إلا أن تسأل نفسك: أى صورة سينمائية عبقرية تلك التى كتبها نجيب محفوظ، صورة تنتظر فناناً سينمائياً يضع يده على ما فيها من جمال تصويرى خالص، لا يخلو – بالإضافة إلى جانبه الحسى – من حالة وجدانية آسية، وفكرة ميتافيزيقية رفيعة؟! هذا هو نجيب محفوظ، الذى نعرف جميعاً أنه أقرب الأدباء العرب على الإطلاق فى علاقته الحميمة بالسينما، ليس فقط من حيث عدد رواياته التى تحولت إلى أفلام، وإنما أيضاً من خلال قيامه بكتابة السيناريو مباشرة للسينما لعشرات الأفلام. لقد كان نجيب محفوظ بلا شك من أغزر أدباء الكلمة والصورة إنتاجاً من ناحيتى الكم والكيف معاً، وبقدر ما عرف الأديب الكبير من "روتينية" فى حياته اليومية، وهو الذى قضى الجانب الأكبر من حياته "موظفاً حكومياً منضبطاً"، مما انعكس حتى على حياته الإبداعية والشخصية من التزام صارم فى مواعيد الكتابة أو التوقف عنها، أو حتى جلساته الدورية مع أصدقائه من "الحرافيش"، فإن ذلك فيما يبدو كان وسيلته للتحكم الواعى (والجمالى إن شئت الدقة) فى وجدانه الذى تضطرم فيه الأفكار والعواطف، بين الإنكار واليقين، أو بين اليمين واليسار، أو بين الانغماس المادى فى الحياة والترفع الصوفى عنها. إن هذا الوجدان الثرى – الجدير بفنان مبدع أصيل – يتجلى فى صور عديدة فى أعماله الأدبية، التى سارت فى "الطريق" الصاعد نحو المعرفة. بدأ طريق نجيب محفوظ الأدبى بروايات تاريخية تحاول أن تفهم الماضى من أجل فهم الحاضر، هذا الحاضر الذى وجد تجسيده الرفيع فى رويات "واقعية" مثل "الثلاثية" وغيرها من روايات اتخذت لعناوينها أماكن بعينها فى قلب "القاهرة القديمة"، فهى فى الحقيقة واقعية على طريقة بلزاك الذى كان يلجأ لما يقترب من "تسجيل" الواقع الهارب قبل أن يصبح ماضياً انقطعت الصلة به. (تأمل على سبيل المثال صورة شاعر الربابة الذى يسامر زبائن المقهى، ثم تنحدر به الأيام فينزوى حين يعتلى المذياع مكاناً عالياً ليصبح شاعر الربابة تاريخاً ذاوياً ذابلاً) . لكن نجيب محفوظ لم يتوقف أبداً عند السطح الخارجى للواقع، فهو يتأمل أيضاً "القاهرة الجديدة" ليضيف إلى "التسجيل" نوعاً من "التعليق الاجتماعى" على الفساد الذى يولد فى أحضان الديكتاتورية والفقر. كما أن أكثر رواياته اقتراباً من النزعة الواقعية تلتقط أيضاً بعض الرموز الكونية فيما يشبه النزعة الصوفية (مثل ذلك الدرويش العجوز فى "الثلاثية"، يختفى ويظهر كما هو رغم تعاقب الأجيال، هرماً لا تدرى إن كانت السنون هى التى تأكله أم أنه الذى يجتر السنين). إن هذا الامتزاج بين الروحى فى قلب المادى، والمادى فى قلب الروحى، يميز معظم أعمال نجيب محفوظ الأدبية، وهذا ما يجعلها جديرة بأن نطلق عليها أدب السينما، أو سينما الأدب. فالصورة البلاغية عنده تمد جذورها فى الواقع المادى، والواقع المادى يحمل دلالات معنوية سامقة فى روحانيتها. وفى كثير من أعمال نجيب الأدبية، تجد مستويات عديدة لقراءة العمل، فإذا كان بطل "السمان والخريف" يجد نفسه وقد تجاوزه الواقع السياسى حيث يضطر للتأمل من "على حافة العالم"، فإن بطل "الشحاذ" يعانى من نفس الأزمة، لكنهما كليهما ينظران للعالم نظرة "صوفية" لا تدرى إن كانت صوفيتها اختياراً أم اضطراراً. وهكذا فإن واقعاً سياسياً محدداً لا يطرح فقط أسئلة