Friday, August 29, 2014

فيلم "وهلأ لوين"... أنشودة فى عشق الحياة




ما كل هذه البهجة فى الفيلم اللبنانى "وهلأ لوين"؟ وما كل هذا الحزن؟ مصدر السعادة والألم فى هذا الفيلم، الذى أخرجته نادين لبكى فى عام 2011، هو حب جارف للحياة، حب تقف فى طريقه نزعات طائفية تشبه كثيرا، كثيرا جدا، ما يحدث لنا فى منطقتنا العربية اليوم. وهو فيلم بالغ البساطة والعمق معا، يكاد أن يكون درسا بليغا لصناع السينما المصرية فى كبوتها الحالية، أن الأفلام يمكن أن تصنع، أو ينبغى أن تصنع، دون اللجوء للابتذال تحت اسم الكوميديا، أو العنف بحجة الإثارة و"الأكشن"، أو الفظاظة والمبالغة بدعوى الواقعية.
وإذا كان فيلم "وهلأ لوين" على المستوى الواقعى يدور فى قرية لبنانية تبدو معزولة عن العالم، لوقوعها بين الجبال، ويتعايش فيها المسلمون والمسيحيون فى سلام حقيقى، فإن الفيلم ينتمى – دون أى إفراط – إلى الفانتازيا، ليس فقط لأن كثيرا من أحداثه تبدو للوهلة الأولى عصية على التصديق، وإنما لأن "أسلوب" الفيلم ذاته يوحى بذلك. وقد يتصور البعض أن هناك أغنيات متناثرة هنا وهناك على طريقة السينما العربية التقليدية، لكن الحقيقة أن الغناء والرقص هنا يصبحان أحيانا لغة الحوار والتعبير، فى تأكيد فنى مرهف على الخيال الذى يرتكز عليه الفيلم وأحداثه.
وسوف تلاحظ هذا الحس الفانتازى مع مشهد البداية: مجموعة من النساء المتشحات بالسواد، تسرن فى خطوات إيقاعية تتمايل يمينا ويسارا، وهن تضربن الصدور بالأيدى. إنهن فى صحراء بلا نهاية، تنتهى إلى المقابر المتواضعة للقرية، وكل امرأة تمسك بصورة فوتوغرافية لفقيدها، وإذا تأملت شواهد القبور سوف تلاحظ أنها لمسلمين ومسيحيين على السواء، فى تجاور يبعث على الشجن الذى تؤكده الموسيقى المصاحبة على نحو عميق.
سوف يتكرر هذا المشهد فى النهاية، كأنه مع مشهد البداية يصنعان قوسين يضمان عالم الفيلم، وهو عالم لحمته وسداه فكرة بسيطة وعميقة معا: النزاعات بين أهل الوطن الواحد تنشأ كثيرا بلا سبب حقيقى، ليغذيها الرجال باسم الدفاع عن الشرف والدين، بينما النساء تعملن على إطفاء لهيب هذا النزاع بكل وسيلة ممكنة. ولا أحب أن أسمى ذلك نوعا من النزعة "النسوية"، التى تصنع صراعا أزليا أبديا بين الرجل والمرأة، بما يبتعد عن عن تحرير الرجل والمرأة معا، لكن الصراع هنا بين من يهب الحياة، ويعرف قيمتها حقا، ومن يتصور أن القتل والانتقام هو الوسيلة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة.
إن أهل القرية يستعدون لتركيب أول طبق لاقط للقنوات الفضائية، ربما يجعلهم يتصلون بالعالم الخارجى، الذى يفصلهم عنه ويصلهم به ممر ضيق بين الجبال، مزروع بالألغام. ويعيش جميع أهل القرية فى جو احتفالى بهذه المناسبة، وتقوم صاحبة مقهى القرية أمال (نادين لبكى) بتجديد مقهاها، لنلمس على الفور مشاعر الحب الرقيقة بينها وبين عامل الطلاء رابح (جوليان فرح)، وسط مباركة الجميع – خاصة النساء – لهذا الحب، رغم اختلاف دينها ودينه. فالقرية (الفانتازية كما اتفقنا) لا تعرف التقسيم الطائفى، والقس والشيخ فيها متحابان بحق، بقدر حبهما للحياة، لذلك سوف يحضران مع أهل القرية جميعا الاحتفال بمشاهدة التليفزيون لأول مرة.
