من أجمل حكايات عالم "الحواديت" الخيالية يأتي
فيلم "الجميلة والوحش" Beauty and the Beast،
مرة أخرى من شركة ديزني التي سبق لها أن قدمت نفس الحدوتة في فيلم من أفلام
التحريك، لكنها هذه المرة تصنعه بالتمثيل الحي، الممتزج بصور كومبيوترية تليق
بتقدم التقنيات في هذا المجال، تصور "الأشياء" المنزلية وهي تنطق
وتتحرك، لتزيد الإحساس بجمال الخيال. لكن هذا في الحقيقة ليس أهم ما في فيلم
"الجميلة والوحش"، وإنما استخراجه للقيم الإنسانية الرائعة والنبيلة، من
أجل تقديمها إلى جمهور السينما من المراهقين بشكل خاص، وإن لم تقتصر متعة المشاهدة
عليهم أبدا.
تعود قصة "الجميلة والوحش" إلى الكاتبة
الفرنسية من القرن التاسع عشر جان ماريه لوبرينس دوبومون، وربما كانت الرواية في
شكلها الأدبي تفتقر إلى بعض المواضعات الروائية التي تطورت في القرن التالي، لكنها
تحتوي وبشكل فطري وممتع على الكثير من تيمات وموتيفات الحواديت. والأهم هو مضمونها
الراقي، الذي يتحدث على نحو ناعم رقيق عن أن الإنسان لا يجب أن ينخدع بالمظهر،
فربما وجدت في أعماق شخص يبدو لك قبيحا شخصية تتمتع بالنبل، وأنت وحدك قادر على أن
تُطلق هذه الروح الخيرة الخفية من عقالها، من خلال القوة السحرية للحب.
فلنتأمل معا الخطوط الرئيسية للحدوتة كما رواها الفيلم،
الذي أخرجه بيل كوندون، عن سيناريو لكل من ستيفن شوبسكي وإيفان سيبيليوتوبولوس،
ويبدأ بمشاهد شديدة البلاغة والاختصار، كما لو كانت ضربات فرشاة سريعة يرسم بها
الشخصيات الأساسية، دون أن يفقد القدرة على النفاذ إلى أعماق هذه الشخصيات. نحن في
البداية مع أمير شاب (دان ستيفنس)، من الواضح أنه مدلل إلى حد عدم إحساسه بآلام
الآخرين، إنه يقيم في قصره الذي يشبه القلعة احتفالا باذخا، لكن فجأة ينفتح باب
القصر، وتبدو في الخارج عاصفة هوجاء، تدفع امرأة عجوزا للدخول طالبة أن تجد ملجأ
لدى الأمير من تلك العاصفة، فيطردها هازئا، لتتكشف الحقيقة: إنها ساحرة كشفت عن أن
الأمير لا يتمتع بروح إنسانية عطوف، فتلقي عليه تعويذة تحيله وحشا دميما، كما تحول
خدمه في القصر إلى أشياء: ساعة أو دولابا للملابس أو آلة موسيقية، وتجعل القصر
مهجورا ومغطى بالثلوج طوال العام، كما تمحو ذاكرة أهل القرية القريبة عن أميرهم،
وتضع لزوال هذه التعويذة شرطا واحدا: سوف تترك وردة تسقط وريقاتها الواحدة بعد
الأخرى، ولن يعود الأمير إلى هيئته الأولى إلا إذا وجد من يحبه قبل أن تسقط
الوريقة الأخيرة، وإلا فإنه سوف يظل وحشا إلى الأبد.
هذا مشهد تأسيسي واحد، يرسم ملامح أمير لا يبالي
بالضعفاء، فنال عقابه بأن تجسدت وحشيته في هيئته، والحب وحده هو الذي سوف ينقذه،
ولكي يجد من يخلصه من التعويذة عليه أن يحب لكي يصبح محبوبا. ثم يأتي المشهد
التأسيسي الثاني، مع الفتاة الجميلة بيل (إيما واطسون)، والذي يعني اسمها
"الجميلة"، إنها تعيش في قرية صغيرة لكنها تبدو غير مقتنعة بأن تقضي
حياتها كالقرويات الأخريات ذوات الطموح المحدود، وهي تعشق القراءة، وتعيش في سعادة
مع أبيها العجوز موريس (كيفن كلاين)، الذي يتقن صنع وإصلاح الآلات الصغيرة، وسوف
نعرف لاحقا أنه أتى بابنته بيل وهي طفلة إلى هذه القرية الصغيرة، هربا من باريس
التي اجتاحها الطاعون، ذلك الوباء الذي لفظت بسببه أمها أنفاسها الأخيرة.
وبقدر براءة بيل وجمال روحها، يظهر لها خطيب شاب كان
ضابطا سابقا هو جاستون (لوك إيفانز)، الذي يبدو على النقيض منها تماما، متغطرسا
نرجسيا، متجردا من التواضع والتعاطف مع الآخرين، وهو ما يدفعها بالطبع إلى رفضه،
ليظل يلاحقها بغلظته بل مؤامراته ضدها وأبيها أيضا، يساعده في ذلك تابع ذليل يدعى
لوفو (جوش جاد)، الذي يعنى اسمه "العبيط". وهكذا اكتمل رسم الشخصيات
الرئيسية في أقل من عشر دقائق، لتبدأ الحبكة تغزل خيوطها المشوقة، التي نعرف مسبقا
– وبمنطق الحواديت – أن الجميلة هي التي سوف تنقذ الوحش في النهاية، ولكن بعد
أحداث ممتعة، خاصة مع تجسيد الفيلم للعديد منها على نحو بصري مبهر.
