Friday, June 03, 2011

فيلم "بلا حدود" ورحلة فى اللاوعى الأمريكى


أيا كان رأيك في السينما الأمريكية، وقدرتها على دس السم في العسل أحيانا، فإنك لا تملك في أغلب الأحوال إلا الإعجاب بها، فتلك الصناعة السينمائية الأقوى في العالم لم تصبح كذلك إلا لأنها تعلمت كيف تجدد نفسها دائما، وتولد من جديد كلما بدا أنها على مشارف الإفلاس!! لذلك لم يكن من غريبا أن تتعلم صناعة السينما الأمريكية من كل الحركات السينمائية الجادة في العالم كله، بدءا من إنجازات السينما السوفييتية، ومرورا بالواقعية الجديدة في أيطاليا، والموجة الجديدة في فرنسا، والسينما الحرة في بريطانيا، وحتى حركة "دوجما 95" في الدنمارك، وأن تدمج إنجازات كل هذه الحركات فيما تصنعه من أفلام تجارية.
عندما كنت أشاهد الفيلم الأمريكي "بلا حدود" Limitless، وجدت نفسي أبتسم سرا، لأن سؤالا غريبا طرأ على خاطري: في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي، كان المخرج الفرنسي ألان رينيه يغامر في أفلام مثل "العام الماضي في مارينباد" و"هيروشيما حبيبي"، بمحاولة التعبير عن العوالم الداخلية للشخصيات، من خلال "تمزيق" الزمن، الذي لم يعد عنده متعاقبا من البداية إلى النهاية. عندما ظهرت هذه الأفلام كان الجمهور ينظر إليها على أنها موجهة للصفوة، وتتعالى على المتفرج العادي بذلك الأسلوب الذي بدا آنذاك غرائبيا، لكن الأسلوب ذاته أصبح في متناول هذا المتفرج، يتقبله ويستمتع به كما هو الحال في فيلم "بلا حدود"، فما الذي حدث؟ كيف استطاعت هوليوود أن تجعل الغريب عاديا؟ ومن فن الصفوة فنا جماهيريا؟!
هناك عشرات الأمثلة على تلك القدرة الخاصة التي تتمتع بها السينما الأمريكية، لكننا ونحن نتوقف الآن مع فيلم "بلا حدود" سوف نحاول أن نتلمس أسباب هذه القدرة. المدهش أيضا أن "التيمة" الرئيسية للفيلم تبدو مطروقة في العديد من الأعمال الفنية في بلدان العالم المختلفة، بل في مختلف الأزمان أيضا. هل تتذكر مثلا قصة علاء الدين ومصباحه السحري؟ خاتم سليمان؟ طاقية الإخفاء؟ كلها تيمات تتحدث عن أن شخصا عاديا يستطيع فجأة أن يملك بطريقة سحرية ما قدرات خارقة، وهي القدرات التي سوف تتصارع على امتلاكها أيضا أطراف شريرة. إنها التيمات التي تتيح للمتلقي (القارئ أو المتفرج) حلم يقظة قصيرا بالقدرة على تجاوز قوانين الطبيعة، كما أنها تجعله يعيش للحظات مع وهم انتصاره في الصراع المحتدم بين الخير والشر.
لقد تطورت هذه الفكرة البدائية (بالمعنى الإيجابي الذي يدل على أنها تضرب بجذورها في الوعي الإنساني) من خلال ما يسمى "الخيال العلمي"، وأصبحت الشخصيات الخارقة للطبيعة من بين الشخصيات الأقرب لأهواء الجماهير في كل مكان، ولعلك تذكر مثلا كيف أن الأفلام الأخيرة التي تناولت "الرجل الحديدي" و"سوبرمان" و"الرجل الأخضر" و"سبايدرمان" تتحدث كلها في البداية عن الكيفية التي تحول فيها البطل من شخصية عادية ليكون خارقا. أحيانا يكون هذا التفسير أقرب إلى "الخيال" منه إلى "العلم" (إنه كذلك في أغلب الأحيان)، لكنه التفسير الذي يتيح للمتفرج تبريرا للظاهرة التي يطلقون عليها "التظاهر بالتصديق"، أي قبول المتلقي للمقدمات المنطقية للعمل الفني حتى يستمتع به. وأنت مثلا تذهب إلى مسرح العرائس، لتوقع عقدا ضمنيا مع الفنان بأنك سوف تتظاهر بتصديق أن ما تراه ليست كائنات مصنوعة من الخشب والورق الملون، بل هي بشر من لحم ودم.
