من المضحكات المبكيات فى مفاهيمنا الثقافية المصرية
الشائعة، أنك عندما تذكر كلمة "سينما"، يرد إلى الخاطر على الفور الفيلم
الروائى الطويل، ذو المواصفات التجارية التى ترشحه للوصول إلى دور العرض، بينما
تغيب عنا أنواع أخرى من السينما فى مصر، فأين الفيلم الروائى القصير، وأفلام
التحريك (التى نسميها خطأ "أفلام الكارتون")، والسينما التسجيلية، وقد
لا أجرؤ أن أقول السينما التجريبية أيضا؟
بل إن هناك لدينا خطأ آخر فى توصيف الفيلم الصالح للعرض
التجارى، فكل الأنواع الأخرى من السينما أصبحت (وربما كانت على الدوام) تجد طريقها
إلى دار العرض، ولو راجعت قائمة الأفلام الأمريكية المعروضة تجاريا كل أسبوع، فمن
المؤكد أنك سوف تجد أكثر من فيلم تسجيلى واحد، ولم تكن أفلام مايكل مور السياسية
اللاذعة وحدها هى التى حققت إيرادات هائلة، بل كانت هناك أفلام يمكن أن تصفها
بأنها "علمية" نالت نجاحا نقديا وتجاريا بالغا، مثل "الهجرة
المجنحة" أو "مسيرة البطاريق".
ومن المؤسف أن ذلك يحدث بينما يردد بعض نقادنا بينهم
وبين بعضهم أن "السينما التسجيلية فى العالم قد ماتت"، ويكتفون بأن
يكتبوا مطولات عن أكثر الأفلام المصرية والأجنبية التجارية رداءة. والأكثر للأسف
أن هذه السينما عندنا قد أصبحت يتيمة بالفعل، لا تجد من يهتم بها، بعد أن شهدت
فترات من الازدهار والتنوع، اللذين تركا أثرهما الإيجابى على السينما الروائية
ذاتها.
وبينما نجد بعض المشتغلين بصناعتنا السينمائية يتوجهون
لـ"الدولة" بطلبات يقولون أنها تصب فى مصلحة السينما المصرية، فإننا
مثلا لا نجدهم يلمسون بعض الأسباب الحقيقية لأزمتها، مثل احتكار البعض للإنتاج
والتوزيع والعرض (وهذا موضوع يحتاج إلى تناول أكثر تأملا وتفصيلا)، كما نجدهم أيضا
يقصدون حلولا "مالية" عاجلة، دون الحديث عن إصلاحات فى بنية الصناعة
ذاتها، وهو الأمر الذى لا يمكن أن تقوم به – فى ظل سياسة "إكسب واجرِ"
التى سادت اقتصادياتنا بلا استثناء – إلا الدولة، وعلى رأس قائمة هذه الإصلاحات،
والتى لا تتطلب أموالا طائلة أو جهودا خارقة، وضع سياسة تنقذ السينما التسجيلية
المصرية من عثرتها.
ربما يتذكر بعض من تقدم بهم العمر مثلى، وكما روى لى
المخرج الكبير الراحل توفيق صالح، أن السينما المصرية قد واجهت أزمة فى أواخر
الخمسينيات، كان سببها محاولة بعض الدول العربية كسر شوكة الاتجاهات التقدمية فى
مصر، فتوقفت هذه البلدان عن توزيع الأفلام المصرية بها لفترة من الوقت، وتقدم
السينمائيون بشكواهم إلى عبد الناصر، وكانت إحدى الحلول التى لجأ إليها، حتى قبل
إنشاء مؤسسة السينما، ولكى يوفر عملا للسينمائيين، أن تكلفهم الدولة بصنع أفلام
تسجيلية قصيرة، وكانت النتيجة رصيدا لا يقدر بثمن، من الناحية الجمالية والسياسية
معا، من أفلام صنعها كبار مخرجى السينما الروائية آنذاك.
بعدها بسنوات، أنشأ الراحل شادى عبد السلام وحدة تابعة
للدولة، تخصصت فى إنتاج الأفلام التسجيلية، كما ازدهرت حركة مستقلة موازية، يدفعهم
جميعا فهم وتقدير عميقان للدور الاجتماعى والسياسى والفنى لهذه السينما، ويمكن أن
يقول المرء باطمئنان كبير أن تلك الموجة هى التى أنقذت الثقافة السينمائية المصرية
خلال السبعيينيات، من حالة تجريف طالت جوانب ثقافية أخرى، وأنها هى التى أنجبت
بعضا من أهم مواهب السينما المصرية خلال العقود التالية.
ولأن ما تبقى لدى أجيالنا الحالية من مفهوم عن السينما
التسجيلية، أنها تلك "التقارير" التى يتحدث فيها بعض المشاهير أو العامة
للكاميرا أو لمن يحمل "الميكروفون"، أو أنها تلك الشرائط التى تصور
الشوارع أو الحقول، بينما نسمع صوت تعليق رتيب لا يتوقف، فإن من الضرورى أن نتوقف
قليلا لنتذكر التنوع بالغ الثراء الذى كانت عليه سينمانا التسجيلية، من خشونة
واقعية ممزوجة بنظرة إنسانية أسيانة عند عطيات الأبنودى، إلى شاعرية غنائية صافية
عند هاشم النحاس، ونزعة تجريبية وسياسية جريئة عند داود عبد السيد، واقتراب حميم
من مناطق الإبداع الإنسانى فى ظروف صعبة عند خيرى بشارة، وعشرات غيرهم قد تعجز هذه
السطور القليلة عن حصرهم وإعطائهم حقهم.
ولعل المبرر الممل الذى تسمعه دائما لفقداننا السينما
التسجيلية هو عدم وجود منافذ للعرض، لكن لماذا لا ينطبق هذا المبرر على السينما
التسجيلية فى البلدان الأخرى؟ بل الأمر على العكس تماما، فقد كان وجود عشرات أو
حتى مئات القنوات التليفزيونية الفضائية سببا فى انتعاش هذه السينما، فلماذا لا
يحدث ذلك عندنا؟ يثير هذا السؤال شجونا عميقة حقا، حيث يكشف عن أننا قد أصبحنا لا
نعبأ كثيرا بمعرفة الواقع معرفة صادقة بغرض تغييره، لكننا نتعامل معه للتجارة به،
وهذا يعنى من جانب آخر أننا أصبحنا نفكر بطريقة "التمنى" أكثر من
تفكيرنا بطريقة المواجهة، وأقول "أصبحنا" لأن من المفترض ألا نكون قد
وصلنا إلى ذلك الطريق المسدود.
وأنا أعلم أن هناك مشكلات إجرائية حكومية تواجه من يحاول
أن يصنع فيلما تسجيليا، لكن لماذا لم يكن ذلك من بين هموم السينمائيين التى يسعون
لحلها مع "الدولة"؟ والنتيجة التى سوف يقرأها كثيرا من يهتم بهذه
السطور: إننا نعيش حالة الاكتفاء بالنفس دون سبب، وأننا قانعون بما نعرف وما نصنع دون
طموح حقيقى. إننا نعيش ثقافيا فى "حارة" معزولة عن العالم، راضين
بأفلامنا ورواياتنا وأشعارنا، بينما لم يبق لدينا إلا صلة واهية بالسينما والرواية
والشعر، وربما يكون هذا حكما قاسيا، لكننا لن نرى أى طريق للخروج من الحارة إلا
إذا فتحنا العيون.
No comments:
Post a Comment