في البداية، سوف يمضي الأب موريس في الغابة أثناء عاصفة
يطارده فيها الذئاب، فتنتهي به قدماه إلى القصر (القلعة) الذي كان أهل القرية قد
نسوا وجوده، بسبب تعويذة الساحرة. ولأن الوحش يغضب من هذا العجوز الذي اقتحم القصر
فإنه يقوم بسجنه، بينما تعرف الجميلة بالأمر بعد أن يعود الجواد الذي كان يركبه
الأب وحيدا، فتمتطي الجواد وتنطلق إلى القصر، حيث تعرض على الوحش أن يسجنها هي
مقابل إطلاق سراح أبيها، الذي يعود إلى القرية على أمل أن يجمع أهلها لإنقاذها.
إن فتاة تتمتع بروح شفافة مثل بيل سوف تصبح صديقة
للأشياء التي تمثل خدما وقعوا تحت تأثير التعويذة، وهي تشاركهم الرقص والطعام في
مشاهد ساحرة، حتى تأتي "موتيفة" تشترك فيها معظم الحواديت، فهناك غرفة
محظور على أحد الدخول إليها، لكن الفضول يدفعها إلى هناك، حيث تجد الوردة التي
تركتها الساحرة وقد بدأت وريقاتها في الذبول. لكن اقتحامها الغرفة يثير غضب الوحش،
مما يدفعها للهروب من القصر وسط الثلوج، حيث تجد نفسها محاصرة بالذئاب، لكن الوحش
يظهر إذ كان يتعقبها خوفا عليها، وينقذها من وحوش الغابة، ولكنه يصاب بجروح بالغة.
إذن لقد بدأ الوحش يهتم بالآخرين، ويلقى الألم نتيجة
ذلك، غير أن هذا الأمر سوف يدفع الجميلة بالطبع إلى العودة به إلى القصر،
والاعتناء به وبجروحه حتى يشفى، مما يخلق بداخله مشاعر الحب تجاهها، لكن سوف يبقى
السؤال: هل سوف تبادله هي أيضا الحب لكي يزول عنه أثر التعويذة السحرية؟ إنها
تكتشف أنه أمير مثقف، يفتح أمام أعينها أبواب مكتبته العامرة، التي تشمل كتبا أكثر
نضجا مما كان متاحا لها من قبل. كما يعرض لها كتابا سحريا ينقلها إلى حيث تفكر،
فإذا بها تعود معه إلى لحظة فراق أمها المريضة، لتدرك السبب في أن أباها حملها إلى
هذه القرية المنعزلة خوفا عليها.
وفي الوقت الذي تنعم فيه الجميلة بتلك الأوقات مع الوحش،
يقود الخطيب جاستون أهل القرية إلى رفض مساعدة الأب موريس على استعادة الجميلة إلا
إذا وافق على زواجه بها، ولأن الأب يرفض فإنه يدبر المؤامرات ضده، إذ يلقي به مرة
مقيدا في الغابة لتأكله الذئاب، لكن الناسكة أجاثا (هاتي موراهان)، التي سوف يتضح
لاحقا أنها الساحرة، سوف تنقذه، فيتهمه بالجنون، وعندما ترى الجميلة ذلك من خلال
مرآة سحرية تعود لمساعدة الأب، لكي يلقي بها جاستون مع أبيها حبيسة في "عربة
المجانين"، بينما يقود أهل القرية لقتل الوحش في قلعته.
كالعادة في حكايات الحواديت، تأتي المعركة الأخيرة بين
الخير والشر، والمفارقة هنا هي أن الوحش يمثل الخير، بينما جاستون يمثل الشر،
تأكيدا على أهمية الجوهر على المظهر. وإذ يلقى جاستون حتفه في المعركة، يكاد الوحش
أيضا أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعي الجميلة، التي تصارحه بحبها له قبل ثوانٍ
من سقوط آخر وريقة من الوردة، وتظهر الناسكة الساحرة، لتعيد الأمير إلى هيئته، وقد
عادت إليه مشاعره الإنسانية المتعاطفة تجاه الآخرين، وصار محبا محبوبا!
لا يكمن جمال الفيلم فقط في إبهاره البصري، وأغنياته
المبهجة، وشخصياته المرسومة برقة ودقة، وبلاغة سرده بعيدا عن أي استطرادات تثير
الملل، وإنما الجمال أيضا في الإشارة الضمنية – دون نصائح مباشرة على الإطلاق –
إلى القيم الرفيعة. إن "التضحية" هي التي قادت الجميلة في الحبكة إلى
لقاء الوحش إنقاذا لأبيها، وهي لا تستطيع أن تتأكد من مشاعرها تجاه الوحش وهي
أسيرة لديه، لأن الحب وليد الحرية، كما أن من الممكن تماما للحب أن يستخلص من
النفس البشرية أنقى وأنبل ما فيها من مشاعر وعواطف.
وأرجو أن تتأمل تلك القيم التي تتوجه إلى جمهور
المرهقين، فالحدوتة في مجملها تكاد أن تكون تلخيصا لما يسمى في علم النفس
"طقوس العبور"، أي آلام الانتقال من الطفولة إلى النضج، قد يفقد فيها
المرء البراءة، لكنه يكتسب الحكمة والقدرة على التعامل مع الحياة. كما تعطي
الحدوتة أملا في "التغيير"، فلابد أن يأتي الربيع بعد الشتاء، وعلى
المراهق ألا يساوره القلق أبدا حين يبدو مختلفا عن الآخرين، مثلما بدت الجميلة
مختلفة عن فتيات القرية في أحلامها واهتماماتها. إنها القيم النبيلة التي نسعى
إليها في الحياة، ونبحث عنها في الفن، وذلك بلا شك هو أحد أسرار فن السينما، الذي
يجعل من الخيال واقعا، ومن الواقع خيالا.