في بداية فيلم "بلا حدود"، المأخوذ عن رواية "حقول الظلام" للمؤلف ألان جلين، وسيناريو ليزلي ديكسون، وإخراج نيل بيرجر، تأتيك هذه المقدمة المنطقية: هل نحن نستخدم كل خلايانا العصبية (خاصة في المخ البشري) في وقت واحد؟ ويفترض الفيلم أن الإجابة بالنفي، وربما كانت تلك هي الحقيقة بالفعل، وإن كانت هناك تحفظات علمية عليها. ما يهمنا هنا هو أن الفيلم ينتقل فورا إلى الخطوة المنطقية التالية: ماذا لو أتيح للإنسان أن يستخدم كل تلك الخلايا معا؟ وسوف تكون الإجابة بالطبع هي أن قدراته على الاستيعاب والتفكير والتصرف سوف تتزايد إلى حد هائل. كلام مقنع، أليس كذلك؟ ولأننا لسنا في مناظرة علمية بل أمام عمل فني، فلن نتوقف كثيرا عند قبول أو رفض هذه المقدمة، لنسأل الفنان: ماذا إذن تريد أن تصنع بذلك؟ "ورينا الشطارة"!!
لا تأتي هذه الفكرة بالطبع من خلال جمل تقريرية كما تبدو لك الآن في المقال، بل هي في الفيلم تأخذ شكلا بالغ البراعة، فنحن مع الشخصية الرئيسية الشاب إدوارد مورا، واسم شهرته إيد (برادلي كوبر)، نرى من خلاله كل أحداث الفيلم، ونسمع صوته آتيا من خارج "الكادر" كأننا أمام رواية من ضمير المتكلم. إنه يحكي – ونراه على الشاشة – شابا يعيش حالة مزرية وفوضى كاملة، يقضي أيامه في الحانات يحكي لأصدقاء الصدفة عن كتاب يؤلفه، لكنه بمجرد أن يجلس أمام الكومبيوتر تتطاير الكلمات من رأسه. وهو في المشاهد الافتتاحية يقابل فتاته ليندي (آبي كورنيش) التي تخبره أنها تلقت ترقية في الصحيفة التي تعمل بها، وأنها لن تستطيع الزواج منه لتكرر معه قصة زواجه الأول الفاشلة. يمضي إيد خائبا لكنه يقابل في الطريق فيرن (جوني ويتورث) شقيق زوجته السابقة، الذي كان يعمل في تجارة المخدرات، لكنه يبدو الآن قد تحول إلى مخدرات من نوع آخر، أقراص غامضة تتيح لمتعاطيها أن يمتلك جهازا عصبيا أقوى عشرات المرات من الحالة العادية.
لا يصدق إيدي تلك المزحة وإن كان يبتلع القرص قبل أن يدخل إلى شقته، ويقابل على الدرج زوجة صاحب المنزل التي تنهال عليه باللوم لتأخره في دفع الإيجار، وتنصحه بأن يبحث لنفسه عن عمل. خلال ثوان معدودة يبدأ عمل العقار: بطرف عينه يلمح اسم الكتاب الذي تحمله، ليدرك أنها طالبة في القانون، وفجأة تتدافع في ذهنه شذرات المعلومات التي عبرت عليه في كل حياته، وتتدفق لتكون في متناوله ليستخدمها في التو واللحظة، لينطلق في نصائح دراسية لزوجة الجار بما يجعلها تنبهر به. أنه أيضا يجد أن لديه طاقة هائلة لترتيب المنزل، ويجلس أمام الكومبيوتر ليكتب، حيث تتساقط فوقه – بالمعنى الحرفي للكلمة من خلال الصورة السينمائية – الحروف والكلمات، ليكمل العديد من الصفحات، يقدمها لوكيلة أعماله التي تنظر لها بانبهار وهي لا تصدق عينيها.