سياسية، لكنه يجعلك تسأل أسئلة وجودية عاصفة. ليس غريباً إذن أن تمتزج فى أعمال نجيب محفوظ عناصر تبدو للوهلة الأولى متناقضة، ففيها جميعاً تنصهر السياسة والجنس والميتافيزيقا، لا فرق فى ذلك بين "السراب" الذى ينظر إليها البعض بإعتبارها تتناول الكبت والحرمان الجنسى، أو "القاهرة الجديدة" التى تبدو للوهلة الأولى تعليقاً سياسياً لاذعاً ومريراً على فترة من الفساد السياسى فى تاريخ مصر. ولكن من الغريب – والفريد أيضاً – أن هذا الامتزاج بين عناصر متناقضة، والذى ينبع من رؤية شاملة للتاريخ والحياة الإنسانيين، كان يمثل أيضاً "توليفة" شديدة الجاذبية للمتلقى، فكأن نجيب محفوظ قد اكتشف أن الأسئلة الحقيقية عن "الوضع الإنسانى" – وهو اسم رواية لبلزاك- هى ذاتها عناصر فنية قريبة إلى قلب المتلقى وعقله. إن هذا يلتقى فى حقيقة الأمر مع رؤية الناقد الكبير الدكتور على الراعى فى تقييمه للميلودراما، فإذا كان البعض ينظر إليها بإعتبارها فناً متواضعاً، فإنها فى جوهرها تلمس الأوتار الحساسة فى وجداننا. وليس بعيداً عن الحقيقة أن نقول أن نجيب محفوظ قد اكتشف – ربما بسبب عمله فى السينما - أن "الميلودراما" تحمل فى داخلها عناصر جذب جماهيرية، بالإضافة إلى كونها قادرة على أن تطرح العديد من الأسئلة الصحيحة. فى الكثير من أعمال نجيب محفوظ تتكرر – بالنص أحياناً، وبالمعنى أحياناً أخرى- عبارة "متى يتحقق العدل؟"، وهى فكرة تكمن فى قلب كل عمل ميلودرامى. ناهيك عن شخصيات وأفكار تعاود الظهور فى أعمال نجيب محفوظ: البطل الباحث عن خلاص، الأب المفقود، الأم ذات الماضى غير النقى، الشيخ، العاهرة الفاضلة، الفتوة، المرأة الفاتنة الغاوية، المحبوبة التى تمثل النقاء، المخبر ممثل السلطة، وإلى جانب ذلك كله الرحلة من الفقر إلى الثراء ثم العودة إلى الفقر من جديد، ولقاء الشباب بالكهولة، وصراع دائم لا ينتهى بين الخير والشر، وحيرة لا تزول بين الاختيار والجبر، وانتظار مرير للحظة تقرير المصير. وإذا كنا نتحفظ فى إطلاق أحكام عامة على أعمال نجيب محفوظ، فإن من الأقرب للصواب أن نذكر أن هذا المزيج من الأدب الرفيع، والصورة السينمائية، والنظرة الصوفية، والعناصر الميلودرامية، وتعدد مستويات الدلالة التى تتيح قراءات مختلفة لنفس العمل (تصبح هذه المستويات أكثر غزارة مع أعمال لنجيب محفوظ التى تقترب من النزعة"التفكيكية"، بدءاً من "ميرمار و "المرايا"، وانتهاء بأكثر هذه الأعمال صعوبة مثل "حديث الصباح والمساء" ففيها يترك نجيب محفوظ قارئه لكى يختار "الطريق" الذى يقرأ به الرواية ويفهمها)، نقول أن هذا المزيج قد تحقق على نحو رفيع فى أعمال مثل "الحرافيش" و "ليالى ألف ليلة"، بينما يبدو أقرب إلى "مسودات" لم تأخذ حقها فى النضج، وإن تفاوتت أيضاً بين كثافة "قلب الليل" وتواضع – وربما سذاجة – أعمال مثل "الجريمة" و"الكرنك". إن هذا التفاوت ليس أمراً غريبا فى رحلة أديب بقامة وحجم نجيب محفوظ، كانت الثورة عنده صوفية، والصوفية ثورة، فقد يصل أحياناً إلى اليقين وقد يخطئه أحياناً أخرى، لكن جدوى الرحلة لا يأتى دائماً من بلوغ القصد، وإنما من تصميم دؤوب على السير فى "الطريق".

1 comment:

Ahmed Gharib said...

تسلم ايدك.. هي الرحلة والطريق فعلا جوهر تجربة التغيير والوعي