Wednesday, June 15, 2011

المخرج المصري محمد خان يبحث عن وطن



هناك تعبير يجري على ألسنة صناع الأفلام المصرية، وعلى صفحات الصحافة السينمائية، يقول أن "القاهرة هي هوليوود الشرق". وبرغم ما في هذا التعبير من بريق، فإنه ليس دقيقا تماما، خاصة فيما يتعلق بادعاء البعض أن مصر تتسم بأنها "كوزموبوليتانية"، وهو يقصدون بذلك أنها تضم كل متناقضات العالم جنبا إلى جنب، حيث تتجاور العناصر دون أن تتصارع. لكن الحقيقة يا عزيزي القارئ – كما سوف نرى – مختلفة تماما.
ليس هذا جدالا نظريا، وإنما ذكرنا به ما تم نشره على موقع "فيسبوك" منذ أيام، من مناشدات العديد من السينمائيين المصريين أن تقوم السلطات المختصة بالموافقة على منح المخرج "المصري" محمد خان الجنسية المصرية!! وإذا كان هناك في الجملة السابقة ما يبدو أنه تناقض، دعنا نفسر الأمر في البداية: محمد خان ولد في القاهرة في عام 1942 لأب باكستاني يحمل الجنسية الإنجليزية، وبرغم أن محمد خان عاش طوال عمره في مصر، وصنع كل أفلامه فيها، تلك الأفلام التي لا يمكن أن تصفها إلا بأنها "مصرية جدا"، وقال النقاد أنها تسجل لروح المكان في مصر على نحو أقوى من كل الأفلام المصرية الأخرى، برغم ذلك جميعه لم ينجح محمد خان في الحصول على الجنسية المصرية حتى الآن!!
ماذا إذن عن "هوليوود الشرق"؟! هوليوود منذ بدايتها لم تعرف لنفسها جنسية أو قومية، واستضافت الفنانين من كل بلاد العالم، ولعل أكبر موجات الهجرة إليها كانت أيام صعود التيار النازي في أوربا، وآنذاك نزح عشرات الفنانين السينمائيين من كل التخصصات إلى هوليوود، ليس لأن هوليوود تؤمن بروح ثورية ما، وترحب بالمطرودين من أوطانهم لأسباب سياسية، وإنما لأنها "صناعة" كل ما يهمها هو الكسب المادي والمعنوي، وهي ما تزال حتى الآن "تستورد" الفنانين من كل أنحاء العالم عندما تجد أنهم سوف يضيفون إليها دماء جديدة. لكن تأمل كيف أن ذلك تحول إلى نزعة مناقضة تماما خلال الفترة الماكارئية في بداية الخمسينيات، حين بدأت سلسلة تحقيقات مع الفنانين المتهمين بنشاطات "معادية لأمريكا"، أدت إلى نزوح في الاتجاه المضاد.
وهذا هو الفرق بين مصر وهوليوود، والحضارة والكوزموبوليتانية، فمصر كانت وستظل دائما تضم البشر القادمين إليها من كل بلاد العالم، شرطها الوحيد أن يصبح هؤلاء "مصريين"، ليس بالأوراق الرسمية وإنما بالثقافة الإنسانية بالمعنى الواسع للكلمة. وليس غريبا أن تجد أسماء عائلات مصرية تدل على جذور من هنا أو هناك، مثل المغربي أو العراقي أو الموصلي أو الكردي أو الطرابلسي أو التونسي أو الجزايرالي أو التلمساني ... إنها ألقاب قد تشير إلى الجهة التي نزح منها الجدود، لكن لا يترتب عليها أبدا تفرقة من أي نوع بين مصري وآخر.
تلك هي "البوتقة" التي انصهرت فيها عوامل ثقافية عديدة في السينما المصرية على سبيل المثال، فمنذ البدايات الأولى لهذه الصناعة كان الإيطاليون المتمصرون هم الرواد، وتلاهم الشوام الذين كانوا يعملون في المسرح. وسوف تجد اسم ألفيزي أورفانيللي (الإيطالي) مصورا للعديد من الأفلام المصرية حتى بداية الستينات، وهو الذي عرف – وغيره من الإيطاليين العاملين في السينما المصرية آنذاك - أن اكتساب جمهور للأفلام يعتمد على وجود ممثلين مصريين وعرب، مثل فوزي الجزايرلي (واسمه يدل عليه) في "مدام لوريتا" (1919)، أو علي الكسار في "الخالة الأمريكانية" (1920)، أو فوزي منيب في "خاتم سليمان" (1922)، وجميعها أفلام قصيرة تسبق حتى التاريخ الرسمي لميلاد السينما المصرية.