دعنا نتوقف هنا قليلا لنرى كيف تنجح السينما الأمريكية في التسلل إلى وجدانك حتى بأكثر الأفكار غرابة، فهي على مستوى السرد تستخدم دائما حيلة واحدة لا تتخلى عنها أبدا، وأرجو أن تتعلم منها السينما المصرية قليلا، فأكثر مخرجينا مهارة من الناحية التقنية والفنية لا يلتفتون كثيرا لدور المتفرج في التلقي (تأمل مثلا بعض أفلام داود عبد السيد، وكل أفلام يسري نصر الله). العنصر الأساسي في السينما الأمريكية هو "التوحد"، إنها تخلق منذ اللحظة الأولى حالة من التطابق بين مشاعر الشخصية الرئيسية ومشاعر المتفرج، لتجد نفسك – وبدون أن تشعر – تضع نفسك مكان هذه الشخصية، لتصدق كل أحاسيسها وعواطفها وأفكارها، لذلك فإنك سوف تمضي معها في كل تصرفاتها حتى أكثرها شططا. يفعل فيلم "بلا حدود" ذلك بأن يحكي لنا السرد من ضمير المتكلم، لكن ذلك ليس أقوى الأدوات لتحقيق التوحد (ولا تفعل كل الأفلام ذلك بالطبع)، لكن الأهم هو أن نرى الأحداث من خلال "وجهة نظر" الشخصية الرئيسية، وهو ما يتجسد في الفيلم هنا فيما يمكن أن نسميه "شلال الوعي" وليس "تياره" فقط.
يكاد الزمان والمكان أن يكونا زمان ومكان الشخصية الرئيسية، وليسا الزمان والمكان الموضوعيين. وهنا يعمد الفيلم إلى ما يسمى "أسلوب إم تي في"، الذي يستخدم شذرات قصيرة من لقطات لا يستغرق بعضها جزءا من الثانية، وهي جميعا لقطات تعبر عما يدور في وجدان البطل. ومن خلال هذه القفزات المونتاجية فائقة السرعة يتم اختصار الزمان والمكان، حيث تتوالى الأيام بالبطل في ثانية واحدة، كما ينتقل إلى الماضي بشكل خاطف عندما يتذكر زوجته السابقة. وتحت تأثير القرص الغامض تتعدد صورته على الشاشة، كأنه أصبح عدة أشخاص في وقت واحد، وتصبح العدسة ذات الزاوية الواسعة تجسيدا لرؤيته التي تقتنص القدر الأكبر من المعلومات البصرية في لقطة واحدة، ويصل الإبهار السينمائي (المقصود) لقمته مع لقطات "الزووم" العديدة التي تبدو لقطة واحدة متصلة، كأن البطل قادر تحت تأثير العقار على أن يخترق الحواجز المكانية المعتادة. مرة أخرى فإن هدف الفيلم من ذلك كله هو "التوحد"، أن ترى العالم من خلال عيني البطل وتدركه من خلال وعيه.
بعد أن يؤسس الفيلم لحالة التوحد تلك من جانبك، يدخل بك إلى عالمه الروائي أكثر، فتلك القدرة التي جاءت للبطل إيدي مهددة بالزوال عندما ينتهي مفعول العقار السحري، وهو قد تذوق حلاوة أن يكون خارقا، فيبحث عن فيرن شقيق زوجته السابقة، لكنه عندما يجده يكون قد وقع في مأزق مرعب، فقد عثر على فيرن مقتولا على نحو غامض، وفيرن بلا شك طرف في لعبة أكبر مع هذا الدواء، لكن إيدي ينجح في العثور على كمية كبيرة من الأقراص والمال في شقة فيرن، ليعود إلى حياته يستمتع فيها بتأثير العقار الذي يحقق له "النجاح".
