جاء علينا فى مصر حين من الوقت، ظهرت فيه تجربة رائدة فى
السينما المصرية، لكنها لم تستمر إلا فى أفلام محدودة، رغم أنه كان من الممكن أن
تمثل حلا لجانب من أزمات السينما فى بلادنا، وكانت تلك التجربة هى صنع أفلام
روائية قصيرة يربطها موضوع واحد، بحيث تشكل معا مادة سينمائية تصلح لعرض طويل فى
السينما التجارية، وذلك على نحو ما جاء فيلم "البنات والصيف" على سبيل
المثال، كما أنها كانت التجربة الأنسب أيضا لمنح المخرجين الجدد فرصة الإخراج لأول
مرة، مثلما كان حال فيلم "3 وجوه للحب".
الغريب أن السينما العالمية تلجأ إلى هذا الشكل كثيرا، بدءا
بأفلام من هذا النوع لمخرجين كبار من أمثال دى سيكا أو ماكس أوفولس، لكننا الآن
سوف نتأمل معا فيلما طويلا ضم ثمانية عشر فيلما روائيا قصيرا، يجمع بينها أن قصصها
جميعا تدور فى مدينة باريس، وحمل هذا الفيلم عنوان "أحبك يا باريس"
(2006). وربما يمكنك القول أحيانا أن بعض هذه القصص يمكن أن تحدث فى مدن أخرى، أو
أنها تجمع بين تجارب مغرقة فى الاستغراب والاغتراب، وأخرى بالغة الرقة فى
واقعيتها، لكنها على اختلافها تصنع لوحة من الفسيفساء للمدينة، التى نراها فى
الخلفية دائما من الأحداث، أو كمقاطع تفصل بين كل قصة وأخرى.
وما دام الحديث عن باريس، وتصورنا الشائع عنها أنها
مدينة الثقافة والمثقفين، يمكننا أن نبدأ مع فيلم المخرج الأمريكى جاس فان سانت،
حيث نرى عاملا فى مطبعة، يصادفه مترجم جاء فى عمل، ليشعر هذا المترجم على الفور
كأنه رأى العامل الشاب من قبل، ليحدثه بالفرنسية حديثا طويلا عن توأمة الروح
بينهما، وعندما يمضى المترجم على أمل اللقاء مرة أخرى مع الشاب، نعرف أن هذا
الأخير لم يفهم كلمة واحدة من هذا "المونولوج" الطويل، لأنه لا يعرف
الفرنسية.
لكن باريس ليست فقط بلد الغرائب والعجائب فيما يخص
الثقافة والفن، ففيلم الأخوين الأمريكيين إيثان وجويل كوين يُظهر الوجه الآخر
السوقى والعنيف للمدينة. إن سائحا أمريكيا (ستيف بوشيمى) يجلس فى محطة المترو،
متصفحا ما جمعه من تذكارات بعد زيارة متحف اللوفر، ليظهر طفل يضايقه بلسعات
أنشوطته، كما يرى على الرصيف المقابل عاشقان يتبادلان القبل، ليرتكب خطأ لا يُغتفر
فى باريس! فقد كان عليه أن يحذر من أن تلتقى نظراته بنظرات هذين العاشقين، ليكون
عقابه علقة ساخنة من الفتى العاشق، مع قدر هائل من الشتائم والبذاءات السوقية،
وتتناثر على الأرض البطاقات السياحية للوحة "الموناليزا" وقد علت وجهها
البثور!
فى هذين النموذجين المتناقضين تلاعب بعنصر المفاجأة، وهو
بلا شك أحد العناصر المهمة التى تميز روح "القصة القصيرة"، لذلك سوف
تحمل العديد من القصص مفاجآت أخرى، ولكن بمسحة مختلفة تتباين من فيلم إلى آخر.