بالطبع سوف يشعر جمهور شباب القرية بالابتهاج عند مرأى مشهد عاطفى ملتهب على الشاشة الصغيرة، لكن سرعان ما تشعر النساء بالقلق من نشرة الأخبار، التى تنقل أنباء المعارك الطائفية فى أماكن أخرى فى البلاد، لتقررن تخريب التليفزيون، وقطع أسلاك الراديو، وحرق الصحف التى يجلبها اثنان من الصبية من المدينة. لكن حادثا عارضا سوف يؤدى إلى تكسير الصليب فى الكنيسة، كما يدخل قطيع من الماعز إلى المسجد، ليثور الرجال من الطرفين، مما يزيد قلق النساء من اندلاع لهيب النزاع بين الطائفتين.
إنهن تفكرن فى أمر ما قد يطفئ هذه النيران، فتدبرن "تمثيلية" (لا تخلو من روح فكاهة بريئة صافية) تقوم فيها زوجة مختار القرية بادعاء أن السيدة مريم العذراء تتحدث من خلالها، بينما تبدو دمعتان من الدم فى عينى تمثال العذراء، التى تأمر الرجال بالاعتذار لبعضهم البعض. لكن ذلك قد يفلح لفترة من الوقت قبل تجدد الخلافات بين الرجال، وهنا يأتى التطور المفعم بالنشوة، حين تقرر نساء القرية دعوة فريق من الفتيات الأوكرانيات الحسناوات اللاتى تخلقن حالة من البهجة بين الرجال، تصل إلى ذروتها عندما يضع النساء مخدرا للرجال فى الطعام والشراب، يجعلهم يعيشون ليلة من الاستمتاع الكامل بالحياة.
تأمل كيف أن نساء القرية تشعرن بمزيج من الفرح والغيرة معا، الفرح لأن رجالهن نسوا النزاع، والغيرة لأنهم مشغولون بنساء أخريات. لكن الصراع يتفجر عندما يعود أحد الصبيين من المدينة صريعا، لتخفى أمه جثمانه عن الأنظار وهى تتمزق ألما، لأنها لا تريد مزيدا من الدماء فى القرية. وتتشارك النساء فى إخفاء الأسلحة فى حفرة، وتقررن أمرا... فعندما يصحو الرجال من النشوة المخدرة فى الليلة السابقة، يجد كل منهم امرأته وقد بدلت دينها... فهل تصبح عندئذ عدوة للزوج أو الابن؟
المذهل فى هذا العالم الفانتازى هو واقعيته الشديدة، ساعد على ذلك ممثلون يصلحون أن يكونوا درسا حقيقيا للكثيرين من ممثلينا الجدد الذين تسوقهم أحلام النجومية الزائفة، فالوجوه فى "وهلأ لوين" عادية تماما، تشعر أنك قابلتها ذات يوم فى حياتك اليومية، والأداء التمثيلى بالغ البساطة والإقناع، رغم وجود لحظات درامية عاصفة، مثل مشهد أم الصبى القتيل وهى تعاتب السيدة العذراء: "تاخدى العيال بدون ما تسألى؟ إنتى ابنك مالى إيديكى، وأنا ابنى وين؟"....
لقد كان ما يزال أمام أهل القرية مهمة دفن الصبى، فيمضون إلى المقابر وسط موسيقى تمزج على نحو رائق وراقٍ بين التراتيل والأذان، لكنهم يتوقفون ويتراجعون عندما تعلو أصوات الانفجارات من بعيد، ويتساءلون: "وهلأ لوين؟". نعم، إلى أين نمضى الآن؟ فهناك طريق للموت، وآخر للحياة، فأيهما نختار؟                                                   


No comments: