أرجو ألا يكون قد فاتك المشهد الافتتاحي من فيلم التحريك
للأطفال "الطفل المدير" The Boss Baby،
فهو يشبه مفتاح الشفرة لنص كامل، وبدون فهمه ووضعه طوال الوقت في الاعتبار، سوف
تفقد أحد مستويين لمتعة الفرجة من الفيلم. تعال نتأمل معا هذا المشهد، هناك صوت من
خارج الكادر لرجل ناضج، يبدو واضحا أنه يحكي عن ذكريات طفولته، التي عاش بعضها في
أحراش الكونجو، يصارع غوريلا ضخمة ويحاول التغلب عليها بالحيلة، وفجأة يتحول
المشهد إلى حديقة منزل، فيها طفل في السابعة من العمر، يلاعب أباه لعبا خشنا.
وينقلب المشهد مرة أخرى، مع صوت الراوي وهو يحكي مغامرات الطفولة، إلى بحر هائج
وسمكة عملاقة، يصارعها الطفل ليحمي أباه وأمه، ليتحول المشهد مرة أخرى إلى الطفل
يقود دراجة في حديقة منزله، ويصطدم بشجرة لينقذه والداه.
هنا مستويان للسرد، كلاهما من وجهة نظر الراوي، لذلك
فهما متداخلان، ومع ذلك فإن أحدهما يدور في الواقع الحقيقي، بينما يتحول هذا الواقع
بالنسبة للطفل إلى خيال جامح. لذلك فإن ما سوف تراه طوال الفيلم يبدو كأنه يقع في
عالم فانتازي، لكن بعض التأمل سوف يفسر لك مغزاه وحقيقته الواقعيين. وحين تبدأ
الأحداث نرى الطفل الصغير تيم (صوت مايلز باكشي، ويؤدي صوته كراوٍ ناضج توبي
ماكجواير)، إنه يعيش طفولة سعيدة مع أبيه (جيمي كيميل) وأمه (ليزا كودرو)، ولأنه
طفل وحيد فإنه يتلقى عناية كاملة، يترجمها الفيلم إلى تعدد صور الأب والأم اللذين
يقومان تجاه الطفل بوظائف متعددة.
لكن القلق يتسلل إلى حياة تيم، عندما يحدثه والداه عن
قدوم أخ صغير له في المستقبل القريب، ليجمح خياله مرة أخرى متصورا وجود
"مصنع" لتصنيع الأطفال كأنهم بضائع سوف يتم توزيعها على الأسر، تبعا
للجنس والعرق، ويبدو المشهد مضحكا وقريبا من المصنع في فيلم شارلي شابلن
"العصر الحديث"، لكنه يتيح أيضا مشهدا مبهرا مليئا بالحركة، من ذلك النوع
الذي يخلب لب المتفرجين من الأطفال.
ومن بين الأطفال الرضع الذين "ينتجهم" المصنع،
هناك البعض منهم يكون مقدرا له منذ الميلاد أن يكون "مديرا" أو
"رئيس عمل"، ومن هذا النوع يأتي الأخ الوليد تيد (صوت أليك بولدوين)،
يراه بطلنا تيم وهو يدخل الأسرة في بدلة كاملة حاملا حقيبة ككل المديرين، ويتصرف
تصرفات غريبة تعكس طبيعته الآمرة، بينما يكون على الأب والأم الطاعة الكاملة، التي
تعني أيضا إهمال طلبات الابن الأكبر تيم. وهنا عليك أن تستدعي مفتاح شفرة الفيلم،
فبطلنا يترجم ما يحدث له داخل الأسرة إلى صور وقصص خيالية، فليس الأمر سوى أنه ككل
الأطفال يعيش صدمة فقدان اهتمام الوالدين، لأنه لم يعد الطفل الوحيد، مما يدفعه
إلى رسم صورة مضحكة عن شقيقه الصغير، الوافد الجديد، الذي يعيش دور
"المدير".
تأمل الآن كيف أن أفلام الأطفال أصبحت تناقش قضايا ربما
نفتقد وجودها في أفلامنا للبالغين، بحيث يوصل الفيلم "رسالة" إلى وجدان
المتفرج الطفل، تتسلل إلى لا وعيه وهو يستمتع بالفرجة، وقارن كيف أن مفهوم
"الرسالة" يلقى – للأسف الشديد – سخرية من بعض صناع السينما عندنا! ولعل
من المهم أيضا أن نشير إلى أن هناك تنافسا قويا في مجال أفلام التحريك للأطفال بين
شركة "بيكسار" التي اشترتها ديزني، وشركة "دريم ووركس"
المنتجة لفيلم "الطفل المدير". فرغم أن أفلام الشركة الأولى – مثل سلسلة
"قصة لعبة" – تتوجه إلى الطفل برسائل تدعو إلى الحياة الجماعية، بينما
تتوجه الشركة الثانية بأفلام تدعو للنزعة الفردية، مثل سلسلة أفلام "الغول شِريك"،
فإن دريم ووركس مالت في هذا الفيلم إلى الرسائل ذات الطابع الاجتماعي، التي تساهم
في نضج وعي الطفل، وإدراكه لحقائق الحياة.
إن إدراك هذه الحقائق في فيلم "الطفل المدير"
يعني كيف أن الطفل الأول يستطيع استيعاب قدوم طفل ثانٍ، يشاركه في اهتمام
الوالدين، أو لعله يسرق منه هذا الاهتمام. ويتحقق هذا الإدراك أيضا من خلال
الخيال، فالطفل الأكبر تيم يكتشف أن أخاه الصغير تيد يملك وعي الكبار وصوتهم أيضا،
وقد أرسلته شركة تصنيع الأطفال إلى هذه الأسرة من أجل مهمة محددة، هي بدورها تعكس
في خفة ظل جانبا من واقع الحياة في المجتمع الأمريكي في الآونة الأخيرة: لقد باتت
الأسر أقل اهتماما بإنجاب الأطفال وتربيتهم، وتوجهت بدلا من ذلك إلى اقتناء الكلاب
اللطيفة الصغيرة!!
إن الطفل المدير يرتب خططا مع أطفال الأسر الأخرى، الذين
يجتمعون حين يتركهم أهاليهم معا، بما يذكرك بفيلم التحريك الذي شاهدناه منذ شهور
قليلة "الحياة السرية للحيوانات الأليفة"، فكأن للأطفال الرضع حياة
سرية، يضعون فيها الخطط والمؤامرات من أجل استعادة اهتمام الوالدين بدلا من
الكلاب. ومثلما يوجد مصنع لتصنيع الأطفال، هناك مصنع يملكه فرانسيس (صوت ستيف
بوشيمي) لتصنيع الكلاب الصغيرة في طرز حديثة لطيفة، وسوف يكتشف بطلانا تيم وتيد أن
فرانسيس كان في طفولته طفلا مديرا، لكنه فقد وظيفته فتحول إلى راغب في الانتقام،
بأن يروج لاقتناء الكلاب. ولعلك هنا أيضا تستطيع تفسير الحقيقة، بأن فرانسيس كان
طفلا وحيدا مدللا، فقد اهتمام والديه، مما ساهم في رسوخ نزعة الانتقام بداخله.
وبدءا من هذه اللحظة يتحول الفيلم إلى سلسلة من مشاهد
المطاردة بين الطفلين من جانب، وفرانسيس وأعوانه من جانب آخر، وهي مشاهد تقدم
إبهارا حركيا ولونيا للمتفرج الطفل. لكن لن يحدث ذلك إلا بعد محاولات الطفل الأكبر
تيم التخلص من الطفل الأصغر تيد، مما يعرضه لعقاب والديه بحرمانه من النزهة، وهو
ما تتم ترجمته أيضا في وعي الطفل إلى خيال، فكأنه حبيس زنزانة وقد قيدت ساقه إلى
كرة معدنية ثقيلة، وهو يعد الأيام بالطباشير على الحائط، بل إن دميته المفضلة تكون
سجينة معه، مقيدة بالسلاسل إلى الجدار.
يتفق الطفلان أن يقوم الكبير بمساعدة الصغير على هزيمة
فرانسيس، بشرط اختفاء الصغير من حياة الأسرة، بحيث يبدو الأمر أمام الوالدين كأن
الطفلين قد ارتاحا لبعضهما. لكن فرانسيس يستعين بشقيقه العملاق غليظ الطباع يوجين
(صوت كونراد فيرنون) على مقاومة محاولات الطفلين تخريب شركة الكلاب، حتى أن يوجين
يتنكر في هيئة جليسة أطفال قاسية لكي يمنعهما من الاستمرا في المحاولات. وأثناء
هذه المطاردات، يتقن تيم قيادة الدراجة التي كان يستعين فيها بالعجلات الجانبية
لحفظ توازنه، وكأن ذلك إشارة لاكتسابه مهارات جديدة، والأهم هو أنه يستخدم صيغة
الجمع مع أخيه: "لقد نجحنا".
في المشهد الأخير نرى سيقان كل من الشقيقين تيم وتيد وقد
أصبحا رجلين بالغين، وقد أنجب تيم ابنة صغيرة، تنتظر هي الأخرى قدوم شقيقة صغرى
لها، تتبدى في نظرها كأنها "طفلة مديرة"، فكأن القصة سوف تعاد من جديد،
لأنها القصة الازلية لغيرة الطفل الأول من الطفل الثاني، الذي يصبح كأنه مدير لأنه
يستأثر باهتمام الوالدين، لكي تتحول هذه الغيرة مع الأيام إلى حب.
في الفيلم الذي أخرجه توم ماجارث، عن سيناريو
مايكل ماكلرز، لكتاب القصص المصورة من تأليف ورسوم مارلا فريز، هناك لقطات قصيرة
بالغة الدلالة، فحين يكون تيم هو الطفل الوحيد لوالديه يقول إن أكثر الأشكال
الهندسية ثباتا هو المثلث، وعندما يبدو أن المثلث قد اعتراه الااضطراب بسبب قدوم
شخص رابع، يتحول الشكل شيئا فشيئا إلى قلب، وذلك كما يقول الفيلم هو معنى
"الأسرة".
No comments:
Post a Comment