وضعت الكلمة الأخيرة بين قوسين لأهميتها في الثقافة الأمريكية، حيث النجاح مشروط دائما بالقدرة على أن تفعل كل شيء، "بلا حدود"، وتأمل كلمات الصحف كما جاءت على لسان الصديقة ليندي تصف البطل: "إنه هوديني (ساحر عرفته أوربا عند نهاية القرن التاسع عشر)، إنه نبي زماننا، إنه إله"!! إن القرص الغامض يجعل البطل قادرا على إتقان كل ما يريد: ينهي كتابه في أربعة أيام، ويتعلم العزف على البيانو، وكيفية الكسب في لعب الورق، واجتذاب النساء، ناهيك عن اكتشافه في مشهد لاحق أيضا لقدرته على إتقان القتال، حين تضطره الظروف للشجار مع أناس احتك بهم في محطة المترو، فإذا به يسترجع في ذهنه بسرعة البرق كل شذرات المعلومات التي رآها بشكل عارض لفنون القتال (تتوالى على الشاشة في مونتاج متلاحق). لكن الأهم من ذلك كله هو تعلمه للمضاربة في "البورصة"، وهو سوف يجعله هدفا لرجل المال كارل فان لون (روبرت دي نيرو في دور يقلد فيه نفسه!!)، الذي يستعين بقدرات البطل الخارقة لكي يستولي على شركات المنافسين له أيضا.
الفيلم في التحليل الأخير ليس من علامات السينما الأمريكية، لكن بعض ما تعلمه كاتب هذه السطور من المخرج الأمريكي الأشهر مارتين سكورسيزي، أنه يمكن لك أن تعثر على "اللاوعي الأمريكي" في الأفلام غير المشهورة، أو التي تفتقد الإبداع بالمعنى الحقيقي للكلمة. فالفيلم يبدو متعثرا في خطوطه السردية، بعضها لا يكتمل مثلما هو الحال مع الزوجة السابقة ميليسا (أنا فريل) التي تبدو بدورها ضحية للعقار، حيث تحولت إلى حطام بعد رحلة قصيرة ممتعة من الثراء السريع، أو مثل شخصية الحبيبة ليندي التي تظهر وتختفي عندما يحتاجها السرد فقط، أو حتى اللجوء إلى شخصية نمطية مثل "الفتوة" الروسي جينادي (أندرو هوارد) الذي أقرض البطل مالا عند نقطة ما من السرد، ليطارده بعد ذلك على نحو محموم من أجل الأقراص السحرية في مشهد دموي رهيب، فالبطل تتم محاصرته في شقته التي تشبه القلعة، وعندما يضيق جينادي عليه الخناق لا يجد إيدي مفرا من أن يقتله، ويشرب (بالمعنى الحرفي) من دمه الذي يكون مشبعا بالدواء!! ناهيك عن خط سردي غامض آخر، عن أحد أعراض الدواء الذي يجعل البطل أحيانا يفقد ذاكرته القريبة، فلا يعرف – ولا نعرف نحن أيضا – إن كان قد ارتكب جريمة قتل وهو تحت تأثير العقار.
هنا تجد نفسك أمام الوجه الآخر للاوعي الأمريكي: النجاح مرهون أيضا بصراع مثير للرعب، إما أن تكون قاتلا أو مقتولا. بل سوف يحمل لك الفيلم بعض مفاجآت أخرى في "الحدوتة" تشير إلى تغلل هذا الدواء في المجتمع الأمريكي، ولن أكشف لك الآن عن هذه الانعطافات السردية لتستمع بها بنفسك مع مشاهدة الفيلم. لكن أرجو أن تتوقف عند أزمة "البارانويا" التي تصيب البطل، إنه يجد نفسه متفوقا أو فائقا، لكنه يكتشف أيضا أنه محاصر مطارد في كل لحظة، وهي الأزمة التي تعبر بدورها – بكل صدق – عن إحدى سمات الشخصية الأمريكية، على المستوى الفردي والجماعي، والاقتصادي والاجتماعي، والسياسي والأخلاقي. وكلما نظرت حولك في الحياة والسينما على السواء، سوف تجد آثارا لجنون العظمة والاضطهاد الذي تعاني منه أمريكا، وربما كان موعدنا في مقال قادم عن فيلم أمريكي تجاري أخر لنتحدث أكثر عن هذا المرض النفسي، الذي يحول أمريكا – كما حدث مع السيكلوب ذي العين الواحدة في أسطورة "أوليس" – إلى عملاق أعمى، فإذا به تحت تأثير الخمر والغضب يطيح بالجميع في جنون.

2 comments:

Sherif Mohie said...

Really great :)

Sherif Mohie said...

Really great, thanks for the great review and analyzing in a very nice and deep way :)