وسوف توضع اللبنات الأولى لهذه السينما من خلال جهود التركي وداد عرفي، والأخوين ابراهيم وبدر لاما الفلسطينيين المهاجرين إلى شيلي في أمريكا اللاتينية. لكن إذا كان جهود هؤلاء متناثرة أو منسية أرجو أن تتأمل دور الفنانة آسيا، التي جاءت إلى مصر في عام 1923ولحقت بها ابنة شقيقتها ماري كويني، ولكل منهما إسهامات أساسية في السينما المصرية، لأنهما أثبتا القاعدة التي تقول أن الجنسية المصرية ليست منحة بل اختيارا من الشخص ذاته. لقد قررتا أن وطنهما هو مصر، وقامتا بتطوير مفاهيمهما عن السينما وتطوير السينما المصرية ذاتها، والتفاعل مع الظروف الاقتصادية، وتحولتا من التمثيل إلى إنتاج بعض من أهم الأفلام المصرية، مثل "رد قلبي" (1956) و"الناصر صلاح الدين" (1963) و"يوميات نائب في الأرياف" (1968).
يمكنك أن تعدد عشرات الأسماء في هذا السياق، لتكتشف أن العديد منها ليس من جذور مصرية خالصة لكنها مع ذلك مصرية مائة في المائة، بل إتك تستطيع أن تقول أنه بدون هذه الأسماء لم يكن للسينما المصرية – والفن المصري بشكل عام – أن يبلغ من النضج والتأثير ما استطاع تحقيقه. تأمل مثلا استيفان روستي، الإيطالي المجري (وفي بعض الأقوال النمساوي!!)، لكنه مصري حتى النخاع، ولن تجد من ينطق العامية المصرية بتلك الروح الساخرة التي كان متميزا بها. وسوف أذكرك هنا بأسماء أخرى دون أن أقول لك جذورها، إثباتا فقط لفكرة أن مصر لم يكن يعنيها أبدا من أين أتى هذا أو ذاك، ما دام قد اختار مصر وطنا وثقافة: نجيب الريحاني، ماري منيب، أنور وجدي، فريد الأطرش، أسمهان، هنري بركات، أحمد بدرخان، ليلى مراد، نور الهدى، فايزة أحمد، وعشرات غيرهم.
لم نسأل أبدا عن جذور أي من هؤلاء، فلماذا اليوم نتوقف عند محمد خان الذي ينتظر أوراقا مصرية تثيت هويته؟! لماذا التقاعس عن منحه إياها، وإن كان الأدق التشرف بمنحه إياها؟ يستطيع المرء أن يفهم ذلك الشعور الذي ينتاب محمد خان، وصرح به منذ ثلاث سنوات لكاتب هذه السطور خلال إعداد كتاب عنه: "يراودني في أغلب فترات حياتي شعور بعدم الأمان، حتى لو لم أجد لذلك أسبابا قوية ... ريما يكون السبب انحداري من "خليط" من الجنسيات، لكنه إحساس ينبع أحيانا من أن البعض يرغمونك على أن تشعر بنوع من "الغربة" إلى درجة المهانة. إنني أتساءل عن مصيري إذا تغيرت الظروف السياسية لسبب أو آخر، وصدرت قرارات بترحيل كل "الإنجليز"، ترى إلى أين أذهب؟ وماذا أفعل هناك؟ وهل يجب عليّ عندئذ أن أترك الوطن لأعيش في المنفى؟!".
محمد خان اختار مصر لتكون "الوطن"، بينما عبر عن انجلترا التي يحمل أوراقها بأنها "المنفى"!! ومع ذلك فإننا نتردد في أن نمنحه أوراقا لن تغير من الحقيقة الجوهرية القائلة بأنه مصري أصيل. ومنذ فيلمه القصير "البطيخة" في منتصف السبعينات، للموظف المصري العائد من عمله حاملا "البطيخة"، تدرك أن محمد خان عين مصرية خالصة، وهو الذي قام في أول أفلامه الروائية الطويلة "ضربة شمس" (1980) بتسجيل شوارع القاهرة خلال أوقات النهار والليل، وما تزال اللقطة الأخيرة لميدان التحرير عند الفجر توحي لك بقلب هذه المدينة، التي تتصور أنها نائمة لكنها تبقي عينيها مفتوحتين، تماما كما تفتح ذراعيها للجميع من أبناء البشر، الذين يرتضون بها أما رؤوما. وإذا كان المثل السائر يقول أن "مصر أم الدنيا"، فلا يجب أن نحرم هذه الأم من أبنائها، خاصة عندما يكونون بقدر مكانة وحب ومصرية محمد خان.

No comments: