للمخرج وكاتب السيناريو الأمريكى الشاب كريستوفر نولان
شعبية كبيرة بين عشاق السينما في العالم كله، حتى بين قطاع غير قليل من شباب
الجمهور في العالم العربي، ولعل تلك الشعبية لا تنبع من رؤية أصيلة للحياة والفن
كما هو الحال على سبيل المثال مع ستانلي كوبريك أو تيرانس ماليك، ولكن لقدرته
البارعة على التعامل مع الأنماط الفيلمية التقليدية بتناول جديد، فيجمع بين ما
يمكن للوهلة الأولى أن يبدو كنقائض، بين نمطية الفيلم وجدة معالجته.
لقد كان ذلك هو حال كريستوفر نولان مع أشهر أفلامه
الأولى "تذكارات" (2000)، الذي تم اقتباسه في السينما المصرية بفشل ذريع
باسم "فاصل ونعود" (2011)، فالفيلم في جوهره حبكة رجل يبحث عن قاتل
زوجته، لكنه فقد ذاكرته في الوقت ذاته، ويستعيد شذرات من هذه الذاكرة مع لقائه
بشخصيات أو أشياء بعينها، ليقترب شيئا فشيئا مما يبحث عنه، وهي كما ترى حبكة
تقليدية ربما عالجتها السينما العالمية مرارا مع ما يسمى "أفلام الانتقام
الفردي"، لكن ذهن نولان تفتق عن أن يقلب الزمن رأسا على عقب، فهو يدور أولا
في اللحظة الراهنة ليعود خطوة بعد أخرى إلى الماضي.
لقد أثارت تلك المعالجة اهتمام الجمهور المثقف، ليصبح
نولان منذ تلك اللحظة إحدى أيقونات السينما العالمية الجماهيرية، مما فتح أمامه
الباب لتقديم معالجات جديدة لتيمات قديمة، لعل أشهرها ثلاثية "فارس
الظلام" التي أعاد بها إحياء أسطورة الرجل الخارق "باتمان"، لنراه
شخصا يعاني قلقا وجوديا غريبا على عالم الأبطال الخارقين، وها هو نولان يقترب من
نمط أفلام الحرب بفيلمه الأخير، وذائع الصيت جماهيريا ونقديا، "دانكيرك"
Dunkirk، الذي كتب له السيناريو وأخرجه،
عن الحادث الشهير في عام 1940، في ذروة انتصار النازيين مرحليا على قوات الحلفاء،
وهي القوات التي وجدت أن مئات الآلاف من جنودها باتوا محاصرين على شاطئ دانكيرك،
في شمال فرنسا بالقرب من حدودها مع بلجيكا، لتدور ملحمة من أجل انسحاب هذه القوات
أمام حصار النازيين.
للوهلة الأولى تتيح هذه الموقعة صنع فيلم آخر عن
"بطولة" جنود الحلفاء، يضاف لعشرات أو ربما مئات الأفلام التى دارت في
أجواء الحرب العالمية الثانية، حيث تتصدر المشهد مجموعة من الجنود، تتراوح مواقفهم
بين الشجاعة والخوف، ومن خلال الأعمال الجريئة لبعضهم تنجح المجموعة في الهرب من
الحصار، لكي تصبح في وعي المتفرج رمزا لمجموعات أخرى، تشكل في النهاية كل الجنود
المنسحبين بنجاح من الموقعة. وقد يذكرك ذلك الموضوع بأفلام شهيرة في تاريخ
السينما، خاصة فيلم سبيلبيرج "إنقاذ الجندي رايان"، عن رحلة فرقة صغيرة
من الجنود الأمريكيين لاستعادة جندي أمريكي مفقود، وسط أطلال وركام نهايات الحرب
العالمية الثانية، لكن ربما لأن "دانكيرك"، الموقعة والفيلم، لا يتضمنان
أي إشارة إلى أمريكا، التي لم تكن قد أعلنت اشتراكها في الحرب بعد، ربما لهذا
السبب أصبح من الممكن أمام كريستوفر نولان أن يقدم معالجة جديدة تماما، بعيدا عن الأهداف
الجماهيرية المعتادة في هذا النمط من الأفلام، التي تهدف دائما للحديث عن بطولة
الجندي الأمريكي.
نقول إنه لم يكن من بين أهداف نولان أي حديث عن بطولة من
أي نوع، بل عن المعاناة التي تفوق الوصف لكل من اشترك في هذه الموقعة. وإنك لن
تستطيع بالكاد أن تميز شخصيات فردية أو أن تعرف لها اسما، وإن عرفته فلن يشكل ذلك
أهمية كبيرة، ففي مثل هذه المواقف تضيع هوية الإنسان، وتبقى فقط كتلة من البشر
يواجهون مصيرا واحدا، وأي جهد مهما بلغت ضآلته أو ضخامته ليس إلا لبنة صغيرة في
بناء أكبر، هو هنا إنجاح عملية الانسحاب.
ترى أين إذن يمكن لنولان أن يقدم معالجة جديدة لهذا
النمط الجماهيري؟ كما سبق الحديث عن فيلمه "تذكارات"، ونجاحه المبهر،
كان "الزمن" هو مفتاح النجاح هنا أيضا. فبدلا من التطور الخطي للزمن،
الذي يسير دائما إلى الأمام، اختار ثلاثة خطوط مختلفة من السرد، لكل منها زمنها
الخاص، لتتقاطع هذه الخطوط بين لحظة وأخرى، ربما دون منطق فني أحيانا، سوى أن يصنع
شبكة متداخلة إلى أقصى حد من الأحداث، وتلك الخطوط الثلاثة هي: الأول على حاجز صد
الأمواج على شاطئ دانكيرك، حيث تجمع عشرات أو ربما مئات الآلاف من جنود الحلفاء في
انتظار قدوم السفن لإجلائهم، ويستغرق هذا الخط في الزمن الحقيقي أسبوعا كاملا، أما
الخط الثاني فهو أحد زوارق المدنيين الصغيرة، التي استجاب أصحابها لطلب المساعدة
في الإجلاء، بسبب أن سفن الحلفاء الحربية الكبيرة باتت هدفا سهلا أمام الطائرات
والغواصات الألمانية، ويستغرق هذا الخط في الزمن الحقيقي يوما كاملا، وأخيرا يأتي
الخط الثالث لطائرات الحلفاء، المتجهة إلى الموقع، لتقديم الحماية الجوية الكافية
للإجلاء والإخلاء، وهو خط يستغرق ساعة واحدة فقط، يُفترض بالطبع أنها الساعة
الأخيرة من عملية الانسحاب.
يقول نولان إنه أراد أن يصنع فيلما عما دار في هذه
الموقعة على الأرض، وفي البحر، وفي السماء، وأن تتقاطع الخطوط والخيوط معا. ولعلك
لن تنسى أبدا تلك المعاناة الرهيبة في كل تلك الخطوط، ففي خط "حاجز الأمواج"
يبدأ أول المشاهد بآلاف الجنود على الشاطئ، في انتظار السفن، لكنهم يصبحون في هذا
المكان الشاسع أقرب إلى الأسرى في مصيدة ضيقة، يتساقط منهم من يقع بالصدفة في مرمى
قذائف الألمان، وتستيقظ بداخلهم نوازعهم العدوانية لأن كلا منهم يريد أن ينفذ بجلده،
في سياق يبدو فيه إخراج السوائل البشرية موازيا لمحاولة دفن جثث الضحايا تحت رمال
الشاطئ، وكلما بدا للبعض أنه اقترب من النجاة اكتشف أنه أصبح أقرب إلى الخطر.
أما خط "البحر"، فيحكي عن رجل في أواسط عمره،
يصحب شابين صغيرين في زورقه الصغير في طريقهم إلى دانكيرك، وكيف استطاعوا إنقاذ
جندي مرتعد من فوق حطام سفينة، لكن الجندي يصاب بالرعب عندما يعرف أنهم متجهون إلى
دانكيرك التي استطاع بالكاد أن يفلت منها، وفي نوبة رعبه يصيب أحد الصبيين في رأسه
بجرح دامٍ، سوف يتسبب في فقدانه لبصره ثم موته. وأخيرا هناك خط "الجو"،
وهو الخط الوحيد الذي يحمل بعض التشويق السينمائي، فنحن هنا مع طيار من الحلفاء،
يتجه بطائرته إلى الموقع متخطيا عشرات المعارك مع الطائرات الألمانية، لكن مقياس
الوقود المتبقى في الطائرة قد تحطم، وهو لا يدري إن كان لديه ما يكفي لكي يصل إلى
هدفه، لكنه ينجح في المهمة، لينهي نولان الفيلم بلقطتين مبهرتين بحق، إن الطائرة
تحلق ببطء فوق المكان دون وقود ودون صوت، تستعرض الشاطئ والرجال كأنها عين من
السماء، ثم لقطة من أسفل، للطائرة وهي تحوم كأنها طائر عملاق يحرس المكان.
إن تلك الخطوط المتقاطعة ليست جديدة تماما خاصة على نمط
الأفلام الحربية، فقد سبق للمخرج الأمريكي تيرانس ماليك أن قدم في فيلمه
"الخط الأحمر الرفيع" معالجة من وجهات نظر ست من الشخصيات خلال الحرب
العالمية الثانية، ولن تستطيع أن تخطئ ما بين الفيلمين من تشابه، خاصة ذلك الجو
الكابوسي الذي ينفي تماما الإحساس بالبطولة، ويركز على ضعف الكائن الإنساني أمام
الشرور الطبيعية أو التي صنعها بنفسه على السواء. لكن يبقى السؤال: هل استفاد
الفيلم حقا من هذا البناء السينمائي المعقد؟
من ناحية، فإن هذا التعقيد يخدم تشابك الأحداث،
وابتعادها في الوقت ذاته عن أي بطولات فردية، لكن من ناحية أخرى بدا الفيلم في
التحليل الأخير عبارة عن مشهد واحد، استمر على مدار زمن فيلم روائي كامل، مشهد
استعرض فيه نولان بحق كل إمكاناته الإخراجية، خاصة أنه لم يعتمد على المؤثرات
المصنوعة بالكومبيوتر، ليفضل
إن ما يبقى في الذاكرة من فيلم "دانكيرك" ليس
قليلا، لكنه لا يجعلك تخرج من قاعة العرض وقد تغيرت رؤيتك للحياة، كما ينبغي لعمل
فني قوي بحق، ومع ذلك فإنك لن تنسى لقطة النهاية، لآلاف الخوذات الملقاة على
الشاطئ، تخبرك أنه كان هنا بشر، فقدوا حياتهم لأن بشرا آخرين اختاروا لهم طريق
الموت.
No comments:
Post a Comment