أنظر مثلا لفيلم المخرج ألفونسو كوارون (الذى صنع فيلم "جاذبية" من أول
دقيقة لآخرها بالخدع السينمائية)، وهو يجعل فيلمه القصير هنا لقطة واحدة متصلة دون
قطع واحد، وهو الأمر الذى يتطلب بالطبع امتلاكا لدقة "الميزانسين"
وارتجال التمثيل، فالكاميرا تراقب من الرصيف المقابل للشارع رجلا كهلا (نيك نولتى)
يسير إلى جوار امرأة شابة، وينصحها بأن تتحرر من عبوديتها لشخص يدعى
"كاسبار" لكى تستمتع بحياتها، ليبدو لنا الأمر أنهما عاشقان يختلسان
لحظات من وراء الزوج، لكن اللقطة الطويلة تنتهى مع عبور الكاميرا للرصيف المقابل،
وتقف عند عربة طفل رضيع، لنعرف أن الرجل ليس إلا والد المرأة، وأنه جاء لرعاية حفيده
حتى تتمكن الأم من الذهاب إلى السينما!
وقريبا من هذه الأجواء يأتى فيلم المخرج الألمانى توم
تايكفر (صاحب فيلم "العطر")، عن شاب أعمى يتلقى من حبيبته مكالمة تتحدث
فيها عن أن الربيع بينهما قد انتهى، لتنفجر ذكرياته معها، وتتجسد على نحو بالغ
التأثير فى لقطات احتضانهما معا فى الأماكن العامة، بينما يسير كل شىء حولهما
بسرعة مذهلة، لتأتى المفاجأة أخيرا أيضا، فالفتاة ممثلة كانت تطلب رأى حبيبها فى تدربها
على إلقاء عبارات من دورها الأخير. وإذا كانت البطلة هنا هى الممثلة الشابة ناتالى
بورتمان (التى اشتركت بالإخراج أيضا فى فيلم عن مدينة نيويورك سوف نتأمله فى
المقال القادم)، فإن ممثلة بخبرة وإبهار جولييت بينوش تقوم ببطولة فيلم من إخراج
نوبوهيرو سوا، هذه المرة فى أجواء الواقعية السحرية، لأم فقدت طفلها ولا تستطيع أن
تنساه، بينما تتذكر كيف أن الصبى كان يشتاق لرؤية رعاة البقر. إنها تخرج فى الليل
لترى فى الساحة الخالية راعى بقر (ويليم دافو)، يظهر من المجهول، ويسمح لها بأن
ترى ابنها للمرة الأخيرة وهو يلعب مع بعض الرفاق، لتبدو وقد تلقت قدرا من السلوى
والسلوان. وفى هذا العالم السحرى ذاته، يأتى فيلم المخرج ويز كرافين عن خطيبين على
وشك الافتراق وهما فى مقابر العظماء فى باريس، لأن الفتاة تشكو من أن فتاها يفتقد
روح الفكاهة، ليظهر شبح أوسكار وايلد ينصحه باللحاق بها، فكأن الشاب قد تعلم من
وايلد كيف يكون تأثير خفة الظل على العلاقات الإنسانية.
أما فيلم المخرج البرازيلى والتر ساليس (صاحب فيلم
"المحطة المركزية")، فإنه يصطبع بتلك الروح الواقعية الاجتماعية
الأسيانة التى تميز معظم أفلام أمريكا اللاتينية. هناك أم تهدهد طفلها الرضيع فى
الفجر، وتغنى له أغنية مهد إسبانية، وتحتضنه لتمضى فى الصباح وتتركه فى حضانة،
وتذهب لعملها الذى نكتشف أن عليها فيه أن ترعى طفلا آخر من أبناء الأغنياء، تغنى
له الأغنية ذاتها التى حُرم ابنها منها.
هل تعطيك باريس حقا ما كنت تطلبه منها؟ إنها أحيانا
تفاجئك بأحداث سارة، وأحيانا أخرى تخيب ظنك، وقد لا تمنح السعادة إلا لمن يملكون
دفع نفقاتها. إنها مدينة مثل كل المدن، ومختلفة عن كل المدن، لذلك فإن الفيلم
ينتهى بما يشبه "الكودا" فى الموسيقى، للشخصيات التى رأيناها فى الأفلام
القصيرة، تقضى حياتها وسط الزحام لكنها تشعر بالوحدة، ونراهم كأنهم يلوحون بأيديهم
لبعضهم البعض من بعيد، ربما على أمل اللقاء فى فيلم آخر، مثل "أحبك يا
نيويورك"، الذى تحقق بالفعل بعد عامين، وما تزال هناك مدن أخرى، فمتى يأتى
أوان القاهرة؟
No comments:
Post a Comment